إيريك جوفروا يرى أن التصوف يمثّل اليوم ترياقاً حقيقياً لمختلف الأصوليات

الباحث الفرنسي: الهجمات العنيفة، التي تعرّض لها التصوف من قبل السلفيين كما "العصرانيين" في الظاهر، تمكّنت من الإطاحة به في عالم الخزي.
الأولياء يرتدون ثياب عصرهم، ويختفون إذا ما استدعى السياق ذلك
التصوف في الغرب كان على المستوى التاريخي، سابقاً أحياناً لحركة الفتح الإسلامي

يرى الباحث الفرنسي المتخصص في الدراسات الإسلامية إيريك جوفروا أن الهجمات العنيفة، التي تعرّض لها التصوف من قبل السلفيين كما "العصرانيين" في الظاهر، تمكّنت من الإطاحة به في عالم الخزي؛ بل إن مستشرقين كانوا - إلى حدود سنة 1970 - يتنبؤون بموته. لكن التجديد بدأ يظهر بشكل جليّ في سنوات 1980، وخاصة في سنوات 1990، على إثر فشل الإيديولوجيات المختلفة التي عرفها العالم العربي الإسلامي في القرن العشرين "القومية، الماركسية، الإسلاموية..."، وجلاء السحر عن أولئك الذين كانوا يتّبعون المثال الغربي. 
ويقول في كتابه الذي ترجمه الباحث التونسي المتخصص في تاريخ الأفكار د. عبدالحق الزموري وصدر أخيرا عن مؤسسة مؤمنون بلاد حدود، أنه على الرغم من المرحلة الدقيقة التي مرّ بها التصوف، فقد حافظ على تجذّره في الثقافة الإسلامية. ففي سنة 1989، أمكن لسعيد حوّا أن يقول إنّ 90% من المسلمين، على مرّ القرون، كان لهم بشكل من الأشكال علاقة مع التصوف. ويبدو أنّ 90% من السنغاليين ينخرطون في الطرق الصوفية، ويقال: إن هذه النسبة تصل إلى الثلث بالنسبة إلى المصريين، وإلى الثلثين بالنسبة إلى الباكستانيين.
ويؤكد أن التصوف يعرف حالياً حيوية متجدّدة في البلاد الإسلامية، بينما يلاقي اهتماماً متزايداً به في الغرب. وفي الحقيقة إنّ الوضع في أراضي الإسلام يكتنفها الكثير من المفارقة؛ إذ نجد الشباب، في أغلب البلدان، ينخرطون بأعداد كبيرة في الطرق، بينما كان معدل الأعمار، بالنسبة إلى المنخرطين قبل عشرين سنة، عالياً جداً. وفي بلدان أخرى، يبدو التصوف في انحسار طفيف. من البديهي أن التطلعات الروحانية تصبح ثانوية عندما ينشغل الذهن تماماً بالمشاكل المادية والقلق المعيشي، وعندما تشجع الأوضاع الدولية ووسائل الإعلام ظهور إيديولوجيات سهلة الاستهلاك، وعندما تفخخ الأصولية الأرضية بطريقة من الطرق. 

إذا كان بعض الأشخاص يقدمون  ضمانات الجدية، وهي ضرورية في كل مقاربة روحانية، فمن المحتمل أن يكون الغرب بصدد تحويل التصوف إلى موضوع استهلاك، مثلما فعل مع غيرها من المهارات الشرقية

وانطلاقا من أنّ الإسلام والتصوف مرتبطان بشكل جوهري يحاول إيريك جوفروا في كتابه إبراز كونية التصوف، ويرسم مسار تشكل "علوم الباطن" تلك، فــ "الطرق إلى الله كنفوس بني آدم". كما أبرز كيفية تمكن كبار شيوخ المتصوفة من مواءمة عقائده وطرائقه في السلوك للتحولات المختلفة التي عرفها العالم الإسلامي. وبيّن أن التصوف يمثّل اليوم ترياقاً حقيقياً لمختلف الأصوليات، ما يرشّحه لأداء دور متزايد في الغرب.
