'إعدام الكتب' يحيي تاريخا من القمع والحرق والقتل شرقا وغربا

'شهيد' الكلمة اليمني محمد عبده العبسي يتعقب في كتابه الموسوعي إعدام الكتب شرقا وغربا راصدا وباحثا ومحللا وكاشفا ما يزخر به التراثين الإسلامي والمسيحي من عمليات مماثلة طالت مؤلفيها وصولا للعصر الحديث.

يعد الشاعر والكاتب الصحفي اليمني الراحل محمد عبده العبسي واحدا من أبرز من طالتهم يد الغدر والفساد في اليمن، فراح ضحية نضاله ضد الفساد الذي استشرى في العديد من مواقع السلطة ومؤسساتها وشركاتها، وقد كانت آخر نضالاته تحقيقاته الشهيرة عن فساد شركات النفط في اليمن، وهي القضية التي ارتقى شهيدًا لأجلها ـ كما يشير د.هاني الصلوي في مقدمته لكتاب العبسي "إعدام الكتب" ـ حيث إذ لم يصبر النافذون على جرأته وتتبعه لفسادهم فدسُّوا له السم، فأسكتوا صوته الذي لطالما أبان حقائق كثيرة ظلت خافية لفترات مديدة عن الناس؛ فنشر حيثياتها في مدونته الشبكية وفي بعض الصحف اليمنية بجرأة وشجاعة ملموستين.

كتاب العبسي "إعدام الكتب.. ضغينة النار والماء والهواء والتراب" الصادر أخيرا عن مؤسسة أروقة بدأت قصته عقب رحيله، حيث أشار الصلوي في مقدمته إلى ذلك حيث قال "لم يمهل القدر العبسي ليجمع شتات هذا الكتاب في ملف واحد جاهز للنشر كما حدث مع كتابه الشعري "بل"، إنَّما وجدته شقيقاته في ملفات "ورد" متعددة، وأحيانًا يتكرر فيها الملف ذاته أكثر من مرة، فقامت شقيقته قبول العبسي بمساعدة شقيقتيه إيناس وصفاء بفرز كل تلك الملفات وتجميع الكتاب بالشكل الذي بين أيدينا وتسليمه لمؤسسة أروقة لنشره، وقد وجده محررو المؤسسة جاهزًا باستثناء تكرار بعض الفقرات الداخلية وبعض النظر في أجزاء بسيطة من الكتاب؛ لابد أن الكاتب وضعها في باله وأجلها إلى مرحلة الإعداد الأخير للكتاب، وقد حرصتُ شخصيًا على عدم التعديل – إلاقليلًا- في الكتاب لكي يظهر بالصورة التي أرادها له الراحل، كما استعنا في تدقيق الكتاب بما كان العبسي قد نشره في الصحف اليمنية أو في مدونته، وهذه الأجزاء المنشورة قليلة بالنسبة إلى حجم الكتاب لقد تركنا الكتاب يسير على سجيته".

ويؤكد الصلوي أن الكتاب من مبدئه إلى خاتمته سيرورات فعل عناصر ضغينة النار والماء والهواء والتراب، والفعل المقصود من قبل الفاعل الإنساني خاصة، إلى جانب أفعال عناصر جزئية قليلة تؤول في النهاية إلى أحد أفعال هذه العناصر، أو أنها جزء؛ منها فتقطيع الكتاب بالسكاكين سيؤول في النهاية إلى ذره في الهواء، كما أن السكاكين الفاعلة قادمة ــ في النهاية ــ من التراب، وهكذا دواليك. إن السياق المقابل لسير وأفعال النار والهواء والماء والتراب بالكتاب داخل الكتاب، وهو سياق دال على ما ورد سلفًا أيضًا، هو انطلاق العبسي في أحد الفصول إلى الخلاف حول نظرية العناصر الأربعة نفسها، وكيف جنى الخلاف حولها على الكتب وأدى إلى إتلافها بواسطة أحد العناصر الأربعة، فقد أحرقت أثينا أو تورطت، بحسب العبسي ومصادره،"في إحراق كتب واحد من أهم فلاسفة العصر القديم "إنكزاغوراس 500ــ 428 ق.م" ... كان إنكزاغوراس يجد صعوبة في تقبُّل فكرة أمفيدوكلس القائلة بأن الطبيعة مكونة من هذه المكونات الأربعة فحسب، وقد تشعَّب الخلاف حول ذلك أزمنة؛ ومن هنا، كانت فعلا صائبًا، إضافتنا عنوانًا فرعيًا لكتاب إعدام الكتب وأعني: ضغينة النار والماء والهواء والتراب".

