استعارات وعبارات بين الاختزال اللغوي والتصور الذهني
تعتبر الاستعارة من أساسيات علم البيان الذي اهتم بقضية التشبيه، وتعد بذلك من المواضيع التي نالت حظا وافرا من العناية في الدرس البلاغي الكلاسيكي على مر العصور. وقد أدى التطور الحاصل في الدراسات اللسانية الحديثة بفضل ظهور علم النفس المعرفي إلى تَحَوُّل مفهوم الاستعارة من ظاهرة لغوية ترتبط بالخيال الشعري والصُّوَر البلاغية القائمة على أساليب التزويق والزخرفة إلى ظاهرة مُبَنْيَنَة على تصوراتنا الذهنية وآلية مؤطرة لعمليات تفكيرنا المعقدة، وحاضرة بشكل قوي في جميع مجالات حياتنا اليومية.وعلىأساس هذا المبدأ فإن مفهوم الاستعارة كان يندرج في المقام الأول تحت الأعمال الأدبية خصوصا تلك الشعرية منها، وخاليا من الأسس الفكرية والمنطقية العلمية.
وإذا استثنينا طبقة المثقفين وأصحاب التخصص، فيمكن الجزم بالقول إن استبعاد الاستخدامات الاستعارية عن البحوث العلمية المحضة حقيقة لا تزال قائمة حتى عصرنا هذا عند أغلبية الناس؛ وتؤكد هذه الحقيقة كتابات لايكوف/جونسن عندما يكتبان: "تمثل الاستعارات بالنسبة لعدد كبير من الناس أمرا مرتبطا بالخيال الشعري والزخرف البلاغي.إنها تتعلق، في نظرهم، بالاستعمالات اللغوية غير العادية وليس بالاستعمالات اللغوية العادية. وعلاوة على ذلك، يعتقد الناس أن الاستعارة خاصية لغوية تنصب على الألفاظ وليس على التفكير أو الانشطة.ولهذا يظن أغلب الناس أنه بالإمكان الاستغناء عن الاستعارة دون جهد كبير. وعلى العكس من ذلك، فقد انتبهنا إلى أن الإستعارة حاضرة في كل مجالات حياتنا اليومية. إنها ليست مقتصرة على اللغة، بل توجد في تفكيرنا وفي الأعمال التي نقوم بها أيضا.إن النسق التصوري العادي الذي يسير تفكيرنا وسلوكنا له طبيعة استعارية بالأساس". انظر لايكوف/جونسن. (2009، ص. 21)
وبما أن الاستعارات التي نستخدمها في لغتنا اليومية مرتبطة بتفكيرنا وأعمالنا وسلوكنا، فإنها أصبحت موضوعا جوهريا في مجالات علمية متعددة، أهمها علم النفس المعرفي؛ و"يرجع علم النفس المعرفي إلى نيسر (Neisser) 1967، ويشتغل هذا العلم بجميع عمليات تلقي المعلومات وتخزينها ثم استخدامها. ويتم بذلك تعريف علم الإدراك المعرفي بأنه ذلك العلم الذي يشمل جميع بنيات وعمليات المعرفة الإنسانية.... ويُنْظَر في البحوث المعرفية إلى الإدراك المعرفي الإنساني على أنه نسق من البنيات والعمليات الذهنية". انظر شفارتس( 2008 ص. 17)
وعلى أساس الإدراك المعرفي الإنساني المذكور فإن إدخال دراسة الاستعارة في العلوم اللسانية المعرفية الحديثة يُعد ضرورة علمية ومنهجية قصد الإحاطة الشاملة بجزئيات اللغة الإنسانية الدقيقة وعلاقتها بالتصورات الذهنية. وفي إطار العلاقة بين الاستعارة وتصورات الإنسان الذهنية سيجد الباحث اللساني أمثلة لا حصر لها تؤكد أمرا مفاده: إن الإنسان العربي كان يمتلك معجما ذهنيا قويا كان فيه التصوير الدقيق أساسا لتخزين ثروته اللغوية من شعر ونثر وأمثال؛ فقيام الإنسان العربي بالتقاط صور خارج لغوية واستناده في ذلك عموما إلى الذاكرة، أدى بهذه الأخيرة إلى الدقة المتناهية في تخزين أكبر عدد من الصور وتحويلها إلى تمثلات ذهنية قابلة للاستدعاء والاستحضار عند الحاجة. ومن هذا المنطلق يمكن اعتبار ذاكرة العرب القدامى ليست فقط آلة فوتوغرافية رقمية ذات سعة تخزينية هائلة وحسب، بل هي آلة دينامية تجمع بين التخزين الرقمي والخلق المبدع، ذاكرة ذات قدرة تصورية ذهنية متجددة تُحَوِّل التجارب الواقعية في العالم خارج لغوي إلى تشبيهات تمتاز بأسلوب استعاري يكون فيه مبدأ الجشطالت والاختزال اللغوي (sprachlicheReduktion) المكون الأساس.وسنحاول في ثنايا هذهالمقالة العلمية إبرازقيمةودور الاستعارة، وذلكمن خلال منظور لساني معرفي يتأسس على مبدأ الجشطالت Gestalt.
