شولوخوف الهادئ خطف نوبل وذهب بعيدا إلى العزلة

الروائي الروسي كتب رائعته 'الدون الهادئ' عام 1928، ولم ينته منها إلا بعد اثني عشر عاماً، واعتبرت بمثابة الرواية الأعظم عن الحرب العالمية الأولى.
أعمال ميخائيل شولوخوف شكلت تيار رواية الحرب

تعتبر رواية "الدون الهادئ" ملحمة تاريخية أبدعها الروائي الروسي ميخائيل شولوخوف، إنه الكاتب الذي حظي  بالتكريم والاحترام سواء في وطنه أو على الجانب الآخر الذي يمثله المعسكر الغربي الذي كان يستقطب معظم الكتاب المعارضين للنظام الشيوعي، ونال شولوخوف جائزة نوبل عام 1965، بعد عام واحد على رفض الأديب والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر لها، والذي قال في تبريره للرفض: لماذا لم تمنحوا الجائزة لشولوخوف وهو أجدر الكُتاب بها؟
وقد رحبت السلطات الروسية بمنح شولوخوف الجائزة، واعتبرته نصرا للأدب الروسي، على عكس ما حدث عام 1958، عندما فاز بها بوريس باسترناك، الذي امتنع عن استلامها حسب تعليمات السلطات، لكونها منحت عن روايته الشهيرة "دكتور زيفاجو" والتي تحوي انتقادات للسياسات السوفيتية.
ولم يكن لفوز شولوخوف أدنى مفاجأة، لمكانته في نفوس المثقفين، منذ أن نشر روايتيه "الدون الهادئ" و"الأرض البور" اللتين صور فيهما آلام الحرب، ونضالات الإنسان من أجل العدالة وإخصاب الأرض. وهو من أبرز الكتاب الملتزمين الذين رصدوا كل تجاربهم للتعبير عن الواقع الذي يعايشونه، فهو لم ينفصل قط في كتاباته عن عنف وصلف المجتمع القوزاقي من أهليه، وإليهم أهدى كل ما أبدع، ومن أجلهم توجه العالم بهذه الجائزة الكبرى، حتى أنه عندما سئل عن شعوره بنيل الجائزة قال: "إني مسرور جداً بدون شك، والمهم هو ما أحسست به نحو مجد بلادي، وكذلك نحو الأدب السوفياتي. لأن هذا الشعور أكثر أهمية وأوفر من قيمة الإحساسات الشخصية".
ولد شولوخوف في 24 مايو/أيار 1905 بأوكرانيا -قرب الدون- وكان أبوه وكيلاً لعدة بيوت تجارية، وقد مارس الفتى العديد من المهن قبل أن يتجه إلى الكتابة، ويتتلمذ على يد الكاتب سير أفيمونتش، ليضع عينيه على حياة القوزاق وسلوكهم، والتي وصفها في القسم الأول من "الدون الهادئ"، وقد منعته الحرب الأهلية من إتمام دروسه في التدريب الرياضي، واضطر لأن يعمل وهو في سن الخامسة عشرة كاتب تجاري، ثم كمصدر للبضائع، وساهم في نفس الوقت في الصراع المثلث مع الحمر، وضد القوازقيين الثائرين في 1919 – 1920، وقد ألف قطعاً مسرحية شارك في تمثيلها بحماس على مسرح بلدته.

كانت أعمال شولوخوف شاهدة على كون أكثر رحابة، ونزعة إنسانية أكثر صفاء. وشكلت تياراً أدبياً فائق الغزارة في الاتحاد السوفيتي، وهو تيار رواية الحرب

