إغلاق عام في تونس على الورق وتمرّد على الأرض

في ما يشبه عصيانا مدنيا غير معلن، مقاه ومحلات تفتح أبوابها وتزدحم بروادها في اغلب محافظات البلاد ضاربة عرض الحائط بقرار اعلان حظر صحي الشامل على خلفية تصاعد غير مسبوق لتفشي كورونا.

تونس – طبع التمرد ودعوات استقالة الحكومة الأيام الأولى من اغلاق عام مفترض اقرته الحكومة التونسية نهاية الأسبوع في ما بدى اشبه بعصيان مدني غير معلن خاصة، خارج حدود العاصمة، وفصلا آخر من أزمة ثقة في الحكام خاصة مع بلوغ الأزمة الاجتماعية ذروة جديدة لم تبقي لقطاع واسع من التونسيين ما يخسرونه.

ويتزامن الأجراء الذي طالما تفادت السلطات إقراره على مدى الأشهر السابقة مع مؤشرات اقتصادية سلبية غير مسبوقة دفعت الحكومة الى بدء مفاوضات جديدة مع صندوق النقد الدولي للحصول على قرض مقابل التعهد بإصلاحات قد تطال الدعم والأجور.

والجمعة أعلنت الحكومة هشام المشيشي فرض اغلاق تام في البلاد طوال أسبوع عيد الفطر لمكافحة عودة انتشار فيروس كورونا محذرة من ان القطاع الصحي مهدد "بالانهيار".

وتشمل القيود المعلنة حظر تجوال ليلي بدءا من الساعة السابعة مساء وحتى الساعة الخامسة صباحا ومنع التنقل بين المدن باستثناء الحالات الاستعجالية وتعليق التظاهرات الرياضية ومنع ارتياد المساجد والفضاءات الدينية.

وسمحت الحكومة لقطاعات حيوية محددة فقط بالعمل في فترة الحجر الصحي تشمل أساسا التموين والصحة ومحطات التزود بالوقود.

وخلال ندوة صحفية القى هشام المشيشي باللائمة على التونسيين الذين "لم ينخرطوا بالشكل المطلوب في جهود الدولة من أجل التصدي للفيروس" وفق زعمه.

وأكد المشيشي أن بلاده تواجه أكبر أزمة صحية في تاريخها كما اعتبر أن المنظومة الصحية على وشك الانهيار بفعل تزايد حصيلة الإصابات بالفيروس.

ولفت رئيس الحكومة إلى أن الوضع الوبائي أماط اللثام عن قصص معاناة بلغت حد اضمحلال عائلات بأكملها وإيواء عائلات أخرى في أقسام الانعاش.

ثورة على فيسبوك

ودقائق بعد انتهاء خطاب رئيس الحكومة، غزت شبكات التواصل موجة احتجاج على اجراءات اعتبرت مفاجئة ومتأخرة كثيرا.

وكان المشيشي أكد في اكثر من مناسبة ان الاغلاق العام خيار غير مطروح مستندا لعدم جدواه مع توسع التفشي وانتشاره في كل العائلات تقريبا.

والقى تونسيون باللائمة على رئيس الحكومة في تعطيل فرض حظر صحي شامل مطلع رمضان كان يمكن ان يجنب البلاد الوضع الوبائي الحالي.

وبلغ معدل ضحايا كورونا  اليومي في الأيام الأخيرة وفق رئيس الحكومة مئة وفاة، في رقم مفزع مقارنة بعدد السكان الاجمالي الذي لا يناهز 12 مليون نسمة.

وقارنت منشورات على فيسبوك بين عدد الوفيات بسبب الأزمة الصحية عند تسلم حكومة المشيشي زمام الأمور وبين الوضع الحالي.

وبالمحصلة فان ما كان يمثل حصيلة وفيات ستة أشهر من التفشي اصبح معدلا يوميا في الاسابيع الاخيرة.