ونطرح في هذا السياق السؤال الآتي: ماهي وظيفة نظرية الجشطالت الألمانية في توضيح ظاهرة الاستعارة؟
تكمن قيمة نظرية الجشطالت الألمانية داخل اللسانيات النفسية المعرفية في فهم العديد من الظواهر اللغوية المستعصية في اللغة العربية استنادا إلى علاقات ترابطية (assoziativeBeziehungen) ثلاثية تماس (Kontiguität) وتباين (Kontrast) وتشابه وتماثل (Similarität) والتي تجمع بين الدلالة التصورية (Designat) والمرجع خارج لغوي (außersprachlicherReferent. فظاهرة التماس والتباين تُعنى بظواهر لغوية، مثل: التجاور (kohyponymie)والإقلاب الذاتي (autoconvers)، أما التشابه فنجده في ظواهر لغوية ، مثل: الاستعارة (Metapher). ونطرح في هذا السياق سؤالا رئيسيا مفاده:
إلى أي حد نجحت النظرية النفسية المعرفية القائمة على مبدأ الجشطالت في معالجة تغير الدلالة المعجمي بناءا على ظاهرة التشابه في علاقتها بالدلالة التصورية بالمرجع خارج لغوي؟
جاءت نظرية الجشطالتالمعرفية التي حاولت بمكوناتها الثُّلاثية تجاوز مشكلة الثنائيات في التراث اللغوي الإنساني، مثل: عقل وعاطفة، علم وفن المُبَنْيِنَة للفكر الإنساني، والتي تَسَبَّبَتْ في إقصاء الدراسات اللسانية الكلاسيكية لكثير من الظواهر الإنسانية، مثل: الخيال والأحاسيس. غير أن الكثير ممن يهتمون بعلم يسمى باللسانيات المعرفية (kognitiveLinguistik) عملوا على إدخال ظواهر لغوية إنسانية، كالخيال والعاطفة، في البحث اللساني والنفسي والعلمي على السواء للوصول إلى نتائج علمية تَجْمَع بين الدقة والشمولية؛ فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُمَثِّل الخيال مكونا مركزيا يساعد العقل البشري على معرفة الأشياء في العالم خارج لغوي، وذلك بنقل هذه المعرفة إلى الآخرين بواسطة لغة تتسم بالتجريد والاختزال والسلاسة. وفي هذا السياق نجد استخدامات نعتمدها في تواصلنا اليومي مع بعضنا البعض والتي تندرج تحت ظاهرة (الاستعارة)، ولتوضيح هذه الأخيرة نقدم في هذا السياق بعض العبارات الاستعارية الممعجمة(lexikalisiert) التي تدخل في مجال الجدالات اليومية:
تتناول اللسانيات النفسية المعرفية قضية الجدال باعتباره المجال الهدف (Zielbereich=targetdomain) وربطه بتصوراتنا الذهنية المُبَنْيَنَة على عنصر خارج لغوي يتمثل في مجال الحرب المصدر(Quellbereich=sourcedomain)،وذلك استنادا إلى استعارات تصورية مُخزَّنة في معجمنا الذهني للجدال ترتكز على واقع مادي محسوس. ونتيجة للتصورات الذهنية الاستعارية نستخدم عبارات مثل:
لا تحاول الدفاع عن موقفك.