ويرى أن الولوج إلى"إعدام الكتاب" يتعلق من بوابة العناصر الأربعة، سواء في كتاب العبسي أو في غيره من الكتب التي تناولت هذه القضية الشائكة، التحديق فيها من ناحية الواقع عليه الفعل كالكتاب الذي يتلف بأي من الطرق المذكورة والوسائل أو بما يتصل بها، ولكن الأخطركثيرًا من ذلك هو إتلاف الفاعل الإنساني نفسه وقتله بأبشع الطرق ومن ذلك ما تعرض له لسان الدين ابن الخطيب الذي يروى أنه أخرج من قبره بعد قتله ليحرق ومثل ماحدث لابن الخطيب كثير، صلب الحلاج وقطِّع وذرت كتبه في النهر، أحرقت الكنيسة في روما العام 1600م كتب جيردانو برونو ثم أحرقته نفسه حيًّا.. كانت أثينا ــ بتعبير محمد العبسي " أرحم بإنكزاغوراس، غير اليوناني، من روما بمواطنها برونو.. وكلا الرجلين لم يكن يستبعد، من حيث الفكرة، وجود بشر على كواكب أخرى".

يتتبع العبسي إذن في كتابه الموسوعي إعدام الكتب شرقا وغربا، راصدا وباحثا ومحللا وكاشفا ما يزخر به التراثين الإسلامي والمسيحي من عمليات إعدام للكتب وتحريض على مؤلفيها بل قمعهم وحرقهم وقتلهم، وكذا اختلافات القبول والرفض بين المذاهب في الإسلام والمسيحية، ومن ثم لا يستثني الغرب وحضارته وما جرى لمثقفيه ومبدعيه وكتبهم من محاكم تفتيش، وصولا للعصر الحديث وما يجري اليوم في العديد من البلدان العربية والإسلامية، ويؤكد أن "من يقرأ تاريخ إعدام الكتب، على قلة المصادر فيه، يخرج بقناعة تامة أن معظم "هل قلت كل" مدن العالم متورطة، في تاريخها القديم أو الحديث، بإعدام الكتب وبنفس الطرق تقريبًا العابرة للقارات: الإحراق أو التمزيق أو الدفن أو الإتلاف بالماء. ودائمًا وأبدًا لا يخرج السبب عن أحد ثلاثة: الدين، السياسة، المجتمع!".

الصحفي اليمني الراحل محمد عبده العبسي
'لم يقم أحد من القبر ولم يبعث أحد من الموتى. لكن كتبًا بعثت من بعد الدفن ومؤلفين خرجوا من القبر إلى الحياة'

ويلفت العبسي إلى تأثير السياسة على الكتب وظاهرة التحريض ضد المؤلفين، يقول "قال يحيى بن معين، وهو من كبار رواة الأحاديث: "بالعراق كتابٌ ينبغي أن يدفن: تفسير الكلبي عن أبي صالح. وبالشام كتابٌ ينبغي أن يدفن: كتاب الديات لخالد بن يزيد بن أبي مالك، لم يرض أن يكذب على أبيه حتى كذب على الصحابة".هذه الرواية واحدة من عشرات الروايات التي يزخر بها التراث العربي. إنها وثيقة تاريخية دامغة على الفتوى الشرعية التي بموجبها يتم إتلاف الكتب: حرقًا أو تمزيقًا أو إلقاءً في الماء. إن هذه الرواية الهامة تقدم "يحيى بن معين" -رفيق الإمام أحمد ابن حنبل في جمع أحاديث النبي لـ40 عامًا- لا كراوٍ متبحّر في علم الأحاديث فحسب. وإنما تقدّمه كدفّان: دفانُ كتب المخالفين. والتحريض ضد الكتب والطعن في مؤلفيها، على العموم، ظاهرة شائعة في التراث العربي يحركها دافعان: السياسة والاختلاف الفكري والمذهبي.

ويضيف العبسيإن السياسة، على مر العصور، حاضرة بالضرورة: موجّهة للكتب ومؤثرة على المؤلفين. مصادرةً للكتب ومحرقةً لها أحيانًا، والعكس: ممولةً لها ومشجعةً على انتشارها أحيانًا أخرى. وذلك بناء على موقف مؤلفي الكتب من الدولة ومدى قربهم منها أو بعدهم عنها ودرجة خدمتهم لها أو إضرارهم بها. حتى أن ازدهار الكتب، في التاريخ الإسلامي، واندثارها ارتبطا بشكل وثيق برضا الحاكم وسخطه. ولينه وشدته. هذا هو الترمومتر: إن درجة انتشار -أو اختفاء- كتاب في الأسواق ارتبطت، في القرون الماضية، بمدى تماشي الكتاب مع مذهب الدولة وسياستها وموقفه، بالضرورة، من الدولة السابقة لها.

