إسراء غريب… ضحية الجاهلية الراهنة

كانت المشكلة تكمن أيضاً في محاولة إقفال النقاش الديني في شكل صارم ومحاولة ضبط التفسيرات والعبارات التي تنال من المرأة، ما يمنح الفكر القبلي شرعيةً وشعوراً بالسيطرة على نساء عائلته.

بقلم: مايا الحاج

مرَّ أسبوعان على جريمة قتل الشابة الفلسطينية إسراء غريب، وما زالت قضيتها تتفاعل في شكل لافت على وسائل التواصل الاجتماعي.

إسراء غريب ليست أوّل فتاة تُقتل بتهمة الشرف، ولن تكون الأخيرة. يستبيح رجال العائلة دماء بناتهم بحثاً عن رجولةٍ مفقودة، ثمّ يبحثون عن العذر. مرّة لأنها “فاجرة” وأخرى لأنّها “مجنونة”. والحقّ أنّ العقليات التي تتحكّم بمجتمعاتنا هي “الممسوسة” بجنّ التخلّف والذكورية والتفوّق الجندري. وليست الفيديوات التي تحدّث فيها زوج شقيقتها، المشارك في جريمة قتل إسراء، سوى حجّة على وهن ادعاءاتهم و”خفّة” مجتمعاتنا التي لا تُحتمل.

آلاف الأرواح تُزهق سنوياً بتهمة “الشرف”، في حين أنّ 90 في المئة من ضحايا هذه الجرائم هنّ عذراوات. مع العلم أنّ العذرية تبقى أمراً حميماً يخصّ الفتاة وجسدها، وليس مرتبطاً بشرف العائلة وذكورها.

حادثة إسراء خرجت من إطارها العائلي الضيق لتصبح قضية رأي عام. ولكن هل يمكنها أن تحرّك شيئاً في عقليات جامدة تحكمنا مرّة باسم الدين ومرّة باسم العروبة والأعراف؟ وقبل أن نُفكّر في تغيير العقليات، علينا أن نُحدث تغييراً في اللغة نفسها. “جريمة شرف” عبارة تتردّد في الشارع وفي الإعلام، مع ميل الحقوقيين إلى استبدالها بعبارة جرائم قتل النساء. كلمتا “جريمة” و”شرف” تتعارضان، وليس من الصواب جمعهما سوى في صورة “إردافٍ خلفي”، أي بتعبيرٍ مجازي خالص. العبارة إذاً غير مقبولة منطقياً ولا لغوياً. وعليه، ينبغي أن تُلغى من دساتير العالم، ومن وسائل الإعلام.

حجم العنف الذي وصلنا عبر صور وتسجيلات صوتية توثّق الجريمة المُمنهجة ضدّ إسراء تدفعنا إلى التفكير في معاناة المرأة الفلسطينية التي تواجه احتلالاً مزدوجاً، من الكيان الخارجي (إسرائيل) ومن الكيان الداخلي (العائلة). ولعلّ هذه المعاناة تنسحب على كلّ امرأة تعيش حروب بلادها السياسية “المعلنة” وحروبها العائلية “المخفية”.

آلاف الأرواح تُزهق سنوياً بتهمة “الشرف”، في حين أنّ 90 في المئة من ضحايا هذه الجرائم هنّ عذراوات.

إسراء غريب التي سيقت كنعجةٍ إلى موتها، بدت في صورها على وسائل التواصل شابة جميلة ومُقبلة على الحياة. لكنّ هذه الصفات قد تثير ريبة عائلة محكومة بأفكار “ذكورية” بالية. ولا نتحدث هنا عن عائلة إسراء وحدها بل عن عائلات كثيرة مثلها، تكره صوت الفتاة وضحكتها وحيويتها. مجتمع يتمنى وأد الفتاة عند ولادتها، من دون أن يعرف أنّ العار راسخ في عقليته المقيتة. تكبر الفتاة وسطهم ويكبر خوفهم منها، يتمّ وأدها معنوياً ويدفنونها حيّةً في بيئتهم الكريهة، ثمّ يترقبّون زلّةً أو حجةّ كي يمارسوا جاهليتهم القديمة ويتخلصّوا منها. بعدها، يمضون أشهراً قليلة في السجن بذريعة أحكام مخففة تشجع على مزيد من هذه الجرائم المعادية للمرأة. لكنّ الموءودة لا تنفكّ تسأل بأيّ ذنب تُقتل؟

تضامن النساء الفلسطينيات مع إسراء

هل باسم الدين تُقتل؟ لا أحد يُجيب. ولكن، دعونا نعترف بأنّ الإسلام لا يُعاني رُهاب الجنس. بل تعاطى مع الجنس كفعل إمتاع، بعيداً من إطاره التناسلي المعروف. لقد وضع الممارسة الجنسية في قوالب شرعية وإنما مُباحة للمرأة والرجل معاً، عبر صيغٍ علنية وسريّة معروفة من زواج المتعة إلى العرفي والمسيار وغيرها. وإن كانت المشكلة تكمن أيضاً في محاولة إقفال النقاش الديني في شكل صارم ومحاولة ضبط التفسيرات والعبارات التي تنال من المرأة، ما يمنح الفكر “القبلي” شرعيةً وشعوراً بالسيطرة على نساء عائلته.

لا مجال للغوص في سجال ديني، إلا أنه لا بد من تأكيد وهن الحجج التي يتكئ عليها مجرمون يقتلون بدافع عقَدٍ رسخّتها أعراف غريبة تُلصق مفهوم الشرف في غشاءٍ قابل للفتق والرتق، من دون أي اعتبارات إنسانية أو أخلاقية أخرى.

إسراء غريب قُتلت على يد أخوتها لأنّها اجتمعت بـ”خطيبها” في مكان عام. والأدهى أنّ جريمتها نُسجت بخيوطٍ حاكتها ابنة عمّها التي وشت بها وجيّشت رجال العائلة ضدّها. وهنا تنكشف ماهية “الذكورة” كفكرةٍ غير مرتبطة بجنس أو جندر، وإنما بسلوكٍ وعقليةٍ.

عندما تتبنى المرأة أفكار الرجل “العربي” وتُنميها وتمارسها، فإنّها تغدو نموذجاً واضحاً لمعنى “الاستلاب” الاجتماعي وخطورته.

وأمام هذه الجريمة البشعة التي وصلتنا بصوت المغدورة نفسها، لا يسعنا سوى أن نسأل عن عقوبة هؤلاء القَتَلة وكلّ من ساندهم في تنفيذ جريمتهم بدمٍ بارد.

نُشر في صفحة درج