إعلام أم عوالم

نادرا ما يتحدث الإعلام المصري عن الأفكار، والإعلاميون يتحدثون دائما عن الأشخاص والأحداث دون الخوض في الأفكار.

أنتمي إلى جيل صحا على أغنيات مصرية مثل "أنا الشعب لا أعرف المستحيلا" و"يا أهلا بالمعارك" و"أرجع لك عيون الشمس يا بلدي" و"اخي جاوز الظالمون المدى" وغيرها الكثير من الأغنيات التي شكلت الوعي الجماهيري آنذاك. وعندما أبرم السادات اتفاقية الصلح مع إسرائيل ومن ثم أعلن الانفتاح أمام التجارة العالمية، تغير كل شيء، فأقفلت المصانع والمزارع أبوابها، وتراجع اقتصاد مصر وأصبح الفقر هو السمة الغالبة على الشعب المصري، واختفى إرث عبدالناصر، ولم نعد نسمع غير إعلام هابط يملؤه السباب والشتائم وكأن الإعلامي واحدا من عوالم القاهرة "تردح" لمن يحاول النيل منها، وأصبحت لغة الإعلام هي ذاتها لغة العوالم. أما الذين لا يزالون مخدرين بالأغنيات القديمة، فقد غدوا كالدون كيشوت يثيرون سخرية الإعلام ومادة للتندر والتعليق.

ولا ينبغي تحديد أسماء الرداحين لكي لا يضعوا اسمي على قائمة الردح، فقد أبدع هؤلاء بالسب والشتم لكل من يخالفهم لدرجة أن أحدهم رفع "الشبشب" لحركة حماس، وآخرون اتهموا قياداتها باقتناء الملايين والسكن في قصور، وهم في الواقع يسكنون في بيوت شبيهة ببيوت أهل غزة، ومحمود الزهار له ابنان شهيدان. أما من يعارض الرئيس السيسي، فقد تفنن هؤلاء بشتهم والمساس بأعراضهم دون وجل.

ما الذي جرى وما الذي غير الشعب المصري؟ لا شك أن التجارة الحرة قلبت الموازين وألحقت أضرارا فادحة بالاقتصاد. ولكن الأمر الأشد خطورة هو الضرر الذي لحق بالثقافة، فحين أصبحت لقمة العيش هي الهدف الوحيد في الحياة، سقطت كل القيم الأخرى، وعندما رفعت الحكومات يدها عن الخدمات الأساسية، تحولت الشعوب إلى ضباع جائعة تريد أن تنهش أي شيء في طريقها. وانضم الإعلاميون إلى أنظمة الحكم لتحقيق أكبر فائدة مالية ممكنة من خلال التهجم على المعارضين وسبهم وشتمهم وتلفيق الاتهامات لهم.

هناك مقول يرددها الناس وهي "العقول الصغيرة تتحدث عن الأشخاص والعقول المتوسطة تتحدث عن الأحداث والعقول الكبيرة تتحدث عن الأفكار". ونادرا ما يتحدث الإعلام المصري عن الأفكار، والإعلاميون يتحدثون دائما عن الأشخاص والأحداث دون الخوض في الأفكار.

ارتبط علم السياسة بعلم الاقتصاد، وأصبح تخصصا مستقلا يسمى "السياسة والاقتصاد" ولا يوجد تخصص اسمه "السياسة والثقافة الشعبية". ولكني أرى أن الارتباط وثيق في عالمنا العربي، وحري بالدول العربية أن تستحدث هذا العلم فنحن في العالم العربي ليس لدينا هوية ثقافية، وهي متقلبة حسب نظام الحكم. فإذا قال النظام "تدينوا" هرعنا إلى جلابيبنا، وإذا قال النظام "تعلمنوا" صرنا علمانيين قلبا وقالبا، على العكس من الدول المتقدمة التي يحدد الشعب فيها الهوية الثقافية وقد وصلت تلك الشعوب إلى مرحلة الاستقرار الثقافي، وبدأت بالعمل انطلاقا من أساس ثقافي ثابت، لذا فقد أنجزت الكثير وحققت الرفاه والأمن الغذائي والأمن الصحي والأمن المعيشي عموما.

إن إقناع الآخرين بوجهة النظر لا يكون بالسب والشتم والردح، بل بمناقشة الأفكار والارتقاء بلغة الخطاب، واتباع الأسس العلمية الكفيلة بتوصيل الفكرة. لذا فنحن في هذه البلاد، نبحث كثيرا عن المعلومات ولا نجدها في الدراسات الصادرة عن مراكز البحث العربية، بل في الدراسات الأجنبية. وإذا وجدت متحدثا عربيا عاقلا، فكن على يقين أنه متابع للدراسات الأجنبية، لذا فإن حديثه ثري ومليء بالمعلومات، ولا يسب ولا يشتم، لأنه واثق من عمق ودقة معلوماته. أما الذي يظل يدور في دائرة الدراسات العربية، فيشعر بالضيق والتوتر الشديد فيلجأ إلى رفع الحذاء لافتقاره إلى الأفكار.

إن النزاع قائم بين التيار الإسلامي والتيار العلماني، وإذا أراد الإعلامي أن يقنع الجمهور، فلا بد أن يكون لديه أفكار يقارع بها خصمه، ويحاول كسب الجمهور بالمنطق والحجة. فالذي يحارب التيار الإسلامي عليه أن يعرض أسبابه دون تلفيق الاتهامات الباطلة، وعليه أن يثبت أن العلمانية خير من التيارات الدينية من خلال قدرتها على توفير الأمن الغذائي والعيش الكريم والحفاظ على الأوطان. ومن يحارب العلمانية، عليه أن يقدم أسبابا غير التعري وشرب الخمر، فالناس يريدون أن يعيشوا بكرامة وأمن غذائي ومعظمهم لا يتعرون ولا يشربون الخمر. فما هي رؤيته للاقتصاد والتنمية؟ وهل يمكن البقاء على قيد الحياة في ظل التجارة الحرة؟

وأخيرا، من أراد النجاة بجلده، عليه ألا يسب الفلسطينيين، ولا يحاول إثبات حق اليهود في فلسطين، لأن هذا دليل على السقوط الأخلاقي. فمن كان لديه ظروف حرجة ومخاطر وشيكة، فليصنع ما يشاء لينجو بجلده، ولكن بعيدا عن التذاكي ومحاولة قلب الحقائق وتزوير التاريخ.