أول طرح أكاديمي يقارب نشأة نقد رقمي حقيقي

أطروحة هاني الصلوي تتناول ماذا أحدثَ المد الرقمي في الجوانب المختلفة للحياة بوجهٍ عام، وفي الحياة الأدبية والنص الإبداعي على مستوى أقل عمومية.
المنظِّرون والفلاسفة والنقاد المحدثون درجوا على التبشير بالعلوم والفنون الجديدة والمذاهب الأحدث في الممارسة الإبداعية والحياتية
الدراسات العربية النادرة التي أشارت في عنوانهـا إلى مفـردة النقد الرقمي مباشرة دون مواربة لم يتجاوز استخدامها للمصطلح المناورة الشكلية الخارجية
رفض تام وعنيف لأي وجـود للإبداع الإنساني خارج السياقات المتوارثة بكلاسيكيتها

تعتبر هذه الأطروحة الموسومة بــ "الرقمية والنظرية النقدية.. دراسة في التحولات المفاهيمية" والتي نال عنها الشاعر والأكاديمي اليمني هاني الصلوي درجة الدكتوراه من جامعة عين شمس، أول طرح أكاديمي يقارب مسألة التقنية والفكر الرقمي قي اتصاله بالشبكة العنكبوتية وتماوجاتها، ويبحث في إمكانية نشأة نقد رقمي حقيقي بعيدًا عما درجت عليه الدراسات المتصلة في هذا المجال من اعتدادها بالجانب الورقي وجنوحها إلى الإلكتروني الجاف.
تتناول الأطروحة ماذا أحدثَ المد الرقمي في الجوانب المختلفة للحياة بوجهٍ عام، وفي الحياة الأدبية والنص الإبداعي على مستوى أقل عمومية، ثم في النص النقدي، الخالص منه على نحــو أكثر خصوصية، وهو ما يعني دراسة تحولات عناصر العملية الاتصالية والإبداعية منها، عنصرًا إثر عنصر، في مناقشة وتفصيل لما طرأ عليه من ممارسات نصية ونقدية. وهي بذلك تسعى ـ وفقا للصلوي ـ في استخدامها لمصطلح الرقمية إلى بحث المد الرقمي المعلوماتي في بعـده البرامجي والوسائطي المتغير، وفي ارتباط هذا الجانب أو حركته بالأصح في الفضاءات الشبكية الإلكترونية والرقمية الجديدة "الإنترنت"، لا بوصف الإنترنت مكـانــًا للتفاعلات الجديدة، بل بوصفه فاعلًا مؤثـرًا ضمن مجموعة من الفواعـل اللانهائية النامية والمتطورة المتحورة وغير المستقرة. أما مصطلح النظرية النقدية فيشير إلى الفكر النقدي بمدارسه المتنوعة وليس المدرسة أو المذهب المعروف في الغرب بالنظرية النقدية وحسب. 
ورأى الصلوي أن المنظِّرين والفلاسفة والنقاد المحدثين درجوا على التبشير بالعلوم والفنون الجديدة والمذاهب الأحدث في الممارسة الإبداعية والحياتية من خلال إنشاء بيانات تقدم الفكر النظري الجديد مشفوعـًا بنصوص تطبيقية. وقد استمر إلحـاق التنظير بالممارسة حتى نهايات مراحل ما بعد الحداثة في القرن المنصرم كما استمر داخل الأطر المكتوبة لمبدعي بعد ما بعد الحداثة والرقمية بعد الألفية في ظلال ما سيطلق عليه لاحقـًا مجتمع الظلال أو المعتمد. 

تعددت الصيغ الإلكترونية والرمزية لمدارس ما بعد الحداثة، أما مع ما بعد بعد الحداثة فقد تعددت أكثر وأخذت صيغًا لا نهائية التعدد والممارسة

وأضاف أنه بمجيء الرقمية بمفهومها الأحدث المرتبط بالإنترنت منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين، وبظهور الأدب الرقمي المرتبط بالشبكة/ الويب تلاشت هذه الممارسة الخطية "صناعة نموذج نصي إبداعي لمتون النظرية تتجسد فيه مقولاتها" وحيثياتها وهذا بنشوء الفكر الرقمي عامة والأدب الرقمي منه على وجه الخصوص والتحديد، على الرغم من أن تلك الممارسات الذهنية والكتابية الرمزية كانت قد تلقت ضربات قاتلة من الأدب الإلكتروني "أدب التكنولوجيا ما بعد الحداثية/الأدب الأم للممارسة الرقمية الحديثة" ومن مقولات منظِّري ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية الثوريين، ورؤاهم المتشعبة والمتشظية الفصامية. 
