إيران.. تراجيديا الطائرة الإيرانية

الحرس الثوري بحاجة لكارثة بمستوى حادث اغتيال سليماني لعل ذلك يخفف حالة التشنج الشعبي ليوظف ضد الشيطان الأكبر.

بقلم: بدر عبد الملك

اسقطت فجر الثامن من يناير عام 2020 الطائرة الاوكرانية المدنية، وهي تحمل على متنها 176 راكبًا هم ضحايا الجريمة، كانوا في الفضاء يحلمون بالعام الجديد وبلقاء الأحباء في وجهات كثيرة كانوا في طريقهم اليها عبر مدينة كييف. من الواضح أن الحديث منذ بدايته كان موجهًا نحو الحرس الثوري، مما يعكس تهميش دور الجيش الفعلي وسطوة ذلك الحرس على التحكم في أعتى وأهم الاسلحة التي تمتلكها الجمهورية الاسلامية. يعزز ورطة الحرس الثوري في استخدام أسلحة متطورة بمستوى الصواريخ الباليستية على انه الجهة الفعلية المستحكمة.

بدا كل الجهاز الأعلى العسكري والسياسي في الجمهورية الاسلامية مرتبكًا الى أبعد الحدود، بعد عملية اغتيال قاسم سليماني خارج مطار بغداد مما وضع النظام الايراني في حالة استنفار قصوى وحالة طوارئ فربما بعد سليماني هناك خطة هجومية عسكرية امريكية استباقية قد تستهدف شخصيات مهمة في طهران أو قم واحتمال أن يكون خامئني على قائمة 52 التي أشار اليها ترامب.

انتكست حالة الحسابات في كمبيوترات «الثورة الاسلامية !!» بعد اغتيال شخصيتين كبيرتين في خطوط القيادة، مما يعني أن الاحتمالات قابلة للتكرار خلال أيام محدودة وهذا ما جعل الحرس الثوري أشبه بالمصاب بعمى الألوان من حيث عدم قدرة دفاعاته المتقدمة في عالم الصواريخ والتقنيات العسكرية عن صعوبة التمييز بين الطائرة المدنية او الصواريخ المندفعة نحو طهران او غيرها من المدن. كان التبرير الايراني لسقوط الطائرة الاوكرانية المدنية مسرحية مضحكة كفيلة بتحويلها الى مسلسل كوميدي.

ومن الصعب أن يقبل العالم الخارجي والمجتمع الدولي كل تلك القصص والتبريرات الرسمية القادمة من طهران وأجهزتها. الارتباك العالي نفهمه في الأخطاء العسكرية ولكن ما لا نفهمه الارتباك السياسي والدبلوماسي في التعاطي مع الكارثة الانسانية فالناس داخل ايران لن يتقبلوا حدثين مروعين دفعة واحدة خلال اسبوع واحد 3 يناير و8 يناير. فلنرى كيف مضت تلك الدبلوماسية المحنكة في معالجة الازمة خطوة خطوة.

نهجت القيادة وطاقمها السياسي والعسكري أولاً على سياسة التكتم ولكنها عجزت في الاستمرار بعد بروز تفاصيل جديدة عن اسقاط الطائرة. ثانيًا حاول الحرس تحميل الخطأ على عاتق أحد عناصره مستبعدًا القيادة والسياسة في قرار خطير من هذا النوع هكذا تناقلت الأنباء من هدهد سبأ: الحرس الثوري يعلن أن أحد عناصره أطلق صاروخا قصير المدى باتجاه الطائرة عن طريق الخطأ. ثالثًا أوضحت الهيئة (هيئة الطيران المدني) في تقرير ثانٍ أن صاروخين من طراز TOR-M1 اطلقا باتجاه الطائرة الاوكرانية، وقالوا صاروخًا واحدًا ولكنه انفجر قرب الطائرة مدعين ان الطائرة حرفت مسارها للعودة وهو ما نفته أوكرانيا بالخرائط.

تلك القصص العائدة للفانتازيا لن تنطلي لا على المجتمع الدولي بكل تخصصاته وخبرته في عالم الطيران ولا لأصحاب الشأن الاوكرانيين انفسهم. والمضحك أكثر أنهم عزوا السبب الى «التوتر» الذي كان سائدًا – وهذا ما نميل اليه فعلاً – وبلسان قائد القوة الجو فضائية في الحرس أمير علي حاجي زادة الذي أشار «أن الحرس ظن أن الطائرة الاوكرانية صاروخ كروز» (ويا لدقة أجهزة الرادار الايرانية التي أصابها العمى في عدم القدرة في التمييز بين الجسمين وسرعتهما وطبيعتهما).

 حاولت كل الاطراف داخل ايران تقاذف الازمة فيما بينهم ولكن كل ذلك لم يمنع المجتمع الدولي من المطالبة بأمور كثيرة ومن اهمها تسليم الصندوقين الأسودين، ولكن ايران ماطلت وتمنعت بالتسليم وهذا رابع ارتباك فني ودبلوماسي، حيث لا يمكنك الاستكبار في القوانين الدولية ولا في الحقوق المدنية المنتظرة إزاء تسليم الجثث ومن ثم بعدها الجلوس على طاولة المفاوضات لمناقشة التعويض الفعلي لكل الخسائر المادية (الطائرة) والبشرية لحياة 176 إنسانًا ذهبوا سدى، نتيجة قرار أهوج اتخذته جهات في الحرس الثوري تحاول السلطات الايرانية والمرجعية العليا إخفاء حقيقته أمام الرأي الايراني الساخط والغاضب.

