اجتماع سري، لماذا يدعى الصحافيون إليه!


كان اجتماع الأمير محمد بن سلمان مع نتنياهو حلقة في سلسلة من الإشارات المستمرة والمتصاعدة، لم يعد بمقدور وسائل الإعلام العربية إغماض عيونها عنها.
ماذا صنعت الصحافة السعودية التي تغدق عليها الحكومة ميزانية مالية مهولة، من الخبر الأكثر طلبا في العالم، وأحداثه جرت خلف أبواب مفتوحة أمام أعين كتابها؟

في الواقع، كل وسائل الإعلام بما فيها العربية كانت تريد استخدام مفردة “التاريخي” لإضفائها على الاجتماع السري الذي أريد له أن يتحول علنيّا، وجمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بمشاركة وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، لكنها لم تصل إلى ذلك. الأدق لم يحقق الاجتماع بعد دلالة مفردة التاريخي.

كل التقارير الصحافية انتهت بسؤال، إذا كان الاجتماع سريا، فما معنى أن يكون الصحافيون المسافرون على نفس طائرة وزير الخارجية الأميركي قريبين منه؟

كتب المراسلون المرافقون في رحلة بومبيو هذا وأكدوا سفرهم إلى مدينة نيوم السعودية المطلة على البحر الأحمر، لكن لا أحد من المسؤولين أعلن عن نفسه شاهدا على كلام الصحافيين.

باستثناء النفي المقتضب مِن قِبَل وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، لخبر اللقاء بين الأمير محمد ونتنياهو، فإن السرية ظلت قائمة على اجتماع كانت رحلة بومبيو إلى السعودية أرادت له أن يكون علنيا فيما بعد بحضور كبار المراسلين، لتحقيق إنجاز سياسي في نهاية ولاية الرئيس دونالد ترامب.

لا تبدو مفردة “تسريب” ملائمة لخبر تم تداوله بشكل لافت في وسائل الإعلام خلال هذا الأسبوع ومازالت الصحافة ترسم السيناريوهات المحتملة لما بعد لقاء نيوم، إذ كان المراسلون الجالسون في طائرة وزير الخارجية الأميركي الرابضة بمدينة نيوم، ينتظرون الإشارة لتغطية إنجاز يحدث على مقربة منهم، ولأنّ الطرفيْن لم يتفقا على تحقيق إنجاز سياسي، بقي الصحافيون في أماكنهم لحين عودة بومبيو إلى طائرته.

أكثر ما يدفع إلى الخيبة، لا يوجد صحافي سعودي أو عربي بين الشهود، كل التصريحات والتقارير كان مصدرها إسرائيليا وأميركيا مع أن موقع الحدث مدينة نيوم السعودية، ربما ذلك يفسر لنا الحيرة المرافقة للموقف السعودي حتى وإن كانت الرياض تنوي في النهاية الانضمام إلى دول الخليج الأخرى في تطبيع العلاقات مع إسرائيل.

الملفت أن المستشار الحكومي السعودي الذي أكد خبر الاجتماع ولم يذكر اسمه، اختار صحيفة “وول ستريت جورنال” وليست أي وسيلة إعلام عربية  للتصريح لها، قائلا إن الاجتماع استمر عدة ساعات، وركز على إيران وإقامة علاقات دبلوماسية بين البلدين، لكنه لم يصل إلى اتفاقات جوهرية.

في كل الأحوال لم تجازف وسائل الإعلام في العالم بإطلاق صفة التاريخي على اللقاء المفترض بين السعودية وإسرائيل، مع أنها كانت مستعدة لذلك، فالسعودية لم تؤكد اللقاء وبقيت التقارير الصحافية من طرف واحد لم يقابلها عربيًّا غير تغريدة مقتضبة لوزير الخارجية السعودي.

صفة التاريخية تضفي على هذه الاجتماعات النادرة سمة الاستذكار الصحافي الدائم، وتجعلها موضع اهتمام وسائل الإعلام، ذلك يفسر دلالة أن يعقد العاهل الأردني الراحل الملك حسين بن طلال، 45 اجتماعًا سريًّا مع الإسرائيليين على مدى ثلاثة عقود قبل توقيع معاهدة سلام عام 1994 وصفت بالتاريخية.

ما يهمني هنا القيمة الإعلامية لمثل هذا اللقاء بوصفه الأكثر طلبا، فكتابة الصحافة عن اجتماع يجمع ولي العهد السعودي ورئيس الوزراء الإسرائيلي لا تحدث كل يوم.

أو بتعبير الكاتب الإسرائيلي رفائيل أهرين “الاجتماع غير السري لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان جرى بالفعل تحت الرادار. لكن أهمية السماح للصحافيين الإسرائيليين بالكتابة عنه هي أكثر من مجرد طفرة في تاريخ الشرق الأوسط، وتدل الكثير على الاتجاه الذي قد تتجه إليه العلاقة”.

لكن ماذا صنعت الصحافة السعودية التي تغدق عليها الحكومة ميزانية مالية مهولة، من الخبر الأكثر طلبا في العالم، وأحداثه جرت خلف أبواب مفتوحة أمام أعين كتابها؟ وعلى مقربة من مقراتها؟ لا شيء، مثلها مثل الصحافة العربية، غير تلقي التفاصيل من وكالات الأنباء العالمية، ولم تقدر -لسوء الحظ- على صناعة قصة تجري على مقربة من عيون مراسليها ومحرريها.

هل أبدو بطرا عندما أطالب الصحافة السعودية بأكثر مما هو مسموح لها؟

قبل مئة سنة أطلق اللورد نورثكليف مؤسس صحيفة “ديلي ميل” البريطانية، تعريفا باهرا حين اعتبر أن الأخبار معلومات يريد أحدهم منع الناس من معرفتها، وما تبقى هو مجرد إعلانات. بيد أن الصحافة القريبة جدا من الخبر التاريخي بمدينة نيوم السعودية، اكتفت بالإعلانات. ولم تقترب قط من الخبر الأكثر طلبا!

كانت عناوين الأخبار يوم الاثنين الماضي تحمل السمة المميزة لـ”تسريب منسق” اشتركت الصحافة الإسرائيلية والأميركية في صناعته وليس تلقيه، وكان الإعلان عن الاجتماع بين الأمير محمد ونتنياهو في نيوم مجرد حلقة في سلسلة من الإشارات المستمرة والمتصاعدة، لم يعد بمقدور وسائل الإعلام العربية إغماض عيونها عنها، على الأقل من أجل قيمتها الاعتبارية، وليس كما عاملته أكبر صحيفة سعودية مجرد نفي من بضعة أسطر لا أكثر.