وتساءل الصلوي هل يمكن القـول إن الرقمية برحابتها وبرامجها المتغيرة قضت على فكرة النموذج النصي والتطبيقي، فلم يعـد القارئ أو الممارس أو المتلقي الحديث بحاجة إلى كتلة مادية أو عمليات إنتاجية ملموسة ينظر إليها ويدرسها ويتابعها بوصفهــا نماذج وتجسيدات محسوسة لمقولات وأطروحــات البيانات والرؤى النظـرية، وبالتالي؛ ونتيجـة لذلك، يمثل الكل النظري الذهني التطبيقي، المتعدد من كـل زعـم وتصور جديد، الوجه الوحيد والمفرد والمطلق للمناشط الجديدة، فهــو بحكم اختلاف العصر واندلاع المعلوماتية والاختلاف الشامل والمتعـدد، هــو المتحقق المطلق والمناسب الذي نفى وجـوده الحاجة لمتحقق حياتي ويومي وفني محسوس ومتجسِّــــد؟! هـل يمكن البناء على هذا الزعم النظـري؟!
وقال "الحقيقة إنّ وجـود جانبيَّ التنظير والممارسة وانفصالهما ضد أفكار تعدد البرامج والرؤى والنصوص التشعبية وتفرعاتها، وضــد الوجود الفعلي للفواعل الرقمية وحركتها ضمن فضاءات الشبكة العنكبوتية اللامتناهية. وهذا ليس قرارًا نظــريًا من ثلة من المبدعين والفاعلين، بل فعالية/ فعاليات أحدث فرضها التمدد الهائل للفضاءات والمناشط الجديدة ولاخطيتها، وبالتالي استحالة تقديم نموذج ثابت ومشاهد للرؤى الجديدة، ويعـود ذلك لأسباب منها: عـدم ثبات النص الرقمي، واتسامه بالسرعة، والمفاجأة واللانهائية؛ فمن غير المعقـول استطاعة الناص أو الممارس الرقمـي الإحــاطة بمسارات نص رقمي واحد والوصول إلى نهــايته ونقطته الأخيــرة. 
النقطة الأخرى تتعلق بما تقوم به طـائفة من الناس في العصور الرقمية الشبكية، التي يجاوروننا فيهـا، من رفض تام وعنيف لأي وجـود للإبداع الإنساني خارج السياقات المتوارثة بكلاسيكيتها، فلا فن رقمي، ولا فكـر رقمي، ولا أدب رقمي، ولا تعلم إلكتروني، أو اقتصـاد رمزي. لا يعترفون بأيٍ من هذه الأبواب الإبداعية الجديدة، ويصبح الرفض على أشده عند هــؤلاء، وأشد ضراوة فيمــا يخص الأدب الرقمـي، فالأدب والشعـر أخص خصائص الإنسانية ومن غير الممكن أن تشاركنا الآلات والبرامج في كتابته. وليس هكــذا فحسب، بل إن قراءة النصوص، في عرف هذا الفريق، لا يمكن أن تكون إلا عبر الكتاب بوصفه وسيطًا ورقيًا تآلفت الإنسانية معه منذ زمن طـويل فنشأت علاقة حميمة بين الإنسان القارئ والكاتب والكتاب الورقي أو المجلة الورقية أو الصحيفة. 
