إنجي أفلاطون .. سجنها عبد الناصر وكرمها العالم

التشكيلية المصرية نسيج فني وإنساني متفرد في رؤاه وأفكاره وهمومه وقضاياه الإنسانية والوطنية والسياسية
مكتبة الاسكندرية تحتفي بالتشكيلية المصرية اليسارية المناضلة
إنجي أفلاطون تعد من أهم فناني وفنانات الجيل الثالث للحركة التشكيلية في مصر

تعد الفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون نسيجا فنيا وإنسانيا متفردا في رؤاه وأفكاره وهمومه وقضاياه الإنسانية والوطنية والسياسية، فهي علامة في مسيرة ريادة فن الرسم التصويري المصري وكذا في مسيرة الحركة النسوية المصرية، وكذا في النضال من أجل الحرية والكرامة لمصر والمصريين سواء في الفترة الملكية، حيث قدمت معرضها الخاص الأول عام 1951 والذي غلب عليه الطابع الواقعي الاجتماعي سواء في اللوحات التي عبرت فيها عن هيمنة الرجل على مقدرات المرأة أو اللوحات التي صورت الكفاح المسلح ضد قوات الاحتلال البريطاني مثل "لن ننسى" التي عبرت عن شهداء الفدائيين في معارك قناة السويس، أو خلال حكم جمال عبدالناصر الذي زج بها في السجن لخمس سنوات "1959 ـ 1963" في إطار حملته الشرسة ضد الحركة اليسارية عموما والشيوعية تحديدا. 
ولدت إنجي التي كرمها العالم واحتفى بأعمالها عبر مقتنيات لها في مختلف المتاحف في 16 أبريل/نيسان 1924، بقصر من قصور القاهرة وتلقت تعليمها في مدرسة القلب المقدس الفرنسية الداخلية، ثم في مدرسة الليسية الفرنسية حيث حصلت على شهادة البكالوريا. وانطلقت من السريالية منهجاً للتعبير عن نفسها فنياً حيث بدأت مشوارها الفني بلقائها مع السينمائي والتشكيلي الرائد كامل التلمساني ثم انضمامها لجماعة "الفن والحرية" التي ضمت بين أعضائها محمود سعيد وفؤاد كامل ورمسيس يونان. وقدمت خلال مسيرتها 26 معرضا محليا ودوليا فضلا عن مشاركتها في عشرات المعارض الجماعية محليا ودوليا أيضا، الأمر الذي جعلها تحظى بتقدير مختلف الأوساط الفنية شرقا وغربا. 
وهذا المعرض الذي أقامته إدارة المعارض والمقتنيات الفنية التابعة لقطاع التواصل الثقافي بمكتبة الإسكندرية لمجموعة من لوحاتها بعنوان "رسوم إنجي" بلغ 40 لوحة أصلية سوف تنضم إلى مجموعة المقتنيات الفنية لمكتبة الإسكندرية، وجاءت المجموعة إهداء من ابن شقيقها حسن جلال.
افتتح المعرض أخيرا حيث أشار جمال حسني مدير إدارة المعارض والمقتنيات الفنية بالمكتبة إلى أن إنجي أفلاطون تعد من أهم فناني وفنانات الجيل الثالث للحركة التشكيلية في مصر، والذين تألقوا في فترة محورية من تاريخ مصر المعاصر وتحديدًا في النصف الثاني من القرن العشرين، إلا أن إسهاماتها الفنية الغزيرة تجاوزت حدود جيلها، فأصبحت تحتل مكانة رفيعة في الساحة الفنية حتى وقتنا هذا، حيث جاءت موضوعاتها عن الريف المصري، وحياة المزارعين البسطاء، ومشاهداتها في مصر وخارجها من منظور شخصي وإنساني، وعبرت عن ذلك باقتدار فني متميز بالبساطة والعمق المبهر في آن واحد.