ويلفت إلى أن التصوف في الغرب كان على المستوى التاريخي، سابقاً أحياناً لحركة الفتح الإسلامي، وأحياناً مرافقاً لها. وبوّأه طابعه الكوني ليتأقلم مع سياقات جديدة ويشعّ خارج أراضي الإسلام. لا شك في أنه أثر في التصوف اليهودي والمسيحي في العصر الوسيط، وربما أيضاً في كتّاب كـ دانتي وكالزاهد الكتلوني رامون لول، وهو وإن أصبح يحتل مكانة مهمة لدى المستشرقين منذ القرن التاسع عشر، لم يكن مجهولاً في أوساط نخبة أوروبية معينة، نخبة مثقفة أو فنية. وقد ساهمت عوامل أخرى في اختراق التصوف للغرب في القرن العشرين؛ إذ سارع الاستعمار في تلاقي الإسلام والغرب، في جوّ يتراوح بين الانبهار والاشمئزاز. وفي عزّ المرحلة الاستعمارية، كان غربيون هاربون من أتون حضارة الآلة وإيديولوجية التطور، قد تبنوا "تصوف الصحراء". وحاول بعضهم، ممّن ندّد بعلمنة المسيحية وباجتزائها في الأخلاق الدينية التي تتماشى مع الإمبريالية الأوروبية، البحث في التصوف عن نهضة ماورائية. 
ويلفت جوفروا إلى تجربة رينيه غينون "بعد أن تردد على عدد من الكنائس الباطنية في باريس، تعلم رينيه غينون الإسلام الصوفي سنة 1912. وباستقراره في القاهرة، بداية من سنة 1930، انخرط الشيخ عبدالواحد يحيى في الطريقة الشاذلية، موازاة مع مواصلة تحرير كتاب أراد به تحذير الغربيين من "ظلامية" المعاصرة، وتذكيرهم بالنظرية الكونية "للدين القيّم". وفيه لم يكن الموضوع يخص الإسلام بقدر ما يخص آثاراً أخرى، على الرغم من أن غينون كان يَعدُّ هذا الأخير - أي الإسلام - الصيغة الأكثر عملية على المستوى التلقيني، بما أنه دين الوحي الأخير. 
وبهذا الكتاب، وبالنصائح التي كانت تعجّ بها مراسلاته، تسبب غينون في صدمة للوعي عند الغربيين، سواء تعلق الأمر بأتباع مختلف الديانات أم بمريدي التنظيمات التلقينية كالماسونية، التي اختار بعض أفرادها الإسلام. وبعد أن أنهى كتابه "الحياة البسيطة" في القاهرة سنة 1951، واصل غينون ممارسة تأثيره المتميّز في الغرب، وفي بعض الأوساط في البلاد الإسلامية.  
ويوضح أنه تفرع عن غينون التيار الذي يُطلق عليه "محافظو" الصوفية الغربية، والذي يُعدُّ السويسري فريتجوف شوون (ت 1998) أهم وجوهه. كان هذا الأخير فناناً وشاعراً، وهو الذي حرّر كتاباً نظرياً قوياً. وقد عرفت الطريقة المريمية التي أنشأها انشقاقات عديدة، لكن الإشعاع التلقيني لشوون بقي قوياً في الغرب وفي بعض مناطق العالم الإسلامي. ونجد عدداً كبيراً من مريديه، ومن مريديه السابقين، في أصل حركة واسعة من البحث وترجمة نصوص التصوف: تيتوس بوركهاردت (ت 1984)، مارتن لينغس (ت 2005)، سيد حسين نصر، أو أيضاً ميشال فالسان (ت 1974)، الذي نشر الدراسات حول ابن عربي في الغرب؛ وبتحريض من غينون، أنشأ شوون طريقته الخاصة في فرنسا. ومن جهتها، إن الطريقة العلوية، التي تخرّج منها شوون، قد انتشرت في أوروبا منذ سنوات 1920، قبل موجات الهجرة المغاربية الأولى. 