دون شك ستظل مسألة اسقاط الطائرة الاوكرانية لفترة طويلة في طي الاحداث السرية التاريخية لبعض الوقت حتى يحين ظهور الحقيقة كاملة بعد رحيل النظام وفتح ملفاته.

أمامنا من الناحية العملية نصف الحقيقة سقوط الطائرة وموت ركابها بالكامل، ثم حقيقة أخرى هو إسقاطها بصاروخين تم اطلاقهما، وقد اعترف نظام الملالي بذلك وأحال تلك الحقيقة لعنصر الخطأ الانساني. اعتراف خامئني بعد صمت ثلاثة ايام بتلك الورطة.

وهناك حقيقة ايضًا اعترف بها النظام الذي أطلق قبل ساعات صواريخ باليستية نحو القواعد الامريكية داخل الاراضي العراقية.

ما لا يمكن حسمه نهائيًا هل أحد تلك الصواريخ انحرف وأصاب الطائرة المدنية دون قصد أم كان هناك تعمد (مع سبق الاصرار والترصد) لإسقاط الطائرة ومن ثم اتهام الولايات المتحدة بتلك الحادثة، بعد أن استنفدت أكذوبة الخلل الفني.

كان الحرس الثوري بحاجة لكارثة كبيرة بمستوى حادث يعادل اغتيال سليماني، لعل ذلك يخفف حالة التشنج الشعبي ليوظف ضد الشيطان الأكبر، غير أن ما حدث هو العكس فقد ثار الشعب غاضبًا من مأساوية الحادثة من جانب، ومن الجانب الاخر هناك 147 راكبًا ايرانيًا مزدوجو الجنسية.

دون شك، الصندوقان الأسودان سيكشفان جزءًا كبيرًا من الحقيقة وإبطال حجج واهية وأكاذيب يجترحها نظام الملالي بانتظام؛ فهو صانع خميرة الكذب دون توقف منذ اكثر من أربعين عامًا. ما لا يمكن للصندوق الأسود كشفه (هذا اذا تم تسليمه) هل هو خطأ انساني فعلاً أم قرار سياسي وعسكري بإسقاط الطائرة الاوكرانية، فذلك أبسط وأسهل ضربة يوجهها النظام لطائرة من صنع «العدو» الامريكي في لحظة ارتباك مراكز القرار في البحث عن رد فعل عاجل وسريع يمتص المهانة في قم لمصير اغتيال الرجل الثاني في صفوفها. كما إن الحقيقة المهمة والاخيرة التي لا يمكن للصندوقين الأسودين تفكيكهما هو تدوين أسماء من اجتمعوا في القمة في قم، واتخذوا قرارًا عسكريًا بصناعة حدث مسرحي بمستوى إسقاط طائرة ركاب مدنية.

وسوف تشهد قضية الطائرة الاوكرانية فترة من الزمن من المماطلات والتنصل والهروب، ليس من حيث التعويض المالي، وإنما من حيث البحث عن كبش الفداء، وعلى ما تحت رأس جبل الجليد المخفي من أسرار.

نجحت ايران في ابتزاز قطر «الصديق السخي» بأن طائرة من غير طيار انطلقت من قاعدة العديد، فجاء التعويض 3 مليارات دولار امريكي، وبذلك تكون قطر وايران تتقايضان على أرواح البشر بتلك المليارات الثلاثة، وبأن يتم غلق ملف مصادر عسكرية مهمة، أهم من كواليس وأحاجي الآلية التي تم فيها إسقاط الطائرة الاوكرانية. ونلحظ كيف صمتت ايران بسرعة عن مصادر انطلاق تلك الطائرة بدون طيار والتي اصطادت سليماني. تلك الحقيقة نلمس نصفها الظاهر فيما نصفها المخفي سيبقى ملفًا سريًا حتى إشعار آخر.

لم يتوقف ابتزاز ايران للأموال القطرية (سميت في ايران بالدية) وحسب، وإنما أدارت دفة الابتزاز نحو الكويت، لعلها تخرج بنتيجة ما من تلك الأموال النفطية «فقائد القوات الجو فضائية في الحرس الثوري في ايران والذي ذكر فيه أن قاعدة علي السالم في الكويت شاركت ضمن قواعد أخرى في المنطقة في العملية، التي نفذت قرب مطار بغداد وقتل فيها قائد فيلق القدس قاسم سليماني وابو مهدي المهندس».

مثل هذه التهم إن لم تكن من أجل الابتزاز المالي فعلى الأقل من أجل ابتزاز الكويت سياسيًا، فأغضب الخارجية في الشقيقة الكويت، التي استدعت السفير الايراني لدى الكويت وأبلغته عن امتعاضها واستغرابها، ونأت عن الخوض كثيرًا في الحدث احترامًا لعلاقات حسن الجوار. وكما قال رئيس لجنة القضاء في المجلس الوطني للمقاومة الايرانية الدكتور سنابرق زاهدي: «إن هذا الحادث أصبح مرآة يمكن من خلالها مشاهدة نظام ولاية الفقيه بكامل هندامه»، رغم علمنا إن هذا النظام بات عاريًا إلا من ورقة التوت.

نُشر في الأيام البحرينية