إليوت موهبة فذة قاومت الأرض الخراب

الشاعر أسهم في تشكيل ثقافة القرن العشرين بين الحربين العالميتين، واستطاع أن يُحيي أمجاد الشعر الإنجليز.
التناغم ينتقل بدوره كاملاً إلى داخل القارئ والمتلقي، بمجرد الانتهاء من قراءة العمل
جوهر الفن يكمن في التركيز والتكثيف والتلميح والتجريد، والتجسيد في آن واحد.

ت. س. إليوت جزء من تاريخ الشعر والأدب في العالم، ساهم في تشكيل ثقافة القرن العشرين بين الحربين العالميتين، واستطاع أن يُحيي أمجاد الشعر الإنجليزي، وأن يقوض التقاليد البالية في الشعر والمسرح، وأن يشيد تقليداً جديداً للتعبير الشعري. 
قال عنه النقاد "إنه أعظم شاعر وأديب إنجليزي في عصره". وكان الشعر لديه فضاءات رحبة من الرؤى والأفكار، فقد آمن إليوت: أن المعيار الحقيقي للعمل الفني، يكمن في مدى التناغم بين عناصره المختلفة والمتناقضة، ويصل إلى قمته في نهاية العمل، وهو التناغم الذي ينتقل بدوره كاملاً إلى داخل القارئ والمتلقي، بمجرد الانتهاء من قراءة العمل.
ولد توماس سترنس إليوت في 26 سبتمبر/أيلول 1881، في مدينة سانت لويس بميسوري في الولايات المتحدة الأميركية، لأسرة تنحدر من أصلاب مهاجرين، قدموا من ديفو نشاير بإنجلترا، واستوطنوا العالم الجديد، وقد عملت أسرة إليوت بالكتابة الأدبية، ابتداء من القرن التاسع عشر، ومروراً بالحرب الأهلية.
كان توماس هو الابن السابع والأخير، لأبيه هنري وير إليوت الذي عمل موظفاً، ثم مديراً لإحدى شركات الطوب بمدينة سانت لويس. أما أمه فكانت ذات نزعة فكرية واضحة، وتكتب الشعر أحياناً متأثرة بجدها، ونشرت كتاباً عن مسيرة حياة عائلة إليوت، وقصيدة مسرحية مطولة، وتلقى إليوت تعليمه في أكاديمية سميث، ثم التحق بجامعة هارفارد عام 1906، وأنهى دراسته للفلسفة عام 1909، ثم قضى عاماً يدرس فيه الفلسفة بمدرسة الدراسات العليا في هارفارد، وذهب بعده إلى باريس حيث قضى عاماً آخر (1910-1911) يدرس الأدب الفرنسي والفلسفة بجامعة السوربون. وهناك كتب ديوانه "أغنية حب لألفريد بروفروك"، ثم عاد إلى أميركا في خريف عام 1911، وأمضى السنوات الثلاث التالية في هارفارد، حيث عمل محاضراً مساعداً في الفلسفة، وأخذ يوسع نطاق دراساته، فلم تعد قاصرة على الميتافيزيقا والمنطق وعلم النفس، بل شملت أيضاً علم الاجتماع، وفقه اللغة الهندية والسنسكريتية، وفي صيف عام 1914 سافر إلى ألمانيا، وقضى بها الشهور القليلة السابقة لاندلاع الحرب العالمية الأولى.
وقد شهد عام 1910 تحولات مهمة في حياة إليوت، وكان زواجه تجربة ملهمة له كشاعر، وبداية صداقة بينه وبين الشاعر الأميركي عذرا باوند، الذي كان له الفضل في اكتشاف موهبة إليوت الشعرية، ونشر له أولى قصائده "أغنية حب ج.. الفريد بروفروك" في مجلة (شعر) عام 1915. 
وقد استطاعت هذه القصيدة أن تلفت أنظار النقاد إلى حجم وموهبة إليوت وفرادته الشعرية. وعبر تنامي الآلام وتراكمها في حياة الشاعر، ظهرت قصيدته المهمة "الأرض الخراب" التي نشرت عام 1922. حيث لم تخرج القصيدة من فراغ، بل كانت أوروبا تشهد حالة من المخاض الثقافي الجديد، ففي نفس العام نشرت رواية "أوليس" لجويس.
وكان إليوت قد رحل إلى انجلترا، التي عاش بها حتى آخر أيام حياته، وذلك في أيام الحرب العالمية الأولى. وعمل هناك مدرساً بمدرسة "هاي جيت" الثانوية حتى عام 1917، ثم انتقل للعمل في بنك لويدز حتى عام 1922، وبدأ العمل كمحرر مساعد لمجلة "الذاتي"، وواصل هذا العمل حتى عام 1919، وفي تلك الأثناء ظهر ديوانه الأول، الذي وضعه في مقدمة شعراء جيله بما فيها من أصالة، وتفرد غير مسبوق في تاريخ الشعر الإنجليزي.
ويرى نقاد إليوت أن محاولته الأولى لتوطيد مكانته الاجتماعية في أوروبا كانت فادحة الثمن. لأنها أدت إلى زعزعة استقراره النفسي، فقد عاش خلال زواجه الأول نوعاً من الجحيم الأرضي، وقد زعزع هذا الجحيم استقرار إليوت النفسي، ودفع به وسط دوامة من الانفعالات والتعاسات، إلى الحد الذي دفع إليوت إلى التقوقع والاغتراب.