ويرى جوفروا أنه ابتداء من سنوات 1970، العديد من الجماعات الصوفية المتفرعة عن الطرق الكبرى كـ "الشاذلية والتيجانية ثم النقشبندية والقادرية والبُرهانية ونعمة اللهية" ظهرت إلى النور في الغرب. ولم يكن هذا التمدد مجرد نتيجة للهجرة؛ لأن المشايخ الشرقيين يرون، منذ زمن بعيد، أن الغرب أرض مباركة. وعندما لاحظوا أن الضغوط الاجتماعية والسياسية التي ترزح تحتها بلدانهم يمكن أن تعرقل التطور الشخصي، رأوا في الغرب فضاء من الحرية، وسجّلوا ترقباً حقيقياً في مجال الروحانيات. بذلك اكتشف مسلمون أصليون في الغرب، طلبة أو عمالاً، التصوف الذي كانوا يرون فيه الخرافة والروتين فحسب؛ بل إن بعض المشايخ "الشرقيين" سرعان ما استقروا فيه، بينما كان عدد قليل من الغربيين المكوَّنين يتحركون بوصفهم ممثلين لشيخ أجنبي، أو ارتقوا بدورهم إلى رتبة المشيخة.  

التصوف يعرف حالياً حيوية متجدّدة في البلاد الإسلامية
التصوف في الغرب أصبح معرَّضاً إلى جشع النزعة الميركنتيلية

ويتابع جوفروا أن كل هذه الموجة استفادت من تصوف أرثوذكسي؛ لأن المنخرطين بقوا مخلصين لتعاليم الإسلام، وانغمسوا أحياناً في العلوم الإسلامية. وحافظ أغلب الأعضاء على علاقة بهذا البلد الإسلامي أو ذاك. ولكن مسألة التأقلم مع السياق الغربي لم تُحسَم في جميع الحالات: فمن بين أولئك الذين تلقّوا تعليمهم وتكوينهم في المشرق، نجد عند بعضهم ميلاً إلى حمل بعض العادات العربية أو الأفريقية أو غيرها معه. ويبقى التصوف عاملاً كبيراً للدخول في الإسلام، حتى وإن أصبحت مواصفات الغربيين الذين يتبنون هذا الدين اليوم متنوعة جداً. 
ويكشف أن بعض الجماعات انفصلت عن الشكل الإسلامي، للتعبير بشكل أفضل، في أعينهم، عن الطابع الكوني للحكمة الصوفية. وبفتحهم الأبواب أمام السنكريتية، تدعو هذه الجماعات بقوة لنوع من "عَوْلمة" الروح. وينخرط "الكوني"، الصادر عن الشيشتية الهندية التي يقودها بير فِلايات خان (ت 2004) ومن بعده ابنه، في السياق ذاته. ومن جهته كان إدريس شاه (ت 1996)، وهو من أصول أفغانية، يدرّس فلسفة مأخوذة من رؤيته الخاصة للتصوف، ولكن ذلك لم يمنع من اتهامه بالدّجل. 
إن أتباع هذا وذاك نادراً ما دخل أحدهم الإسلام. ومن البديهي أن يندد أتباع التصوف الإسلامي بهذه السنكريتية. ولنتذكر أنه لا تلقين إلا ضمن شكل ديني محدد، وأنّ من الخطر بمكان نشر هذا التلقين في كل الاتجاهات. ويعتقد "المتصوفة" أن احترام التقاليد الروحية للإنسانية يفرض الاحتفاظ بتقليد واحد في الوقت نفسه. 
