إيزابيل الليندي وحجر الحب

خطاب رواية "العاشق الياباني" يضمرُ نزعة تفكيكية إذ تشتغلُ الليندي على المفاهيم السائدة بشأن الحب وربطه بمرحلة معينة في حياة الإنسان.
تتوالى التلميحات للعاهات الروحية التي تخلفها الحروب من ضمنها العنصرية وضياع هوية الذات
المتلقي يتابعُ في فضاء الرواية نواة القصص التي تتطور مع توالي الأحداث وحركة الشخصيات

الموضوعة الأساسية التي تنتظمُ على خطها رواية "العاشق الياباني" هي الحب إضافة إلى قصة الإطار التي تدور حول العلاقة العاطفية المحمومة بين ألما الهاربة من زحف النازية إلى بولندا وعشيقها الياباني. 
تتناسلُ في مفاصل هذا العمل قصص جديدة قوامها الحب على غرار منحى السرد في رواية "ما بعد الشتاء". ويضمرُ خطاب الرواية نزعة تفكيكية إذ تشتغلُ الليندي على المفاهيم السائدة بشأن الحب وربطه بمرحلة معينة في حياة الإنسان، كما تقدمُ صورة مختلفة عن الشيخوخة. وفي هذا الإطار تتناول الموت الرحيم وظاهرة الإتجار بالشر والإستغلال الجنسي والهجرة، كل ذلك يكون عناصر مكونة في بنية العمل. 
أزيد من ذلك تتوالى التلميحات للعاهات الروحية التي تخلفها الحروب من ضمنها العنصرية وضياع هوية الذات، غير أن الركن الأساسي لملحمة إيزابيل ألليندي هو الحب حيث يكون بمثابة وصفة سحرية ترممُ خراب الروح وتضيفُ المعنى للحياة في كل المراحل العمرية. وما يُضاعفُ التشويق في أسلوب صاحبة "باولا" هو ترتيبُ المادة المسرودة بحيثُ يكمنُ في المقاطع اللاحقة العنصر المكمل لما سبقها، وبذلك تكون أجزاء النص أكثر ترابطاً وتماسكاً. 
إذاً يتابعُ المتلقي في فضاء الرواية نواة القصص التي تتطور مع توالي الأحداث وحركة الشخصيات. ينطلقُ السردُ من مبنى "لارك هاوس" الواقع في ضواحي بيركلي إذ يذكرُ الراوي العليم تاريخ تأسيس مأوى العجزة مشيراً في ذات السياق إلى شخصية "ايرينا باثيلي" البالغة من العمر ثلاثا وعشرين سنة حيثُ تبدأُ الأخيرة بالعمل في مؤسسة "لارك هاوس" ويتمُ إدراك الغرض من تزامن الحديث عن شخصية إيرينا والبنية المكانية في آن واحد بعد تتابع حلقات الرواية وفتح علبة الفتاة التي عانت من البطالة وهي كانت تدور من مدينة إلى أخرى بحثاً عن العمل.

الرغبة الإيروسية تجاور الموت في الرواية، وهذا ما يبدو واضحاً في المقطع الذي يرصد اللحظة الحميمية بين إيشيمي وألما عندما يمتزجُ الشعور بالحزن واللذة والإبتهاج بالحياة والإغراء الحلو بالموت خشية الإنفصال