حصلتُ على الجائزة في الرسم قدرها مائة جنيه وقد سبب هذا حالة الاحترام داخل السجن والإحساس بأنني فنانة كبيرة، ووافق حسن الكردي وأحضر لي مجموعة ألوان سيئة جداً وقماش من أرخص الأنواع

وكتبت الفنانة التشكيلية والناقدة د.أمل نصر في تقديمها للوحات المعرض "هذه المجموعة هي تجربة عميقة رغم بساطتها الظاهرة؛ فهي تكشف عن عاطفة فنية فريدة في أجلى ظهور لها، فتتيح تلك الرسوم السريعة الكشف عن روح الفنان دون تقيد أو تعثر، ودون حضور كبـيـر من العقل الواعي الذي يتدخل غالبا ليؤطر تجربة الأعمال التصويرية الكاملة. وإنجي إفلاطون تمتلك خبرة التأمل البـصـري والتفاعل الحي مع البيئة المحيطة، ما جعلها تصيغها بحرية وطلاقة ظهرت في تلك الرسوم. ويعد هذا الانفعال الذي قدمت به إنجي رسومها الوقود الأساسي الذي يحرض الذاكرة لتلقي بمفرداتها بشكل متواتر ترجمته الفنانة بخطوط متقطعة وسريعة، وأحيانا بألوان شفافة، وأحيانا أخرى بنقاط تبدو وكأنها زخات مطر مفاجئ، وذلك عبر أشكال متناثرة تنغم المسطح بإيقاعات نابضة تسري كأصوات الطبيعة لتتسلل برهف إلى أسماعنا وعيوننا. والرسوم السريعة تجعل حواس الفنان في حالة يقظة وحدة تتيح له الالتقاط السريع لأهم الخطوط المعبرة عـمـا يرسم، والانتباه لعطايا الحياة والطبيعة من حوله. وهذه التلقائية التي نراها في تلك الرسوم هي ثمرة فترات طويلة من العمل والتواصل مع التجربة الفنية والانغاس فيها. فتبدو الرسوم وكأنها جاءت محض تلق أو انطلاق، يكاد يختفي فيها كل أثر لبذل الجهد، وتكون هذه الرسوم الأكثر تعبيرا عن روح الفنان وسماته الفردية.
وتشير نصر إلى أن إنجي تمارس ما يسمى باللعبة الحرة، وذلك من خلال الأداء السريع الذي يعد سندا مهما للاحتفاظ بالتلقائية، وتقول "تمنحنا المجموعة نزهة مع روح الفنانة الكبيرة التي تنثر لنا في فضاء الصورة أشكالها ومفرداتها بشكل متدفق وسريع، ولكنه محكوم بنظام خاص نظام تقوده العاطفة وليس العقل".
ويذكر أن إنجي أفلاطون قد سجلت مذكراتها وحررها وأعدها للنشر صديقها القاضي سعيد خيال، وفيها تسرد المحطات الرئيسية في حياتها، ونشرت تحت عنوان "مذكرات إنجي أفلاطون من الطفولة إلى السجن"، تقول عن بداياتها "هويت الرسم منذ طفولتي، وكنت أرسم اسكتشات صغيرة لبعض ما أشهده في رحلاتي مع أبي وكانت عائلتي على دراية بموهبتي الفنية وتحاول أن توفر لي دروساً في هذا الميدان. إلا أن هذه الدروس لم تخرج عن تكبير بعض البطاقات البريدية أو النقل السطحي من الطبيعة مما نفرني منها ـ من هذه الدروس ـ وجعلني أتمرد عليها".
وتحكي إنجي عن لقائها بكامل التلمساني "كان كامل التلمساني فناناً تشكيلياً طليعياً، يعد بلا جدال، من أبرز فناني جيل الأربعينيات وأكثرهم جرأة. في ذلك الزمن كان من الصعب أن يعيش الفنان من عائد لوحاته فكان التلمساني كغيره من الفنانين يجد صعوبة مادية في حياته، وكانت إحدى صديقات أمي تعرف الفنان كامل التلمساني. عرفت هذه السيدة أني أحتاج لدروس في الرسم، واقترحت على أمي اسم الفنان كامل التلمساني فلما وافقت أمي اتفقت صديقتنا هذه معه على ذلك نظير جنيهين في الشهر. ولا أنس ما قاله لي كامل فيما بعد من أنه قبل هذا العمل يائساً من أي نتيجة، بل واعتبره مضيعة للوقت وتنازلاً عن مبادئه لأنه لا فائدة يمكن أن ترجى من إحدى بنات البرجوازيات الكبيرة التي لا شك ترغب في تعلم الرسم كما تتعلم الطبخ والحياكة والبيانو أي كنوع من الديكور الضروري لها. لقد خاب ظن كامل التلمساني وبقدر ما خاب ظنه كان تقدمي وانطلاقي. لم يكن قد مضى وقت طويل حتى أدركت أن دروس التلمساني ليست دروساً في الرسم فقط، بل نافذة ساحرة على الحياة وعلى مصر الحقيقية. نافذة على المعنى الحقيقي للفن، الرسم ليس إلا التعبير الصادق عن المجتمع والذات. هكذا تعلمت من التلمساني". 

