أولويات لبنان غير أولويات المجتمع الدولي

هل يعقل أن يطلب من دولة لبنان المفككة أن تنفذ ما لم تنفذه القوات الأميركية والأطلسية وإسرائيل ضد "حزب الله" في جنوب لبنان وفي سوريا والعراق واليمن؟

مثل المواطنين اللبنانيين، الدول الصديقة ضاقت بالدولة اللبنانية ذرعا. وإذا كان الشعب لا يحاسبها، فتلك الدول تجازيها. فخلافا لتصاريح المناسبات المعسلة، الولايات المتحدة تسألنا كيف نحافظ على المساعدات العسكرية بعيدا عن رصد "حزب الله"؟ والأمم المتحدة تسألنا كيف ننفذ القرارات الدولية في الجنوب وعلى الأراضي اللبنانية كافة؟ وفرنسا تسألنا ماذا نفعل بـ"مؤتمر سيدر" لأن الدول المانحة عيل صبرها من طول الأزمة الحكومية؟ والاتحاد الأوروبي يسألنا كيف نوزع مخصصات المشاريع التنموية وسط المحاصصة الطائفية؟ وصندوق النقد الكويتي يسألنا ماذا نستوعب من القروض الميسرة الجاهزة في الصندوق والمختلف عليها في لبنان؟ حتى روسيا وإيران تسألاننا لماذا نتكبر على الهبات العسكرية؟

قريبا، ستصدح أصوات مسؤولين أميركيين وأوروبيين تطالب بإعادة النظر في المساعدات المقترحة للدولة اللبنانية. وقريبا ستنظر الإدارة الأميركية في برامج تسليح الجيش اللبناني. وقريبا ستأخذ العقوبات الدولية على "حزب الله"، في طريقها، بعض المؤسسات الدستورية اللبنانية. وقريبا ستصدر مواقف دولية صارمة تدعو الدولة اللبنانية إلى الفصل الجدي بينها وبين "حزب الله" وإلى التزام سياسة وطنية شفافة ترتكز على الحياد قولا وفعلا. وقريبا ستصدر مواقف أميركية رسمية تحث الاتحاد الأوروبي على تصنيف "حزب الله" إرهابيا. وقريبا قد تضطر واشنطن إلى عدم التمييز بين الدولة اللبنانية و"حزب الله". وقريبا ستحاول بعض السفارات تحريك الشارع في لبنان عبر جمعيات وأحزاب مستحدثة لهذه الغاية. وقريبا ستأخذ التهديدات الإسرائيلية ل"حزب الله" ولبنان منحى آخر.

لكن غالبية هذه التحولات تبقى مع وقف التنفيذ بانتظار معرفة هوية الحكومة اللبنانية المرتقبة. فالدول الصديقة لا تريد أذية لبنان، ولا تزال تمدد فترة السماح قبل حسم مواقفها العقابية. فإذا ارتاحت إلى توازنات الحكومة ومكوناتها وخياراتها وبيانها الوزاري، تواصل دعم الدولة اللبنانية. إما إذا وجدت في الحكومة المنتظرة امتدادا دستوريا للمحور السوري/الإيراني، فالدعم يصبح مسألة فيها نظر.

الأسبوع المنصرم كادت واشنطن أن تلغي زيارات كبار مسؤوليها العسكريين إلى بيروت لو لم تتدخل السفيرة إليزابيث ريتشارد وتقنع إدارتها بضرورة الحفاظ حاليا على نمطية العلاقات الثنائية، خصوصا مع الجيش. غير أن كلام الجنرال جوزيف ڤوتيل، قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي، هذه المرة، كان مختلفا عن السابق. أولويات واشنطن في لبنان تغيرت. بات "حزب الله" عنوانها لا الإرهاب التكفيري.

ولأن المسؤولين اللبنانيين، السياسيين والعسكريين، تبلغوا هذه الأجواء الدولية الصديقة، تحاشوا، حتى الآن، تأليف حكومة على صورة بندقية "حزب الله" وصواريخه، وانعقد المجلس النيابي وأقر بعض مشاريع القوانين، واجتمع مجلس الدفاع الأعلى، قبيل وصول الجنرال ڤوتيل (30/11/2018)، لتوجيه رسالة هي أن الدولة، بأجهزتها الشرعية، تسيطر على البلاد، وقام الجيش بعمليات أمنية ناجحة في مناطق حساسة، وبرز رئيس الجمهورية في خطاب الاستقلال فوق المحاور، وعلق الرئيس المكلف ممارسة رياضة التنازلات، وتوجه وزير الخارجية اللبنانية إلى الفاتيكان... لكن أحداث بلدة "الجاهلية" نقضت تلك الجهود وقضمت هيبة الدولة.