ويقول اخصائيون أن فتح الحدود في يونيو/حزيران 2020 بعد تسجيل صفر حالات إصابة وعدم إجبار الوافدين من الخارج على الحجر الصحي، ساهم فيما تمر به البلاد اليوم من تدهور صحي.

وتضاعفت الاستخافاف بالاجراءات الحكومية ساعات بعد الاعلان عنها مع اعلان التراجع عن قراري غلق المساحات التجارية الكبرى ومنع سيارات الأجرة من العمل.

واتهم تونسيون على شبكة فيسبوك الحكومة بالمحسوبية والانتقائية في تطبيق قرارها، متوعدينها بالضرب عرض الحائط بكل اجراءتها.

فوضى في محطات النقل

وبعيدا عن شبكات التواصل، سارع الآلاف من العمال والعائلات  والطلبة إلى الإقبال على محطات النقل للسفر إلى الولايات الداخلية لقضاء عطلة العيد بين أهاليهم في وقت قياسي بعد إعلان قرار الحكومة ما أدى إلى حالة من الزحام قبل ساعات من بدء الحجر الصحي اليوم الأحد.

وتكرر نفس المشهد يوم السبت، ما دعى خبراء للتساؤل عن فعالية الحظر الصحي المباغت حتى قبل بدايته بسبب مفعوله العكسي على التجمعات، متسائلين عن سبب عدم اعلانه قبل ايام لاجنب مضاهر الفوضى والتسابق على السفر.

وليلة السبت جاء اول اعلان تمرد رسمي باعلان فرع منظمة الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية (الأعراف) رفض القرارات التي اتخذتها الحكومة وأوضح بيان "قررنا مواصلة النشاط التجاري" وذلك "بالنظر الى الظرف الاقتصادي الصعب الذي يمر به أغلب التجار".

حجر صحي لا شاملا ولا حتى جزئيا

والأحد مع دخول الحجر الصحي الشامل حيز التنفيذ، كانت الحياة شبه طبيعية في اغلب جهات البلاد بشكل لا يوحي اطلاقا بوجود اي طارئ صحي، بل ان ساعات الليل الاولى كشفت خاصة في دواخل تونس ان مستوى الالتزام بالاجراءات الصحية تراجع بعد تشديدها.

ونقلت وسائل اعلام محلية ان عددا من الأسواق في محافظات داخلية فتحت الأحد وسط اكتظاظ وازدحام كبيرين.

وشكلت العاصمة الاستثناء الرئيسي، اذ طبع الكر والفر بين التجار القوات الأمنية الساعية لغلق محلاتهم الساعات الاولى للصباح كما تشددت الأخيرة في مراقبة حركة السيارات في الشوارع الرئيسية للعاصمة والتدقيق بتراخيص النقل الاستثنائية.

وأغلقت عناصر من الشرطة السوق المركزي بالعاصمة وسط تذمر بضع عشرات من الأشخاص الذين يودون شراء المواد الغذائية والخضروات.

من جهة اخرى قام عشرات من سائقي سيارات الأجرة بالتجمع واغلاق احد شوارع العاصمة الرئيسية مطالبين باستنثنائهم من من الجولان، وهو ما استجاب له المسؤولون بعد ساعات قليلة.

والاثنين ايضا، غابت جميع مظاهر الحجر الصحي الشامل بأغلب المحافظات، حيث فتحت عدة أسواق وبدت حركة المرور عادية فيما تجمع بعض التجار في مناطق شهدت منعهم من العمل امام مقرات المحافظات للاحتجاج.

وفي العاصمة، اعترف مسؤول بلدي بتمرد  التجار وأصحاب محلات بيع المواد الغذائية بالسوق المركزية بالعاصمة  على قرار الاغلاق، معبرا في تصريح لراديو موازييك عن تفهمه لرد فعلهم في غياب تعويضات وإجراءات تؤمن حاجياهم.