هاجَمْتُه هجمة قوية.
لم يستطع إصابة الهدف.
صوبت المُعارَضة سهامها نحو الحكومة.
الأفضل أن تعترف بهزيمتك.
وفي ضوء ما تقدم من أمثلة يمكن استنتاج فكرة جوهرية مؤداها: إن الاستخدامات الاستعارية التي تميل إلى التجريد تكون ذات مرجعية خارج لغوية والتي تصل إلى درجة المُمَعْجَمة ضمن الجماعة اللغوية والتي تُخَزَّن في معجمنا الذهني والقابلة للاستدعاء في السياق المناسب. إلا أن الاستخدامات الاستعارية التي تفيد الجهة فإنها متجذرة في التصور الذهني للإنسان العربي، ولذلك نجد أن "كلّ من قهررجلاً أو عَدُوّاً فإنه يقال فيه: علاه واعتلاه واستعلاه واستعلى عليه.ويقال: قد استعلى فلان عَلَى الناس إذا غلبهم وقهرهم وعلاهم قال الله تبارك وتعالى: (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (طاه: 64) انظر الأزهري (ج. 3صص.121-122)
وبناءا على مرتكزات فيزيائية تفيد الجهة، مثل: أفعال علاه واعتلاه واستعلاه واستعلى عليه التي تتموقع في الصورة الجشطالتية في علاقة بُعدية تأخذ منحى تنازليا يتجه من أعلى إلى أسفل، وبفضل هذه الصورة المذكورة يمكننا فهم تَبَنْيُن الدلالات التصورية للعلاقات التراتبية الهرمية (Hierarchie)بين الناس، استنادا إلى عنصر استعاري وآخر كنائي: يَظهر العنصر الاستعاري في سحب دلالة فيزيائية حسية على دلالة أخرى مجردة على أساس تراتبي هرمي مانح الصورة بمستقبِلها، حيث نجد في هذا المجال أفعالا للاستعمالات الفيزيائية المحسوسة قد استُعملت مع مكون اسمي مجرد، مثل:
بنى العالِم نظريته على حقائق علمية دقيقة.
تبنى الوزير مشروعا تنمويا.
وضعت الحكومة حلا للمشكلة.
فاستعمالنا لعبارات ذات أبعاد ااستعارية في الدرس اللساني الحديث، تُعَدُّ تحدِّيا ظاهرا للفكر اللغوي القديم، ويرجع ذلك إلى ما توصل إليه البحث اللساني في القرن الماضي وبداية هذا القرن من نتائج ترتكز على التجربة العلمية التي تعنى بالعلاقات التالية:
الظرف المكاني والزماني في اللغة الإنسانية وعلاقته بإدراكنا.
علاقتنا باللغة وكيفية اكتسابنا لها.
علاقة اللغة بإدراكنا الحسي.[1] انظر لايكوف (1987، صص. 5-11)
وبناءا على هذا النهج اللساني المعرفي فإن اللغة الإنسانية عموما والعربية خصوصا لا يجب أن تبقى منفصلة عن المعرفة الموسوعية (Weltwissen) وأيضا عن الخبرات الإنسانية المكتسبة من خلال تجارب الناس الواقعية. فَصِلَة إدراكنا المعرفي الوثيق بالأشياء والوقائع في العالم خارج لغوي له ارتباط مباشر بالدلالات التي يمكن تعريفها كالآتي "الدلالات هي وحدات ذهنية مرتبطة بالتعابير اللغوية القادرة على تخزين معلومات حول العالم."[1]انظر شفارتس/كور (1993،ص.15).
وعلى هذا الاعتبار فإن اللغة ليست بذلك الكيان (Entität) الضَّيِّق المنغلق والمنعزل عن العمليات الذهنية التصورية المعرفية المُؤَطَّرة بمحيط الإنسان والتي تتحول في الغالب إلى تصنيفات داخل المعجم الذهني (MentalesLexikon) في دماغ الإنسان.
