أين يقف العرب من تصاعد المنافسة بين الغرب والصين

لا تمثل الصين نموذجا ذا جاذبية للشعوب العربية اليوم، ولا أحد يتمنى أن تسيطر الصين على العالم بدلا من الولايات المتحدة والغرب، فهامش الحضارة والحرية والديمقراطية المتبقي في الغرب ليس له ما يماثله أو يعوض عنه في الصين.
هدف الإستراتيجية الأميركية تجاه الصين لا يميل إلى المواجهة الشاملة
ليس من مصلحة العرب الدخول في صراع القوى الكبرى

بعد عقود من النمو الاقتصادي الهائل المترافق مع القليل من الضجيج في حقل السياسة العالمية، بدأت الصين تظهر ليس بوصفها قوة اقتصادية محايدة ومتناغمة مع العولمة، ولكن كدولة قومية تمتلك كل مصادر القوة الاقتصادية والبشرية العسكرية والتكنولوجية، كما بدأت ملامح تطلعها نحو لعب دور أكثر فعالية في السياسة العالمية يتناسب مع مركزها الاقتصادي والعسكري. وبينما كان الغرب بزعامة الولايات المتحدة يظهر التسامح مع الصعود الاقتصادي للصين كونه يأتي ضمن العولمة وليس خارجها كما كان حال المعسكر الاشتراكي البائد في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، إضافة لابتعاد الصين عن أية سياسة في الشأن الدولي يمكن أن تثير حفيظة الغرب، فإن ذلك التسامح بدأ ينحسر اليوم تاركا المجال لمزيد من التحفظ والحذر والذي وصل أخيرا إلى طرح الاستراتيجيات المخصصة لاحتواء الصين وإيقافها عند حدها كي لا تخرج عن الهيمنة الأميركية – الغربية العالمية، وبالتالي تقوم بخروجها بتحطيم أسس تلك الهيمنة التي استمرت منذ الحرب العالمية الثانية واستطاعت كسر وإخراج الاتحاد السوفييتي ومعسكره الاشتراكي من ميدان الصراع العالمي حين مثل في وقته التحدي الوحيد لتلك الهيمنة.

هدف الاستراتيجية الأميركية تجاه الصين لا يميل إلى المواجهة الشاملة، لكنه يخطط لتطويق الصين وبناء ترسانة حربية مناسبة حولها تردعها عن التفكير بالتوسع والانتقال من السياسة القومية نحو السياسة الامبراطورية بتشجيع من مكانتها الاقتصادية – العسكرية ضمن توازن القوى الاقليمي في شرق آسيا على وجه الخصوص.

ربما تكون الولايات المتحدة قد توصلت إلى أن احتواء الصين في شرق آسيا سوف يكون كافيا لتشكيل قيد على تمدد نفوذها خارج تلك المنطقة وبالتالي يفتح الطريق أمام احتوائها العالمي وإعادتها إلى مكانتها الدولية الراهنة مع توسيع آفاق التشارك معها في حقول محددة مثل معالجة تدهور المناخ، والأوبئة، وتطوير طرق المواصلات الدولية مثل طريق الحرير ويمكن للأخير أن يكون موضع اهتمام أوربي بالدرجة الأولى.

لا تخلو الاستراتيجية الأميركية – الغربية من المغامرة، وأوضح مثال لذلك هو الرغبة المتصاعدة للصين في استعادة السيطرة على تايوان وسيكون ذلك تحديا عسكريا مباشرا للولايات المتحدة، وأية مجابهة عسكرية هناك يمكن أن تتطور خارج السيطرة والتحكم، وربما ينبغي أن نتذكر هنا أن الحرب العالمية الأولى قد تدحرجت انطلاقا من حادث اغتيال لولي عهد النمسا فرانز فرديناند في سراييفو عام 1914 إلى حرب بين الامبراطورية النمساوية - المجرية مخصصة لتأديب صربيا ومن ذلك لحرب عالمية حين وجدت صربيا حلفاء لها في روسيا ثم بريطانيا وفرنسا بينما وجدت الامبراطورية النمساوية – المجرية حلفاء لها في ألمانيا والدولة العثمانية وبلغاريا.