خصوصية البيئة
كلما يمضي السرد يطفوُ المزيدُ عن هذه الشخصية إلى حلبة السرد. يلفتُ مدير المؤسسة هانس فواغ انتباه الفتاة إلى صغر سنها مقارنة مع المسؤولية التي تتحملها وحساسية الشخصيات المتواجدة في لارك هاوس، كما يؤكدُ لها بأنَّ قميصها المطبوع بصورة لتشي غيفارا وهو يحسبها لمالكولم أكس لا يناسبُ مع روحية المؤسسة، بالمقابل لا يمانع أن تقضي أوقات فراغها في التسلية بألعاب ألكترونية.
تتجولُ إيرينا برفقة مديرها في أقسام المؤسسة وما تسمعهُ على لسان فوغاغ عن وجود شبح يعودُ إلى إيميلي ابنة مؤسس دار العجزة حيثُ توفيت حسرة على غرق ابنها في المسبح،  يلقى بغلالة من الغرائبية على جسد النص. بدورها تحذرُ لوبيتا فارياس الموظفة الجديدة من الإكتئاب الذي كثيراً ما يسودُ لدى مقيمي "لارك هاوس" كما تلتقي القادمة من مولدافيا بالدكتورة كاترين هارب وهي في نهاية العقد السادس من العمر، إذ تتعرف من خلالها على التكوين الشخصي لدى كبار السن، فهم أكثر الناس تسلية حسب رأيها يقولون ما يعشقون، ولا تخلو الحياةُ في مبنى لارك هاوس من مداعبات غرامية ومغازلات حميمة.
ملمحُ آخر من الرواية هو إستعادة للأحداث السياسية، إذ ما يتواردُ في هذا الإطار يكشفُ عن الرؤية اليسارية المُناهضة للسياسات الرأسمالية لدى مؤلفة "بيت الأرواح". يقعُ نظرُ إيرينا على نصب تذكاري وضع تخليداً لأحد قاطني المؤسسة لقى حتفه جراء إصابته بجلطة دماغية، فيما كان مشاركاً في تظاهرة ضد الحرب على العراق.
واللافت في هذا المفصل هو الإهتمام بوصف تصميم المكان وجزئياته إذ يتكون "لارك هاوس" من طابقين إضافة إلى ما يسمى بالفردوس حيثُ ينزلُ فيه منْ شارف على الرحيل. ومن بين نزلاء هذا المكان تشدُ ألما بيلاسكو بشخصيتها إنتباه إيرينا ويدعمُ هذا الإنطباع الإيجابي كلام لوبيتا فارياس التي تعتقدُ بأنَّ "لارك هاوس" ليس مكاناً لائقاً بألما. فيما ينتهي الفصل الأول بالإشارة إلى إنجذاب إيرينا إلى المرأة الأرستقراطية ترى في الفصول المتتالية الخطوط التي تتقاطع فيها حياة الاثنتين. إذ فارقت ألما والديها عندما كانت طفلة وهاجرت إلى فرانسيسكو وطالت إقامتها هناك مترقبة وصول أهلها غير أن مصيرهم ظل مجهولاً إلى أنَّ تُعلن أسماؤهم ضمن ضحايا النازية، بالمقابل مرتْ إليزابيتا التى مرت تحت اسم إيرينا بظروف قاسية، وكابدت أمها "رادميلا" تجارب مضنية قبل أن يستقر بها المقام في أميركا، ومن ثم تنضمُ إليها الابنة لكن تصطدم بواقع سوداوي حينَ يبدأُ زوج أمها باستغلالها جنسياً. يشار إلى أنَّ إيرينا عانت عقدة فقدان الأب وهي وليدة علاقة غرامية عابرة نشأت بين أمها وجندي روسي.
سرمدية الحب  

novel

لا يسدُ الفراغُ الناجم من غياب الأهل في حياة ألما سوى الصبي الياباني إيشيمي الذي هاجر والده طاكاو إلى الولايات المتحدة بعدما اقتنع بديانة "أوموتو" وأصبح بستانياً في "سي كليف" لدى اسحاق. تتطور العلاقة العاطفية بين إيشيمي وألما بمرور الأيام ويستمرُ التواصل بينهما عندما تنتقل أسرة طاكاو إلى طوباز حيث يحتجزُ اليابانيون عقب الهجوم على بيرل هاربر. هنا يغطى السردُ إستفحال ظاهرة  العنصرية ضد المهاجرين اليابانيين في أميركا ويسقطُ المتلقي ذلك المشهد على واقع المسلمين العرب في أميركا بعد 11 سبتمبر/أيلول، أكثر من ذلك تظهرُ الكاتبةُ دور القيم الرأسمالية في تصنيف المواطنين حسب الإنتماء الطبقي. والحال هذه لا يمكنُ أن تتوجَ علاقة الحب بين ألما وعشيقها بالزواج، غير أنَّ ذلك لا يمنعُ توغل في التواصل الحسي ويتم إيجاد المسارب للرغبة المحمومة، إذ يلتقي العشيقان في نزل المارتينيث، عليه فإنَّ ناتانيل الذي تشاركه ألما الحياة الزوجية مع علاقة جسدية فاترة تتضحُ ميوله المثلية، ينضاف إلى ما سبق قصة الحب التي تنشأُ بين ميكومي والجندي الأميركي في طوباز، وتنتهي بكسر الحواجز القومية والظروف البائسة.
يذكر أنَّ الرغبة الإيروسية تجاور الموت في الرواية، وهذا ما يبدو واضحاً في المقطع الذي يرصد اللحظة الحميمية بين إيشيمي وألما عندما يمتزجُ الشعور بالحزن واللذة والإبتهاج بالحياة والإغراء الحلو بالموت خشية الإنفصال. ترفدُ قصص فرعية بناء الرواية حيثُ يفتحُ متن النص على وقائع سياسية وأحداث تاريخية مع السرد بالإشارة إلى العادات والتقاليد المحلية لدى اليابانيين، وما يزيدُ من سلاسة تعاقب أجزاء هذا العمل هو حسن التوظيف لضروب من تقنيات السرد من الوصف والحوار والإستقصاء في دروب الذاكرة. كما أنَّ الإرجاء هو اللعبة التي تعتمدُ عليها الليندي لسحب المتلقي إلى عالمها الضاج بالشخصيات والأحداث والنقاشات حول السعادة والشيخوخة والحب.
عطفاً على ما سلف فإنَّ الموقف الدرامي المُتمثل بعودة الأخ صاموئيل الذي يظهر متفاجئاً أخته ألما بعدما نشر خبر سقوط طائرته في فرنسا مكونُ آخر لسيولة الأحداث في تضاعيف الرواية. إذ تتحولُ عودة صاموئيل إلى مناسبة للحديث عن المقاومة ضد النازية وظاهرة معاداة السامية.