ونظرا لأهمية التصنيف (Taxonomie) في الاستعمال اللغوي فإنه يُعد كَمِحوَر منهجي أساسي في نظرية النماذج الأصلية، نتيجة لما يقدمه لنا من توضيح لتصورات جوهرية مُبَنْيَنَة تتعلق بالعمليات الذهنية لدى الإنسان؛ فمعظم تَعامُلاتنا اليومية تقوم على أساس تصنيفي لاواعي. ويُعتبَر مبدأ التصنيف في الدراسات اللسانية الحديثة أمرا جوهريا لا يمكننا الاستغناء عنه، وهذا ما يُؤَكِّده عالم اللسانيات كلايبربقوله:"ينطلق علم الدلالة المعرفي من أن إدراك الإنسان يكون دائما مرتبطا بعملية التصنيف."[1]انظر كلايبر (1993،ص.4)
غير أن تَنَاوُل مبدأ التصنيف في علم اللغة المعرفي يختلف في طرحه كثيرة عن المبادئ التي استندت إليها الدراسات الكلاسيكية؛ فبينما كان الدرس اللساني الكلاسيكي يَعْتَبِر الأصناف على أنها أوعية مجردة، بمعنى أن الأشياء في العالم خارج لغوي عبارة عن عناصر تتموقع إما داخل الصنف أو خارجه؛ أصبحت هذه العناصر في نظرية النماذج الأصلية (Prototypen) تتحدد بقطر وهامش الدائرة.
ويُضاف في هذا الصدد مكون التشبيه في الاستخدامات الاستعارية والذي يُعتبر مركزيا، يؤثر تموقعه وكيفية عرضه داخل الجملة في قوة ووضوح الدلالة التصورية مع احترام مبدأ الاختزال اللغوي، بأساليب هادفة تتسم بالتحسين والتورية(Euphemismus)؛ وهكذا ف"إنَّ من شأن الاستعارة أنك كلما زدت إرادتك التشبيه إخفاءا ازدادت الاستعارة حسنا. حتى إنك تراها أغرب ما تكون إذا كان الكلام قد أُلِّف تأليفا إن أردت أن تُفصحَ فيه بالتشبيه خرجتَ إلى شيءٍ تعافُه النفسُ ويلفظُه السَّمعُ." انظر الجرجاني (1995، ص. 327) فدور الاستعارة يتمثل في نقلنا من عالم خارج لغوي مادي إلى آخر مجرد يتمثل في تصوراتنا المخزنة في معجمنا الذهني، وذلك على شكل عبارات لغوية بدلالات مُمَعْجَمَة(lexikalisierte)Bedeutungen) تحترم ذوق وأخلاق الجماعة اللغوية داخل المجتمع المحافظ؛ "لكن ما يمكن إثباته هو أن الرغبة في خطابات ذات سمات تعبيرية وعاطفية تعد من بين الدوافع الأساسية في الاستخدامات الاستعارية."انظر بلانك (1997، ص. 160)
فالقيمة المضافة التي تتميز بها الاستخدامات الاستعارية أنها تقوم على دلالات تصورية قد تكون موجهة عن قصد لتحريك عواطف ومشاعر المُخاطَب، خصوصا في الخطابات الشفوية من سياسية ودينية إلخ.