fine arts

عن سجنها في فترة حكم جمال عبدالناصر، تشير إنجي "لقد كانت هذه الفترة من ١٩٥٩ حتى ١٩٦٤ تمثل حملة شرسة على الحركة اليسارية عموماً والشيوعية تحديداً، كانت محاولة لتحطيم الحركة الشيوعية والقضاء عليها، فبالنسبة للمعتقلين الرجال فقد تعرضوا، كما هو معروف، لأبشع أنواع التعذيب الجسماني والأشغال الشاقة، أما بالنسبة للنساء فكانت هذه أول مرة يتم فيها اعتقال نساء وقد حرصت السلطة على إخفاء خبر اعتقالنا وكانت الأوامر حاسمة يمنع نشر أي شيء يتعلق بهذا الموضوع في الجرائد ووسائل الإعلام وقد اعتمدوا على نوع آخر من التعذيب، أنه التعذيب المعنوي الذي يهدف إلى تحطيم أعصابنا وإضعاف معنوياتنا وذلك بعزلنا عزلاً تاماً عن العالم الخارجي، كانت هناك محاولة لقتلنا قتلاً بطيئاً، فالاعتقال كما هو معروف يجعلنا نخضع لسلطة وزارة الداخلية والمباحث العامة ولا تخضع للقوانين واللوائح السارية على المسجونين العاديين. وقد استطعنا ممارسة معظم هذه الممنوعات بمرور الوقت باستثناء الزيارات طبعاً. وذلك بجهودنا الخاصة، ولهذه المجهودات قصة طويلة وظريفة فقد اكتشفنا أن بنصف علبة سجائر (وينجز) يمكن الحصول على أشياء كثيرة مثلاً (المراتب) وقمنا بتشكيل لجنة قيادية منتخبة راعينا فيها الاتجاهات السياسية تحقيقاً لوحدة الحزب وحفاظاً عليها. قامت اللجنة القيادية بتنظيم برنامج تثقيفي وتعليم اللغات وأشياء أخرى. وبالتدريج أمكننا الحصول على كتب من مكتبة السجن مقابل السجائر أيضاً. وقد اكتشفت أن بين الكتب الموجودة بالسجن الكتب التي كنت أرسلها لزوجي وقد أسعدني هذا جداً، وأسفت لأن بعض الكتب التي كنت أستردها ثانية بعد أن يقوموا وزوجي وزملاؤه بقراءتها، فلم أكن أعلم أنني سأكون يوماً ما في أشد الحاجة لمثل هذه الكتب القيمة. وكانت السجينات يستغربن من هذه الحياة الجماعية. ثم بعد فترة أستوعبن هذه الفكرة التي سببت لي بعض المشاكل في البداية حيث كان علي أن أقنع السجينات العاديات أن ما معي ليس ملكاً لي ولكنه ملك الحياة الجماعية ماعدا زميلتين لم تكونا عضوتين في الحزب".
وعن الرسم في السجن تقول إنجي "بعد حوالي شهرين أو ثلاثة من وصولي إلى السجن تولدت داخلي الرغبة في الرسم، وعدم الاستسلام للأمر الواقع.. وحاولت أن أجد حلاً. كان مدير سجن النساء رجلاً طيباً يتمتع بقدر كبير من الإنسانية. وكان يحب الرسم ويمارسه في شكل لوحات تقليدية كان ينقلها من الكتب والمستنسخات وكان يحرص على عرضها علي لأخذ رأيي فيها، وطبعاً كنت