يحتفظ العرب بصورة طيبة عن علاقتهم التاريخية بالصين، فمن الصين تعلم العرب صناعة الورق والبارود، وجلبوا منها الحرير والخزف الصيني الجميل، وحملوا اليها الخيول العربية المشهورة والبضائع الواردة من افريقيا، وكان التجار العرب دائما موضع ترحيب وتقدير في بلاط اباطرة الصين.

حسب السجلات الامبراطورية الصينية وفي العام التاسع والعشرين من فترة كاي يوان (741 للميلاد) منحت السلطة الصينية مبعوث الدولة الأموية لقب قائد الحرس الأيسر، وخلعت عليه الرداء البنفسجي مع الحزام المطعم بالذهب.

تعاطف العرب حديثا مع كفاح الصينيين للاستقلال عن الامبراطورية البريطانية، ونظروا بعين الرضى للسياسة الصينية في الستينات والسبعينات من القرن العشرين تجاه القضية الفلسطينية، وبشيء من التفاؤل للدولة الصينية المتحررة والتي كانت ترفع شعارات الوقوف مع الشعوب المضطهدة ومد يد المساعدة لها في كفاحها من أجل الاستقلال والحرية.

هذا التاريخ من العلاقة الطيبة مع الصين ساهم في فتح الأبواب أمام الأسواق العربية حين غزت البضائع الصينية الرخيصة معظم الدول العربية، كما أن الحياد الصيني، والابتعاد عن الانخراط في الصراعات الدولية أعطى الصين شيئا من التقدير لدى الشعوب العربية.

يستيقظ العرب اليوم على صورة مختلفة للصين تتميز شيئا فشيئا بمقدار ما يزداد حضور الصين في السياسة العالمية من جهة، وبمقدار الأخبار التي تتسرب من داخل الصين عن المجتمع الصيني والدولة والنظام السياسي.

ساهمت التقارير المتواترة عن مسؤولية الصين في انتشار وباء كوفيد 19 في اكتشاف الوجه الآخر للصين، فسواء تم تخليق الفيروس بصورة متعمدة أم تسرب عن طريق الاهمال ونقص الاجراءات الاحترازية، فلا يمكن للصين التهرب من مسؤوليتها عن ذلك الوباء الذي ضرب الناس والاقتصاد في كل الأرض وما يزال ينشر الخوف والعزلة حتى اليوم.

وهناك سبب آخر لتحمل الصين المسؤولية يتمثل في التكتم على انتشار الوباء في مرحلته الأولى، وبذلك أتيح للفيروس الانتقال مع المسافرين من الصين إلى دول العالم.

كشفت الاجراءات الصينية الصارمة لمواجهة الوباء داخل الصين كيف أن الدولة الصينية تجثم على أنفاس الفرد الصيني وتعد عليه تلك الأنفاس منذ لحظة مولده حتى وفاته، وكم هو ضئيل هامش الحرية والحقوق الانسانية هناك، ولا يغير من تلك الصورة نجاح الصين المفترض في السيطرة على الوباء، فضلا عن عدم الثقة بالإعلام الرسمي الصيني ومنع أية أخبار مستقلة.

تبدو الصين دولة تعيش فوق تناقض كبير، فاقتصادها مندمج مع العولمة بطريقة شبه تامة بفضل الاستثمارات الأجنبية فيها واستثماراتها في الولايات المتحدة والعالم.

جاء في صحيفة الشعب الصينية اليومية الصادرة في 17/1/2011 الآتي: "وفقا لإحصاءات وزارة التجارة الصينية، حتى نهاية عام 2010، بلغ إجمالي عدد مشاريع الاستثمارات الأميركية في الصين أكثر من 59 ألف مشروعا، وبلغ مبلغ الاستثمار الفعلي 65.22 مليار دولار أميركي، حيث أصبحت الصين تدريجيا مركز الربح للعديد من الشركات ذات التمويل الأميركي. ووفقا لنتائج الاستطلاع التي أصدرتها غرفة التجارة الأميركية في العام الماضي، في عام 2009 حققت 71% من الشركات الأميركية أرباحا، ويرى 46% من المستطلعين أن هوامش الربح في السوق الصيني هو الأعلى على الصعيد العالمي.