وشدد المسؤول البلدي على رفضه التصعيد مع التجار بفرض خطايا مالية أو عقوبات أخرى لعدم اقتاعهم (هو وبقية المسؤولين البلديين) بقرارات رئاسة الحكومة الأخيرة، في موقف يوضح وصول حمى التمرد الى المسؤولين على انفاد القانون.

وهذا التعاطي "الناعم" لم يكن شاذا على الاطلاق، بل انه يفسر غياب اي تقيد بالاجراءات الصحية الجديدة خارج حدود العاصمة، اذ لم تحاول القوات الأمنية في مدن كثيرة فرض اي نوع من انواع الالتزام بالقيود الصحية او حتى بحظر الجولان الليلي.

"اذا كان رب البيت للدف ضاربا"

وفي الحقيقة فان التهاون في تطبيق الاجراءات الصحية لم يكن حكرا على المواطنين اذ ضربت الرئاسات الثلاث ايضا موعدا مع الاستهانة بها.

والأحد مع انطلاق الحجر العام، زار رئيس البرلمان راشد الغنوشي محافظة القصرين لأداء واجب العزاء في "أحد المتعاطفين مع حركة النهضة".

وفضلا عن عدم تقيد الزعيم الاخواني بقراري منع السفر بين المدن ومنع التجمعات، خرق العنوشي قرار اللجنة الصحية الذي يجبر كل العائدين من خارج البلاد على حجر ذاتي منزلي لمدة اسبوع، وهو اجراء يستثني زيايات المسؤولين الرسمية.

والخميس عاد الغنوشي من زيارة الى قطر قالت حركة النهضة انها غير رسمية وحزبية.

من جهة اخرى، تداول اعلاميون ليلة الأحد خبر اقامة رئيس الحكومة مأدبة عشاء على شرف عدد من الصحافيين مستنكرين عدم تقيد رأس السلطة التنفيذية نفسه بالقرارات التي اعلنها.

والاثنين، انتقدت الناطقة الرسمية باسم الحكومة  حسناء بن سليمان خلال تدخل في اذاعة شمس اف (خاصة)  تنقل رئيس الجمهورية قيس سعيد رغم الإجراءات التي أعلنت عنها الحكومة واعتبرت ان سلوكه يمس من مصداقية قرارات الدولة.

وقالت بن سليمان أنه على المسؤولين، مشيرة الى رئيس حركةالنهضة ايضا، الالتزام بالإجراءات بقدر ما تطلبه أداء مهامهم وذلك من أجل إعطاء المثال للمواطنين.

وفي ظل رفض شعبي للاغلاق العام وفشل حكومي في التعاطي مع الأزمة الصحية، تشير كل المعطيات الى اتجاه الوضع الصحي لمزيد من التعقيد.

وخلافا لنسبة الوفيات والاصابات القياسية في تونس، مقارنة مع الموجة الاولى والثانية من الوباء، يبدو ان قرار الحظر الشامل جاء تحت ضغط ازمة نقص حاد في الأكسيجين.

وتواجه البلاد اليوم سباقا مع الوقت من أجل توفير مادة الأكسيجين التي تزايد الطلب عليها مع اشتداد حدة التفشي. يعالج راهنا أكثر من 500 شخص داخل أقسام العناية المركزة وهذا رقم غير مسبوق منذ بداية الجائحة في آذار/مارس 2020، أمّا أسرة الأكسيجين فهي مستغلة بنسبة 80 في المئة.

كما لا تستبعد تونس وصول موجات أشد للبلاد خصوصا مع انتشار المتحور البريطاني وتبدو المخاوف جدية بالنظر الى تباطؤ وتيرة حملة التطعيم ضد الفيروس التي انطلقت نهاية آذار/مارس الفائت، اذ لم يتم تلقيح سوى حوالى 333 ألف شخص بسبب مشاكل في التزود باللقاح واخلالات في عمليات التسجيل.