وفي هذا السياق نسجل قيمة الاستخدامات الاستعارية في التراث اللغوي الإنساني بصفة عامة، وفي التراث العربي الإسلامي بصفة خاصة من شعر ونثر على أنه كان ولا يزال يخفي في ثناياه عبارات استعارية بدلالات مُشَفَّرة(chiffriert)، وبسبب ذلك كان لا يُفهَم المقصود الدلالي في الاستعارات إلا بتفكيك شَفْرة الدلالة المقصودة بالاستناد إلى المعرفة المعجمية في اللغة المفردة (Einzelsprache) وأيضا إلى المعرفة خارج لغوية (المعرفة الموسوعية والدلالة الإيحائية) (Konnotation)، وذلك بالرجوع إلى أمهات الكتب العربية من معاجم وكتب الشروح المختلفة لتمييز الاستعمال الحقيقي للكلمة عن الاستعمال المجازي؛ وإذا رجع الباحث اللساني إلى التراث العربي الإسلامي وقرأ كتاب يزيد بن الوليد إلى مروان بن محمد "أمّا بَعْدُ فإِني أراك تقدِّم رِجْلاً وتؤخرُ أُخرى. فإِذا أتاك كتابي هذا فاعتمدْ على أيتهما شئتَ والسلام. يعلم أن المعنى أنه يقولُ له: بلغني أنك في أمرِ البَيْعة بين رأيين مختلفينِ ترى تارة أن تبايعَ وأخرى أن تمتنعَ عن البيعة. إِذا أتاك كتابي هذا فاعملْ على أيِّ الرأيين شئتَ وأنه لم يُعرفْ ذلك من لفظِ التقديمِ والتأخيرِ أو من لفظِ الرِّجْل ولكنْ بأنْ عَلِم أنه لا مَعْنى لتقديم الرِّجْل وتأخيرها في رَجُلٍ يُدْعى إلى البيعة. وأن المعنى على أنه أراد أن يقولَ: إنَّ مثلك في تردُّدك بين أن تبايعَ وبين أن تمتنعَ مثلُ رَجُلٍ قائمٍ ليذهبَ في أمرٍ فجعلتْ نفسُهُ تريه تارةً أن الصَّوابَ في أن يذهبَ فجعل يقدِّم رِجْلاً تارة ويؤخِّر أخرى وهكذا كل كَلامٍ كان ضربَ مَثَلٍ لا يَخْفى على مَنْ له أدنى تمييز أن الأغراضَ التي تكونُ للناس في ذلك لا تُعْرَفُ من الألفاظِ ولكن تكونُ المعاني الحاصلةُ من مجموعِ الكلام أدِلةً على الأغراضِ والمقاصِد."انظر الجرجاني (1995، ص. 322)
ورغم شرْح الجرجاني المُفصَّل للدلالة والقصد الكامنَين في كتاب يزيد بن الوليد فإن السياق الخطابي التاريخي في التراث العربي الإسلامي هو الذي فك شفرة (Dechiffrieren) فحوى الكتاب المُرسَل إلى مروان بن محمد بخصوص موضوع البيعة؛ ويلعب السياق الخطابي في ظاهرة الاستعارة دورا جوهريا، وذلك في تحديده الدقيق للإطار العام أو الخاص الذي تُستعمل فيه الكلمة المُستعارة؛ "فبدون وجود سياق خطابي محدد لا توجد استعارة."انظر فانريش(1976، ص. 318) وتتجلى أهمية السياق الخطابي التاريخي والمُؤطِّر لاستعمال الكلمة أيضا في الفصل بين دلالتين مختلفتين أو أكثر لنفس الكلمة، وعندها يتم استبعاد الدلالات غير المناسبة للسياق والإبقاء على تلك الدلالة المناسبة للإطار السياقيالتاريخي المُحَدِد للخطاب المُراد فهم دلالاته.