يمثل شعر إليوت محاولة جادة وصعبة، لجعل اللغة تعبر عما نريد منها أن تعبر عنه، وهي محاولة للتعبير عن الذات على أساس فهم كامل. وقد مر شعره بثلاث مراحل” الأولى (1914-1920)، وتميزت بالنبرة الغنائية الواضحة، واستلهام الأساطير القديمة، وأما المرحلة الثانية التي تمتد حتى عام 1925، فقد اجتاز إليوت هذا الإطار الغنائي، ليأخذ بتفاصيل الحياة اليومية المألوفة، مما حقق مقدارا من الصدمة الشعرية الموقظة للحس والإدراك معاً. وفي المرحلة الثالثة التي بدأت بعد عام 1925 وحتى آخر أشعاره، سنجد أن الشاعر طرح هذا العالم الخارجي الموحش وراء ظهره، وراح ينقب في أعماق النفس، ويجسد من خلالها رؤى متقدة لما يحيط العالم من دمار.
وإذا كانت "أغنية حب الفريد بروفروك" هي قمة النضج في المرحلة الأولى للشاعر، فإن قصيدة "الأرض الخراب" هي بلورة لمرحلته الثانية، والتي عبر فيها عن إنسان القرن العشرين، والذي تمزقه الحيرة ويعذبه الملل والمكاشفات الصادمة، أما قصيدة "الرجال الجوف" فتعد امتداداً للقصيدة السابقة، ومعها قصيدة "أربعاء الرماد" والتي قدم فيها الشاعر موقف الإنسان تجاه هذه الحضارة والمدينة التي يفتش في أرجائها العقم. لقد اعتقد إليوت أنه ولد في عصر يعاني من أزمة، اضمحلت عصر المعتقدات القديمة وأدرك أن مهمته لا تتمثل في مواصلة تقليد، لأنه كان عليه أن يوجد طرقاً للتعبير عن أفكار جديدة. وكان يدرك أن هذا هو نفس التحدي، الذي واجه كل من سبقوه من الشعراء والكتاب.
واهتم إليوت بالمسرحية الشعرية، فكتب مسرحية "الصخرة" 1934، و"جريمة قتل في الكاتدرائية" 1935، وتدور أحداثها حول مقتل الأسقف توماس بيكت في كاتدرائية كانتربري عام 1170، وذاع صيته ككاتب مسرحي من خلال أربع مسرحيات أخرى، هي "التئام شمل الأسرة" 1939، و"حفلة الكوكتيل" 1949، و"الموظف المأمون" 1953، و"السياسي الكبير" 1958، وقد ترجمت أعماله إلى لغات عديدة، ومن بينها اللغة العربية، حيث ألقى بتأثيره الشعري على عدد كبير من شعراء الحداثة العرب، ومن أبرزهم الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور. وقد آمن إليوت بأن الشعر هو روح الدراما، كما أن الدراما جوهره، كما هي جوهر أي فن آخر. ولذلك فهو لا يجد أي فجوة بين كتابته لقصائده المتعددة، وبين ممارسته للمسرحية الشعرية، فالتفريعات الفكرية والشعرية تكاد تكون واحدة، مما يساعد القارئ على الإحساس ببصمات إليوت على كل السطور التي يمر بها.
فاز إليوت بجائزة نوبل كشاعر في عام 1948، وقد عددت الأكاديمية السويدية حيثيات الفوز، والتي أظهرت مسئولية الشاعر والتزامه بقضايا الوطن، وتغلغله في النفس الداخلية، ودوره الريادي في التعبير الشعري الجديد، والذي ينتمي بقوة إلى التقنيات الأدبية في القرن العشرين. 
وإضافة لإسهامات إليوت الشعرية والمسرحية، برز دوره في مجال النقد، فقد قامت نظريته على أساس مناقض للرومانسيين، والذين آمنوا بأن الشعر التعبير التلقائي والعفوي عن أحاسيس الشاعر هو الخاصة. ولذا كان يرى أن الشعر هو التوليف الهادئ والمتزن، والواعي للعواطف التلقائية والعفوية الصاخبة، التي اجتاحت وجدان الشعر قبل أن يكتب قصيدته. وأن جوهر الفن يكمن في التركيز والتكثيف والتلميح والتجريد، والتجسيد في آن واحد. (وكالة الصحافة العربية)