إذ نقدر الحرص العربي والدولي على لبنان، نتمنى على هذه الدول الصديقة أن تساعدنا في حل القضايا التي نشكو نحن منها وليس في حل القضايا التي تشكو هي منها. فعدا الصعوبات المالية والاقتصادية، نحن أمام تحديات وجودية وكيانية لا تأبه لها الدول الصديقة. ما قيمة المؤتمرات والقروض والهبات التي يعدنا بها المجتمع الدولي، وهو يعرقل قصدا عودة النازحين السوريين إلى بلادهم ويقترح دمجهم في المجتمع اللبناني؟ وما قيمة تمسك المجتمع الدولي باستقلال لبنان واستقراره، وهو يفرض التوطين الفلسطيني؟ وما قيمة دعوة الأمم المتحدة إلى تنفيذ القرارات الدولية، والقوات الدولية في الجنوب تكتفي بدور سياحي؟ أولوياتنا غير أولويات المجتمع الدولي.

صحيح أن الفضل بتحديث الجيش اللبناني وتسليحه يعود إلى الولايات المتحدة، لكن لبنان لا يستطيع، بحكم موازين القوى الداخلية، أن يكون وكيلا معتمدا لتنفيذ العقوبات الأميركية على حزب الله وأن ينزع سلاحه عسكريا. أتظن واشنطن أن دولة لبنان قادرة، منفردة، على ذلك؟ وهل يعقل أن يطلب من دولة لبنان المفككة أن تنفذ ما لم تنفذه القوات الأميركية والأطلسية وإسرائيل ضد "حزب الله" في جنوب لبنان وفي سوريا والعراق واليمن؟

لنتخيل أن دولة لبنان قررت أن تلتحق بالاستراتيجية الأميركية وأن تكون ممثلها الشرعي الوحيد في الشرق الأوسط، فما هي استراتيجية أميركا أولا؟ وما مدى التزام واشنطن تجاه لبنان في حال تعرضه لاعتداء إسرائيلي أو لتمدد داخلي يقوم به حزب الله؟

أي أميركا نثق بها؟ أميركا التي انسحبت منهزمة من لبنان سنة 1983، أو تلك التي سلمت لبنان إلى سوريا سنة 1991 مكافأة لتأييدها حرب الخليج الأولى؟ أميركا التي أسقطت صدام حسين السد الحائل دون "الهلال الشيعي"، أو أميركا التي تغاضت عن سيطرة إيران على العراق؟ أميركا التي لم تحم مسيحيي العراق وأقلياته الأخرى، أو أميركا التي تركت الأكراد في منتصف الطريق؟ أميركا التي قبلت انتشار روسيا العسكري في سوريا، أو أميركا التي جددت اعترافها بالرئيس بشار الأسد ونظامه؟ أميركا التي تراجعت عن حل الدولتين في فلسطين، أو أميركا التي سلمت بأورشليم عاصمة لليهود؟

سعى لبنان دائما لأوثق العلاقات مع الولايات المتحدة. لكن هذا السعي ظل رهن تقلبات السياسة الأميركية في المنطقة، فيما لبنان يحتاج تحالفا على قياسه وليس على قياس لعبة الأمم وازدواجيتها. حين الولايات المتحدة أعلنت الحرب على ألمانيا وحلفائها سنة 1941، حافظت على سفارتها مفتوحة لدى حكومة "ڤيشي" برئاسة الجنرال بيتان، غضب الجنرال ديغول رئيس "فرنسا الحرة"، واعتبر ذلك ازدواجية مقلقة.

اكتوى لبنان من لعبة الأمم، ويفضل تحالفات ثابتة تضمن مصيره وتحميه. مثل هذا المشروع الشامخ يتطلب قادة شامخين يحملونه إلى الأمم ويقنعونها به في ثقة وشجاعة.