في الوقت الحاضر، تعتبر الصين ثاني أكبر شريك تجاري لأميركا، وأسرع سوق للتصدير نموا في أميركا. ووفقا لأحدث البيانات التي أصدرتها الإدارة العامة للجمارك الصينية، بلغ حجم التجارة الصينية ـ الأميركية 385.34 مليار دولار أميركي في عام 2010، بزيادة قدرها 30% مقارنة مع ما في عام 2009، من بينها 102.04 مليار دولار أميركي قيمة الواردات الصينية من أميركا، بزيادة قدرها 31.7%"

أما عن الاستثمارات الصينية في الولايات المتحدة فقد جاء في نفس المصدر الآتي: "في السنوات الأخيرة، شهدت الاستثمارات المباشرة للشركات الصينية في أميركا نموا قويا، ومساهمة ايجابية للعمالة المحلية. منذ إقامة مجموعة هاير الصينية في ولاية كارولينا الجنوبية الصناعية في الولايات المتحدة عام 1999، خلقت مدينة كامدن الآلاف من فرص العمل، ومن بين كل 10 اسر في المدينة هناك أسرة واحدة لديها موظف في شركة هاير، ويبلغ الإنتاج السنوي من الأجهزة المنزلية في كامدن أكثر من 20 مليون آلة كهربائية، لتصبح هذه الأخيرة "مدينة أجهزة كهربائية منزلية".

تملك الصين احتياطيات نقدية هائلة تقدر بنحو 3.21 تريليونات دولار، يمثل الدولار الأميركي الحصة الأكبر منها، وتبلغ حصتها من شراء سندات الخزانة الأميركية 800 مليار دولار، وظلت الصين أكبر مستثمر في سندات الخزانة الأميركية إلى أن أزاحتها اليابان للمركز الثاني عام 2019.

ليس من الصعب بعد ذلك الاستنتاج أن الاقتصاد الصيني لا يمت بصلة للاقتصادات الاشتراكية التي حملتها التجربة السوفييتية، فهو واقع بحضن الرأسمالية العالمية إلى حد كبير.

والتناقض الذي أشار اليه هذا المقال أعلاه هو بين حقيقة الاقتصاد الرأسمالي الصيني المعولم وبين المجتمع الداخلي الصيني المغلق والمحكوم بالقبضة الحديدية نقيض الديمقراطية الغربية الملازمة للرأسمالية في تكوينها الاجتماعي والسياسي.

من الصعب التفكير بأن ذلك التناقض سيستمر وقتا طويلا، والأرجح أن مصيرا مشابها لمصير الدولة السوفييتية ينتظر الصين، وربما كان وعي الغرب بذلك سببا آخر للاكتفاء باحتواء الصين في انتظار الدخان الأبيض من بكين.

لا تمثل جمهورية الصين الشعبية نموذجا ذا جاذبية للشعوب العربية اليوم، ولا أحد يتمنى أن تسيطر الصين على العالم بدلا من الولايات المتحدة والغرب، فهامش الحضارة والحرية والديمقراطية المتبقي في الغرب ليس له ما يماثله أو يعوض عنه في الصين، والطريقة التي تعامل بها الدولة الصينية أقلية الايغور المسلمة فاقت بوحشيتها كل الحدود، وكشفت الطبيعة غير الانسانية للنظام الصيني، كما أن احتقار الصين للمعايير الدولية في الملكية الفكرية وسرقة المعلومات وتقليد المنتجات ذات الماركات الشهيرة لا تبعث على الثقة والاطمئنان لمستقبل صعود القوة الصينية العالمي.

مع ذلك فليس من مصلحة العرب الدخول في صراع القوى الكبرى حيث يمكن أن يقتصر الأمر على جعلهم وقودا لتلك الصراعات كما حصل في الحرب العالمية الأولى حين تمت مكافأة العرب بالتقسيم والاحتلال.

لكن الضروري هو وعيهم لما يدور حولهم، فالخديعة الكبيرة بعد الحرب العالمية الأولى لم تكن لتتم لولا جهل العرب بطبيعة العصر الذي يعيشون فيه وموازين القوى التي تحكمه، وبعدهم عن فهم السياسة الدولية ومياهها العميقة.