وفي هذا الصدد تؤكد اللسانيات النفسية المعرفية وظيفة العبارات الاستعارية القائمة على أساس تواصلي خطابي، ويوضح هذا الأمر اللساني الألماني فريتس في قوله: "تُعَد الاستعارة الخطابية جذابة لأنها تقوم بوظائف متنوعة وتقدم لنا فوائد تواصلية متعددة، ومن أهم هذه الوظائف الوظيفة التعبيرية والوظيفة المعرفية وتتعلق كل وظيفة بالأخرى عندما ننتج ترابطات مجالية جديدة، بحيث نستطيع أن نقدم خطابا أصيلا ومثيرا وقويا، ونستطيع أيضا أن نوظف المعرفة المتوفرة لدينا لتوظيح مجالا معينا أو الكشف عن رؤية جديدة". انظر فريتس (2005، صص. 85-86)
فإذا عدنا إلى المثال السابق وحاولنا فهم القصد من كتاب يزيد بن الوليد المُرسَل إلى مروان بن محمد بنظرة الألماني آندرياس بلانك (Andreas Blank 1997) فيمكن القول: إن خبر تردد مروان بن محمد بين قبول البيعة وبين الامتناع عنها كان هو الباعث الأساس الذي جعل يزيد بن الوليد يكتب رسالة مقتضبة (Prägnant) لكنها تحمل في ثناياها أكثر من خبر مُشَفَّر؛ ولِفَكِّ هذا التشفير فإن يزيد بن الوليد كان حينها يتوفر على دلالة تصورية لِرَجُل يتردد في البيعة يريد تحويلها إلى دلالة على مستوى العلامة اللغوية (Zeichenebene) تتماشى مع الموقف السياقي، ولهذه الغاية التواصلية الخطابية قام يزيد بن الوليد باستدعاء المثل العربي "تقدِّم رِجْلاً وتؤخرُ أُخرى" المخزن في معجمه الذهني ثم وظفه في كتابه إلى مروان بن محمد (المرجع خارج لغوي)، وفي هذا السياق التواصلي الخطابي يفيد التمثيل الاستعاري إثبات صفة التردد لمحمد بن مروان وكأن الصورة الذهنية للتردد والحيرة أمر حاصل وثابت في ردة فعل محمد بن مروان. ويضاف في هذا الإطار أن التغير الدلالي الجديد في هذا التمثيل الاستعاري يكمن في الشطر الثاني من الكتاب: "فإذا أتاك كتابي هذا فاعتمد على أيتهما شئت والسلام" لأن هذا الشطر من الكتاب يُعد تكملة للصورة الذهنية للرَّجل المتردد في التصور الذهني ليزيد بن الوليد، وذلك على شكل تمثل ذهني تم تحويله إلى علامة لغوية فصيحة تفيد التحدي أو التهديد؛ لأن الموضوع هنا هي البيعة واستُعِير تقدم الرِّجل أو تأخرها ثم الاعتماد على إحديهما كدلالة على موقف مروان بن محمد المتردد من البيعة، وأن ما يترتب على هذا الأمر سيان عند يزيد بن الوليد سواء بايع مروان بن محمد أم إمتنع. ونظرا لقصور دلالة الكلمة الحقيقية عن تحويل جميع ما يتعلق بحياتنا إلى لغة واضحة ومقتضبة يلجأ المتكلم إلى استخدامات استعارية.
تجمع بين دلالة تصورية دقيقةذات مرجع خارج لغوي بعبارات مجردة سَلِسَة.وكنتيجة للقيمة التواصلية التي تحظى بها الاستخدامات الاستعارية فإن مع سرعة تقدم العلوم في جميع المجالات أصبح تحويل أفكارنا وأحاسيسنا إلى لغة استعارية مقتضبة وواضحة أمرا ضروريا أكثر من ذي قبل، لأن عصرنا الرقمي يفرض علينا تواصلا سريعا ومُرَكزا؛ ولهذا السبب يفضل المتكلم الاستخدامات الاستعارية لأن هذه الأخيرة تساعدنا في تواصلنا مع الآخرين على تحويل الوقائع والأمور المجردة إلى صور استعارية تمتاز بالوضوح والاقتضاب؛فتصوراتنا الذهنية حول الأشياء والوقائع والأحداث تكون في عمومها مُؤسَّسَة على أطر (Rahmen) وقوالب (Schema) مُحَددة الاستعمال داخل الجماعة اللغوية، وعندئذ "تصبح الاستعارات بمثابة جسور عقلية تخدم فهم الإنسان، وتؤدي بالعقل الإنساني إلى بناء رابط بين الكيانات التصورية المعنية". انظر شفارتس (2008، ص. 69)