ويري أن كتب الجماعات الإسلامية مليئة بما يمكن أن نسميه "التحريض والتحريض الآخر". هذه ظاهرة شائعة في التراث العربي وحاضرة في كتب كل الجماعات الإسلامية بنسب متفاوتة. لدرجة أن إمام الهدى عند جماعة ما هو، بالضرورة، إمامُ الضلال عند أخرى! ولا وجود لمنطقة وسطى. والمؤلف الذي تذمه كتب الحنابلة تثني عليه، بالمقابل، كتب الإمامية الشيعية. بين المالكية والحنفية معارك كلامية. وبين المعتزلة والأشاعرة كرّ وفرّ وشد وجذب. وكلٌ له دوافعه، بطبيعة الحال، وكلٌ يخدم مصالحه ويدافع عن قناعاته. الأكيد أن حملات التحريض، في التراث العربي، لا تخرج عن إحدى اثنتين. الأولى: حملات تحريض رجال السلطة ومنظّريها، المتعمدة، ضد مؤلفين وكتب بعينها. والثانية: حملات تحريض المؤلفين واتهام بعضهم بعضًا، بلؤم أو حُسن نيّة، بسبب الاختلاف المذهبي والفكري. وهي تقريبًا الأكثر شيوعًا.

ويرصد العبسي ظاهرة دفن الكتب في التراث الإسلامي ويرى أنها شاعت بالقدر ذاته، إن لم يكن أكثر، في التراث المسيحي أيضًا. "لم يقم أحد من القبر ولم يبعث أحد من الموتى. لكن كتبًا بعثت من بعد الدفن ومؤلفين خرجوا من القبر إلى الحياة. لم تُسجل في التاريخ الإسلامي حالات "بعث" كتب ومخطوطات دُفنتْ، اضطرارًا، في أزمنة القمع الديني والسياسي ثم بُعثت، اكتشافًا، في الأزمنة اللاحقة. وعلى النقيض فالتاريخ المسيحي حافل بالكثير من حالات "بعث" الكتب الموءودة.كان تحريم أفكار جماعات وأقليات دينية وحظر كتبهم، فِي عصر ما، سببًا رئيسًا في حث أفراد هذه الجماعات على دفن كتبهم ومواراتها الأرض. وبهذا يتحقق هدفان مضمونان. الأول: نجاة الكتب المدفونة من الوقوع في يد السلطة الدينية أو السياسية القائمة وقتها وبالتالي ضمان عدم إعدامها ما دامت متواريةً عن الأنظار. الهدف الثانِي: إبقاء احتمال، ولو ضئيل، لإمكانية اكتشاف الكتب المدفونة، مستقبلًا، في زمن لاحق تكون أسباب دفن الكتب فيه قد زالت، كليًا أو جزئيًا، بزوال السلطة المهددة لها في الماضي! إن أكبر دليل على صحة ذلك المخطوطات والأناجيل غير الرسمية المكتشفة، في منتصف القرن الماضي، في نجع حمادي بمصر وفي أماكن أخرى".

وفي إطار رصده لحرق المكتبات يشير العبسي إلى حرائق بغداد في نسختيها المغولية والأميركية! يقول "يوم الخميس الموافق 17/4/2003 اندلعت، بالتزامن مع سقوط بغداد، النيران في مبنى المكتبة الوطنية العراقية وشوهدت ألسنة اللهب تحاصر المبنى من الجهتين. لم يكن أحد ليجزم أن رجال الإطفاء في طريقهم إلى المكتبة. ذلك أن الفوضى عمت شوارع بغداد وبدأ الرعب على الطريقة الأمريكية. من المؤكد أن مصائب بغداد كانت، يومها، بالجملة والتجزئة. غير إن المصيبة تهون، أحيانًا، وتخف وطأتها عند النظر إلى مصيبة أخرى مجاورة. فاحتراق المكتبة الوطنية العراقية كارثة ثقافية بكل المقاييس تهون عند النظر إلى مصيبة أخرى شهدتها، في نفس الفترة، بغداد، ألا وهي كارثة سرقة المتحف الوطني للآثار العراقية. تلك حادثة معاصرة وهذه قديمة. وبغداد هي بغداد: سليلة أمجاد وكوارث عبر التاريخ ومن محنة إلى أخرى! على أن كارثة بغداد القديمة "إعدام مكتبة بيت الحكمة" أشد وطأة وأكثر فداحة من كارثة احتراق المكتبة الوطنية العراقية في 2003 بالتأكيد. كانت مكتبة "بيت الحكمة" البغدادية المكتبة الأضخم في العالم الإسلامي تقريبًا. يصفها "ول ديورانت" في كتابه "قصة الحضارة" بأنها "مجمع علمي ومرصد فلكي ومكتبة عامة وأنفق في إنشائها مائتا ألف دينار "نحو 950000 دولار أمريكي". وقد أقام مؤسسها هارون الرشيد وابنه المأمون، من بعده، طائفة من المترجمين وأجرى عليهم الأرزاق من بيت المال".

تتعدد شواهد العبسي في الكتاب نرى فاعل متعدد الأهداف والمحركات لا سيما الفاعل الحاكم أو المنظومة الدينية والسياسية، كما نجد ما فعله الحاكم، والكنيسة، ومحاكم التفتيش، والقاعدة وداعش وأخواتهما في العالم الإسلامي، والجماعات السياسية والتكتلات. لكن الغريب أن يكون فاعل القضاء على الكتب ـ أحيانا ـ هو الكاتب نفسه.. وفي التراث الإنساني أمثلة لا تحصى.