ويؤكد جوفروا أن التصوف في الغرب أصبح معرَّضاً إلى جشع النزعة الميركنتيلية: فقد ظهرت منشورات هنا وهناك تبشّر بالحصول على التخمّر أو تَعِدُ بـ "التملّك". إن مهنة صوفي - الأعمال تشهد ازدهاراً. وإذا كان بعض الأشخاص يقدمون  ضمانات الجدية، وهي ضرورية في كل مقاربة روحانية، فمن المحتمل أن يكون الغرب بصدد تحويل التصوف إلى موضوع استهلاك، مثلما فعل مع غيرها من المهارات الشرقية. و"سياحة الباطن" مسّت حتى العالم الإسلامي. ففي المغرب "الأقصى" مثلاً، نجد أن العيساوة "وينتمون إلى الطريقة الشعبية: العيساوية"، المشهورون بطقوسهم المتعلقة "باستحضار الأرواح" وبتشويه البدن، يُقَدَّمون بشكل رسمي جداً لجلب الزبائن، ونجد في إسطنبول غربيين يلقّنون الطريق بشكل سريع من قِبَل الدراويش الدائريين المنتمين إلى المَوْلَوية. وبين الانفتاح الأقصى الذي يميّع حواشي الانتماء الديني، والطائفية التي تدّعي امتلاك الخلاص، يجد التصوف الغربي صعوبة في إيجاد توازنه. ولعل من الضروري أيضاً التمييز بين التصوف الأميركي، الذي ينزع إلى الفلكلورية أحياناً، والتصوف الأوروبي المشهور بأنه أكثر اعتدالاً، وبلا شك أكثر التصاقاً بالإسلام.  
 ويخلص جوفروا إلى أنه في مجتمعاتنا التي تهدمت بنيتها نسبياً، وحيث يمكن لتنوع التجارب الشخصية أن يصيب المرء بالغثيان، يصبح للتصوف، وأكثر من أي وقت مضى، دور علاجي يتقاسمه - لا شك - مع طرق روحية أخرى. "تتمثل المرحلة الأولى في تهدئة، ثم في القضاء، على الصراعات النفسانية، وعلى العقد والإحباطات، وأيضاً على التوجهات السلبية والتدميرية لدى المريد، حتى يصل إلى توازن نفسي وعقلي وعاطفي. بعد ذلك، وفي المرحلة الثانية، يمكن للمريد أن يتلقى صفات الله"، هكذا يتحدث جواد نوربخش، شيخ الطريقة النعمة اللهية، والطبيب النفساني. هناك كل هؤلاء المجروحين الكبار، الخارجين من ديانات قائمة عاشوها كأغلال. وهناك أيضاً  ذاك "الأنا" الغربي المتضخم جداً الذي يدّعي الوصول إلى الحدود القصوى للوَلاية دون المرور عبر القواعد الدنيا للطف الصوفي. ومثلما قام به في البلدان الإسلامية، يمكن لتصوف الغرب أن يساهم في إضفاء جرعة من الروحانية على الإسلام اليومي، الذي يُعاش اليوم من قبل ملايين الأنفس، وأن يقدّم غذاء تلقينياً لبعضها: يمكن أن يساعد على ظهور إسلام أساسي خالٍ من التبعيات للبلدان الأم ولتصورات الهوية؛ كما يمكن له اقتراح نظرة أخرى للإسلام، إقامة نوع من الجسور بين الشرق والغرب. 
ويختتم جوفروا كتابه مؤكدا "إذا كان مسموحاً في العصر الحديث لكلّ واحد التشكيك في حضور أيّ شكل من أشكال الولاية، فلا بدّ من التذكير، طبقاً للعقيدة الصوفية، بأنّ الأولياء يرتدون ثياب عصرهم، ويختفون إذا ما استدعى السياق ذلك. "كل الأوقات مرآة لله". ستكمل البشرية طريقها عندما تصل دورة الوَلاية بدورها إلى أجلها.