وأوضح الصلوي أنهم "يقعـون في فخــاخ كهذه ويهدرون وقـتــًا طويلًا في المنافحة والجدل ودورات الفعـل وردة الفعـل بينـما يدرك المتأمـل البسيط، دون الحـاجة إلى الإغــراق في التأويــل، يدرك أن كـل شيء قابل ومعـرض للتغيير، كما أن الإنسان على امتداد الأجيال السابقة هو الذي صَنَعَ هذا التعلق بالورق، والعلاقة معه، وبإمكان الكائنات الجديدة أن تصنع علاقاتها مع الأنشطة العصرية، والنصوص الحــاضرة، وخلــق حميميات أبلغ تأثيرًا مما رسخ في الاعتقاد وتوارثته الشعــوب مع الجديد، وذلك ما ترشدنا إليه مجــرد متابعة يسيرة لحركة الأطفال وأنشطتهم الرقمية على الإنترنت أو على حواسيبهم وتلفوناتهم الذكية وألعـابهم وفعالياتهم وممارساتهم. 
ورأى أن ما مر عرضه سابقا من التحول العام، عائدٌ في مجمله إلى التغير التام في سياق التفكير الإنساني والآلي معـًا من خلال ظهور مفاهيم اللاخطية وسيروتها في الممارسات جميعها لا سيما داخـل أتون وسياقات التعلم والفكر والكتابة، فقد كانت النصوص قبل مجيء النص التشعبي، مثلا، تسير بشكل منطقي أو شبه منطقي من البداية إلى النهاية، في تسلسل وترتيب، وفي خطوط واضحة ومفهومة وغير متشعبة، يؤدي سير النص بهذه الطريقة بالقارئ أو المتلقي أو المتابع إلى النهاية، وإلى ما أراده المؤلف/ الكاتب منه، وقد اختلف كل هذا مع ظهور النص التشعبي، فالأدب الإلكتروني فالرقمي، بتحول المتلقي إلى منتج حقيقي للنص ومؤلف له يبدأ هذا الفاعل الجديد من أية نقطة فيه، متحرِّكـًا في الاتجاه الذي يريد، وهو حر في العودة إلى نقطة بدايته، أو هجرها نهائيـًأ، داخلًا لحظة إبحاره في غابات من الصور والأصوات والحركات. إنها اللاخطية خواص الراهن ومستقبل الفنون والنصوص والعلـوم. 

وحول الأسباب التي دفعته لدراسة فعـل الرقمية في شكلها الحديث في النص لاسيمـا النقدي منه، قال الصلوي: 
أولا: انحصـار الدراسات السابقة في مربع دراسة النصوص الرقمية الإلكترونية بالــذات "الأدب الرقمي: الشعر والرواية والمسرح، والمقال وأدب الأطفال الرقمـي، ألعـاب الفيديـو، وغيرها من الأنواع"، فحتى الدراسات العربية النادرة التي أشارت في عنوانهـا إلى مفـردة النقد الرقمي مباشرة دون مواربة لم يتجـاوز استخدامها للمصطلح المناورة الشكلية الخارجية والإلمـاح القليل في المتن إليه. بينمـا تركزت اهتمـاماتها في أساسها على التأريخ للأدب الرقمـي وعرض مواقف مؤيديه ومعارضيه ومناقشتهم مع عروض بسيطة لبعض التحـولات التي حدثت بفعـل الرقمية مما تورده سائر الكتب المختصة، ولم يسلم من هذا التعامل مع البحث سوى دراسات قليلة ودون توسع. 
ثانيا: الايمان بأهمية دراسة التحولات المحدثة بفعـل الرقمية داخـل المتن النقدي الموازي للنص الإبداعي، لوضوح مـا تتخذه المناهج النقدية من آليـات ومفاهيم لتناول النصوص الأدبية، على عكس حضورهـا الغامض في النصوص والشعرية منهـا بالذات، دون أن يعني ذلك إغفال تحولات النص الأدبي ذاته، التي لا تختلف، في الحقيقة، عنها في المدونة النقدية، مما يؤكد على أهمية عـدم التفريق بين النص النقدي والإبداعي، إلى جانب إدراك ما صـار مسلَّمة منذ مـا بعد الحداثة، من حسبان النقد نصـــًا مكتملًا. 