كتب شولوخوف رائعته "الدون الهادئ" عام 1928، ولم ينته منها إلا بعد اثني عشر عاماً، والتي اعتبرت بمثابة الرواية الأعظم عن الحرب العالمية الأولى، والثورة الروسية، كما اعتبرت بمثابة "الحرب والسلام" القرن العشرين، والتي أبدعها مواطنه ليوتولستوي في القرن الماضي.
ولم يشأ شولوخوف أن يكرس جهده الإبداعي لعمل واحد ضخم، فكتب رواية ثانية عن القوزاق بين عامي 1933، 1960 تحت عنوان "أراضي الإصلاح" وفي عام 1942 قدم رواية عن الحرب العالمية الثانية باسم "علم الكراهية"، واستفاد من عمله كمراسل حربي، فكتب رواية ثالثة ضخمة بعنوان "إنهم يناضلون من أجل الحرب" استغرقت كتابتها نحو اثني عشر عاماً ما بين عامي 1943، 1969 وفي أثناء تلك الفترة كان قد انتهى من رواية "مصير إنسان" عن الحرب العالمية أيضاً.
كانت أعمال شولوخوف شاهدة على كون أكثر رحابة، ونزعة إنسانية أكثر صفاء. وشكلت تياراً أدبياً فائق الغزارة في الاتحاد السوفيتي، وهو تيار رواية الحرب، ولكنها مع ذلك لا تتوصل دائماً إلى تجنب الالتزام، والاتكاء على المأساة وتصوير أهوال الدمار، فقد اقتلعت شولوخوف الحرب من جذوره في سنة 1940، كما فعلت بالنسبة لملايين السوفييت الذين وجهتهم حركات الشعب العملاقة. وقد أرسل إلى جميع الجبهات كمراسل حربي. وكتب عدداً من المقالات والمؤلفات الصحفية بين عامي 1941، 1949، وكانت هذه المقالات بمثابة تمهيد لمؤلفه "مصير إنسان" الذي صدر الجزء الأول منه في عام 1959، والجزء الثاني في عام 1967.
نجح شولوخوف من خلال روايته "الدون الهادئ" في أن يحقق التوافق بين حضور العنصر التاريخي والعنصر الإنساني. إذ يرى النقاد أن أسلوبه في سرد وقائع الثورة كان أشبه بما فعله هوميروس عن حرب طروادة في "الإلياذة"، فالحقد فتح باباً لكشف العواطف الإنسانية، فمثلما كان هكتور أكثر إنسانية من كافة أبطال المأساة اليونانية، فإن غريغوري كان أكثر إنسانية مع كل من حوله، وهو البطل المحوري للرواية، وهو الشخص الذي لم يجد مكاناً له بين الثوار، ولذا عاش حياته مغامراً وينتقل من مأساة لأخرى فهو يختلف مع الثوار مثلما يختلف مع الأشخاص الذين ينتمون إلى عهد القياصرة والنبلاء.
وهنا تتجلى ترددات الكاتب أمام الحياة الجديدة أو الثورة البلشفية، فبطله غريغوري يساهم في الثورة المضادة للقوزاق ضد السلطة السوفيتية، فينضم إلى الجيش الأحمر، ثم يرتد بفعل حياته الماضية، وينسحب إلى قريته (وهو ما فعله شولوخوف)، فهو يمثل الرجل الذي لم يهتد إلى طريقه خلال الثورة.
ويكشف شولوخوف من خلال روايته عن المظهر اللا إنساني للحرب، ونهاية نمط من الحياة يسوده نظام الأبوة، والأمل بمجتمع جديد. فالطريق يبدو متسعاً في البداية، لكنه لا يلبث أن يضيق أكثر فأكثر. وعليه أن يعبره حسبما هو مكتوب.. وفي النهاية فإن الطريق يعود للاتساع مرة أخرى.
وتبرز العديد من التناقضات داخل أحداث الرواية، فالكاتب يضع القارئ أمام حالات من السعادة تعقبها حالات حزن أو حياة ثم موت، وهكذا تسير الأشياء في الحياة والرواية، فالشخصيات الرئيسية تحيا على الطريقة المأساوية، التي يتخللها قليل من الفرح، ولهذا فإن ناتالي زوجة غريغوري تكافح طيلة حياتها من أجل الحصول على الفردوس المفقود، وفي "الدون الهادئ" الكثير من صور العبثية، مثل عبثية الحرية والبطولة والثورة والفقر، واستخدام لتقنيات الملحمة اليونانية، مثل الترديدات الغنائية التي تتخلل الرواية من أجل التعليق على الأحداث.
لم يترك شولوخوف مقاطعته التي عاش فيها وكتب أعماله الرائعة بين أحضان طبيعتها الساحرة، إلا من أجب إقامات قصيرة في الخارج، ليعود مرة أخرى إلى موطنه الصغير، ويرفض دعوة السلطات له بالإقامة في موسكو، لعيش حياته الهادئة، قرب الدون، حتى وفاته في 21 فبراير/شباط عام 1984، عن عمر ناهز الثمانين، كرسه للإبداع والإبحار بين ثنايا الحياة الروسية الجديدة. (وكالة الصحافة العربية)