إدوار الخراط ينزع قشرة الرداءة والركاكة
القاهرة : حازم خالد
يفتح إدوار الخراط (1926-2015) نافذة على عالم بديل وزمن آخر، فعندما تضيق الأرض بنا – وما أكثر ما تضيق الأرض بنا - وتُقفل الأبواب كلها بابا وراء باب، ويحكم الحصار من الداخل والخارج ويتلاشى حتى الأفق، تبقى رغم كل ذلك ثغرة، نافذةٌ تُخرجنا من هذا الزمن الرديء ومن هذا العالم الركيك.
تتفتح هذه النافذة بفعل إدوار الخراط الإبداعي والإنساني، لا على عالم متخيل ومستقبلي، أو على عصر ذهبي انقرض وصار في ذمة التاريخ، بل على الثراء المكنون في طيات هذا الزمن الحاضر وفي ثنايا هذا العالم الواقع.
هذا ما أكدت عليه الأكاديمية فريال جبوري غزول في كتابها "الريادة في الرواية .. ثلاثية الخراط" (الهيئة العامة لقصور الثقافة بالقاهرة) حيث ينزع الخراط قشرة الرداءة والركاكة ليكشف عن عوالم في منتهى الروعة والجمال والحميمية في هذا الواقع البشع.
وتضرب المؤلفة مثلا: في حكايات ألف ليلة وليلة هناك كلمات سرية تفتح الكهوف الممتلئة كنوزًا، فيكفي أن يقول علی بابا "افتحْ يا سمسم" لينفرج المسدود وينفتح على عالم سحري وغني. وهو لا يقدر أن يستبدل "سمسم" بكلمة أخرى كأن يقول "افتحْ يا رز" أو "افتحْ يا شعير".
لا بد أن يقول: "افتحْ يا سمسم"، وأنا أتماهى مع علي بابا رمزيًّا ومجازيًّا، فعندما أحس بالاكتئاب والهبوط المعنوي واللاجدوى والعبث، عندما أعايش التفاهة والهشاشة التي تغلغلت في حياتنا حتى أصبحت جزءًا من نسيجها، أقول "افتحْ يا إدوار"، وأنتزع من الرفَّ كتابًا من كتبه: أي كتاب تقع عليه يدي وأفتحه كيفما كان، على أي صفحة من الصفحات، فتنطلق الكلمات في سحرها الشعري وثرائها الدلالي وإحالاتها التراثية وإيحاءاتها الأسطورية لتعيد تشكيل عالمنا، مستكشفةً العمق الإنساني المتواري في زحمة اليومي، فينزاح اللون الباهت الرمادي عن الأشياء لتبدو شفافة ومشعة بعد إزالة الصدأ منها والرواسب عنها.
وتضيف: لا أقصد بهذا أن إدوار الخراط ممتع فحسب. أقصد أنه يرفعنا من حضيض الكآبة والضيق إلى آفاق الممكن والممتع، وهو لا يفعل ذلك عبر تقديم وجه آخر للواقع، بل عبر تقديم عمق آخر للواقع. إنه يحفر وهو يكتب: يحفر في الذاكرة الشخصية والذاكرة الجماعية، في الذاكرة الخاصة والعامة.
وترى أن كتابات الخراط بؤرة تجتمع فيها أشكال متنوعة: الشعري والسردي، الفلسفي والسياسي، التأملي والصوفي. وتتجاوز في كتاباته الأبعاد في تضافر خلاق: التاريخي بالأسطوري، التسجيلي بالغنائي، العربي بالعالمي، القبطي بالإسلامي، ولا أحس بموسوعيته فحسب، بل باستيعابه للمعرفة بشقَّيْها النخبوي والشعبي، وتتجلى هذه المعرفة تجليًا أدبيًّا في نسيج عمله، بمعنى أن هذه المعرفة لا تتمظهر كنتوء يعلن عن نفسه ويستعرض حضوره في النص، وإنما تتوارى فيما أصبح يُعْرَف ببطانة النص (sub – text)، ذلك الجزء الذي لا يبدو للعيان ولكنه يتحكم فيما يظهر في النص المكتوب.
تفرد الأسلوب
أهم ما يميز كتابات إدوار الخراط - سواء كانت أعمالاً أدبية أو نقدية - قصة قصيرة أو ثلاثية ملحمية، تعليقًا على صور فنية أو إنشاء رسائل شخصية – هو شبقية الأسلوب، ولا يعني هذا على الإطلاق الثيمات الشبقية – وإن كانت بعض أعماله لا تخلو من مشاهد عشق ووصال من أجمل ما كُتِبَ في تاريخ الإيروسية الطويل.

وتوضح: ما أقصده هو قدرة إدوار الخراط على تشبيق اللغة (Erotisation du langue ) - إن صح التعبير – أي قدرته على شحن أي جملة في خطابه المتنوع بِطَاقةٍ شبقيَّة فريدة، فتفاصيل الأشياء اليومية العادية من البلح الأخضر وأصوات الكاسِيت إلى الجردل البلاستيك والبنطلون الكاكي – كلها تتفرد ويصبح لها شخصية في كتابات الخراط. إنها تتشخص، وبالتالي تكتسب ثراءً دلاليًّا وغِنًی رمزيًّا، وتصير مفردات في عالم شعري، لكل تفصيل فيه وظيفة جمالية. تشبيق اللغة، إذن، هو ما يجعلنا نسترجع خصوصية وحسية وطاقة كل مفردة، كما لو كان القارئ عاشقًا يتملَّى جسد المحبوب، فيرى في تمفصلاته ما لا يلتقطه مشاهِدٌ عابرٌ.
وأشارت المؤلفة أنها نشرت الدراسات – التي ضمها كتابها – منفردة، وقد جمعتُها بعد نشرها مع تعديلات طفيفة في كتاب يضيء عبقرية الخراط بما في ذلك دوره في تحديث الفن الروائي عربيًّا، وإسهامه في إثراء المشهد الأدبي العالمي بأساليب قص رائدة، من الدراسات التي ضمها الكتاب: إدوار الخراط: الهبة والموهبة، في إدوار الخراط: مغامر حتى النهاية، مساهمة الرواية العربية في أساليب القص العالمية، في الأدب العربي: تعبيره عن الوحدة والتنوع، الرواية الشعرية العربية نموذجًا لأصالة الحداثة، العطش يقينًا: صورة الفنان في شيخوخته المشبوبة. (وكالة الصحافة العربية)