انتهى الصلوي في أطروحته إلى عدد من النتائج من بينها: 
أولا: هناك تصور خاص لكل من مفهوميَّ: التكنولوجية الذي أخذ مصطلحات التقنية والإلكترونية والحاسوبية، وتبين ارتباطه بما بعد الحداثة، ومفهوم الرقمية والمصطلح الدال عليه المرتبط بما بعد بعـد الحداثة وبما بعد ظهور الإنترنت؛ وهو المصطلح الذي تمخضت النتائج عن عـدِّه السياق الفعلي لنشأة النص الرقمي الفاعل، على انقسام كائناته إلى كائنات آلية ذكية لا تفتأ تتطور كل لحظة وتتضاعف ذكاءاتها، ومجتمعات عاقلةٍ تأخذ صيغتين إنسانيتين: مجتمعات معتمدة أو مجتمعات ظلال جاءت من أزمنة الحداثة وتطورت مع ما بعد الحداثة ومجتمعات الرقمية المعلوماتية المحضة "اللا مجتمعات". 
ثانيا: حدث الاندماج التام بين المادية والذهنية بعد حضور الإنترنت، ومن ثم تغيرت حركة الأدب الرقمي ونصياته المتعددة، وحدث التحول الثقافي العام والخاص، وقبل ذلك تحول الذات والمجتمع وامتزاجهما بما يوازيهما من أطر، وكيانات على مستويات عدة. 
ثالثا: من الأهمية بمكان اعتماد مصطلح النص التشعبي "لغة الحياة الرقمية"، وعدم اعتماد مصطلح الترابط "وهو مصطلح بنيوي" لعدم مناسبته للفاعليات النصية الرقمية الجديدة، إلى جانب وجوب أن يشتمل أي تعريف للنص التشعبي - ومن ثمَّ للنص الرقمي - على أربعة أبعاد: البرامجي والإنساني والشبكي العنكبوتي المتعلق بالإنترنت، وبُعد الذكاء الآلي أو البعد المتعلق بالكائنات الذكية الجديدة غير الإنسانية. ويجب كذلك أن يدرس الأدب الرقمي ويؤرخ له وتعيَّن نماذجه وفق هذا التعريف، وفي ضوء إبراز الفرق بين الإلكتروني، والرقمـي. 
رابعا: يعد الأدب الرقمي وقبله الأدب الإلكتروني استمرارًا للأدبية، ويتنوع الأدب الرقمي عالميًا بين النصوص الإلكترونية الحاسوبية، والورقية/الحاسوبية، والرقمية المرتبطة بالإنترنت، أما عربيًا فتتراوح نصوصه بين الورقية المنتقلة إلى الشاشة إلكترونيًا، والورقية الملتبسة بالإلكترونية، بحيث تنتمي هذه النصوص إلى نصوص عصر الصورة الما بعد حداثي، حيث يكتب الكاتب نصه على الورقة أو على صفحة برنامج من برامج معالجة الكلمات، ثم يستعين بمُخرج أو مبرمج يقوم بتحويل هذا الورقي إلى إلكتروني، وبين الإلكترونية الأولية، ووفقًا لهذه النتيجة لا يوجد ما يمكن عدُّه ريادة عربية في هذا الباب، لأسباب كثيرة؛ منها ما ورد بخصوص الرقمية العربية، ومنها أن العصور الحديثة تقول بسقوط مفهوم الريادة تمامًا، وفي حالة وجود هذا المفهوم فإنه مفهوم جماعي متحول. 
خامسا: لم تعد النظرية النقدية ومفاهيمها منذ المرحلة الإلكترونية "الحاسوبية ــ التكنولوجية" المتمثلة في عصور ما بعد الحداثة "وهو عصر الصورة أيضًا" تلك التي عرفها الدارسون والباحثون قبل خمسينيات القرن العشرين، إذ اختلفت عناصر العملية الاتصالية وطبيعتها مع ما بعد الخمسينيات عمّـا قبله مما مهَّد للاختلاف العاصف بعد تسعينيات القرن نفسه ثم مع ما بعد الألفية. 
سادسا: سار التحول من الإبداع والتواصل الشفاهي والكتابي المعتمد على الشفاهي إلى الرقمية في مستويات عدة، وتعددت الصيغ الإلكترونية والرمزية لمدارس ما بعد الحداثة، أما مع ما بعد بعد الحداثة فقد تعددت أكثر وأخذت صيغًا لا نهائية التعدد والممارسة.