أجامله مجاملة كبيرة فقد كان أهم شيء عندي أن يساعدني على الرسم، وفعلاً الحمدلله نجحت. أفصحت له عن رغبتي في الرسم، فقال: أنت تعلمين أن هذا ممنوع تماماً بأمر المباحث، قلت له: أنا مستعدة أرسم لصالح السجن. كنت وقتها قد حصلت على الجائزة في الرسم قدرها مائة جنيه وقد سبب هذا حالة الاحترام داخل السجن والإحساس بأنني فنانة كبيرة، ووافق حسن الكردي وأحضر لي مجموعة ألوان سيئة جداً وقماش من أرخص الأنواع، طلب مني ألا أرسم السجن، ووقعت في حيرة.. ماذا سأرسم؟ كنت أريد أن أرسم السجن لولا تحذير مدير السجن لي. وقد حدث ذات مرة أن جاء ضابط كبير منهم لا أتذكر اسمه ليفتش على السجن وطلب مقابلتي وسألني عما أرسمه وهل أرسم السجن أما لا، فقلت له إن مدير سجن النساء يمنعني من رسم السجن فقال له: عندك إنجي افلاطون. هذه فرصة العمر، دعها ترسم كل شيء بحرية كاملة، هذا أمر ومن يومها انطلقت بلا قيود أو تردد أرسم وأسجل كل ما أريد داخل السجن، ومن أهم ما صورت داخل السجن انشراح وكان محكوماً عليها بالإعدام وتأجل تنفيذ الحكم عاما حتى يبلغ طفلها الفطام، وطبعاً المحكوم عليهم بالإعدام يوضعون في زنزانة بحراسة خاصة لكي لا ينتحرون ويرتدون ملابس حمراء. وطوال فترة انتظار تنفيذ الإعدام على انشراح كنت أشعر بالمأساة الكبرى وراء قصتها فقد قتلت وسرقت تحت ضغط الظروف القاسية والبؤس الفاحش، ولما طلبت رسمها قال لي المدير حسن الكردي إن هذا شيء كئيب، وفعلاً رسمتها هي وابنها، وكانت هذه الصورة من ضمن الصور التي صادرتها المباحث".

يذكر أن إنجي أفلاطون حصلت على جوائز محلية ودولية منها: جائزتان من صالون القاهرة عامي 1956، 1957 والجائزة الأولى في مسابقة المناظر الطبيعية التي نظمتها وزارة الثقافة عام 1959، ووسام (فارس للفنون والآداب) 1985ـ 1986 من وزارة الثقافة الفرنسية. وقد اقتنى أعمالها أفراد بمصر، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، تشيكوسلوفاكيا، كندا، بيرو، سويسرا، الولايات المتحدة الأميركية .ولها مقتنيات في متاحف: الفن المصرى الحديث القاهرة، الفن الحديث بالإسكندرية، الفن الحديث فى درسدن، المعلمون الجدد في درسدن، القومى في فارسوفي، القاعة القومية في صوفيا، القومى الأردني، الوطني بوارسو، الوطني بصوفيا، الفنون الشرقية بموسكو "متحف بوشكين"، مجلس النواب الإيطالي، قاعة لانوفابيز بروما، الجمعية الملكية للفنون الجميلة في عمان بالأردن، قاعة المؤتمرات، وزارة الخارجية المصرية، دار الأوبرا المصرية.