فدور الاستعارة في تسهيل عملية التواصل بين الناس وجعلها سلسة أصبح بفضل الشروح المذكورة سابقا أمرا واضحا وجليا، لكن السؤال الذي يُطرح هنا هو: ماهي العناصر التي تُعطي للاستعارة القيمة التواصلية المذكورة؟
إن اقتران التصور الذهني عند الإنسان بالاستعارة يجعل هذه الأخيرة حاضرة في جميع مجالات ونواحي الحياة الإنسانية. فاستعارة كلمة كانت مُتَدَولة قديما ثم إسقاط عليها دلالة مرجعٍ جديد بتصور ذهني مغاير ، يُعد أمرا جوهريا في اللغات الطبيعية، لأنه يتماشى مع مبدأ الاقتصاد اللغوي. ولهذا السبب "لا يمكن إنكار حقيقة مفادها أن الاستعارة تتضمن عنصرا تشبيهيا، وأنها مبنية على التمثيل والتشبيه، وتكون العمليات التفاعلية المشتركة الاستعارية مؤسسة على تمثلات وتشبيهات، أي مقارنات والتي تؤدي إلى تغير استعاري على مستوى الكلمة الممعجمة. والحاصل هنا هو أن عمليتَي المقارنة والتفاعل المشترك ضروريتان في توليد الاستعارة." ينظر بلانك (1997، ص. 159)وتتجلى المقارنة المذكورة في السمات التي تربط الدلالة التصورية في ذهن المتكلم بالمرجع خارج لغوي، وتحويل هذا الأخير إلى علامة لغوية فصيحة.
فوضوح الاستعارة وفاعليتها في التواصل تستند بالأساس إلى الأعراف والأنظمة اللغوية داخل الجماعة اللغوية، باعتبار هذه الأخيرة الحاضنة لأي استخدام استعاري جديد حتى يصل إلى درجة التداول والممعجمة. وبما أن اللغة الطبيعية في علاقة جدلية مع المجتمع الدينامي فإن الاستعارة بدورها خاضعة لتغيرات المجتمع وفي جميع المجالات الحياتية؛ ويتضح في هذا السياق أن الاستعارات لا ترتبط فقط بالأحداث التاريخية وتغيرها، ولكنها ترتبط أيضا بتغير تصوراتنا الذهنية إزاء كل ما يحيط بنا، فمركزية أو هامشية كل دلالة في تصورنا الذهني تابعة لتغير المعارف والعلوم الإنسانية. وعلى هذا الأساس فإن الاستخدام الاستعاري قد يُفهم بناءا على المعرفة خارج لغوية وليس من خلال أحادية الوحدة الدلالية؛وتجدر الإشارة هنا إلى أن الاستخدامات الاستعارية تستند في الغالب الأعم إلى الإدراك البصري، ولا يعني هذا أن باقي الإدراكات لا تتدخل في الصورة الاستعارية، بل يلتقي أحيانا إدراك سمعي بآخر بصري أو ذَوْقي إلخ.وهكذا فإن الإدراكات الاستعارية المذكورة قد تختلف من عصر إلى آخر ومن جماعة لغوية إلى أخرى بناءا على أسس استعارية دقيقة تربط الدلالة التصورية بالمرجع خارج لغوي في شكل علامات لغوية فصيحة. وخلاصة القول إن الاستعارات في اللغة العربية جامعة لعبارات فصيحة راقية تَصِل دلالاتنا التصورية بمرجع خارج لغوي في شكل علامات لغوية ومؤَطَّر بأبعاد تشبيهية تحترم أخلاق وأذواق الجماعة اللغوية، وأنها في نفس الوقت مانعة لكل سوء فهم، وذلك عند وصول العبارات الاستعارية إلى درجة الممعجمة وتجاوزها للدلالة الحرفية للعبارة بفضل التداول السلس القائم على عملية الاختزال اللغوي.
ملاحظة عامة: قام صاحب هذه المقالة بترجمة الاستشهادات باللغة الألمانية إلى اللغة العربية، ونظرا لصعوبة وتعدد الترجمات للمصطلح اللساني العربي الواحد فضلنا وضع مقابلا لأهم المصطلحات اللسانية باللغة الألمانية.
والله ولي التوفيق
المراجع
الأزهري أبو منصور محمد بن أحمد تهذيب اللغة .تحقيق : محمد عوض مرعب. الناشر: دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (2001) عدد الأجزاء: 15
الجرجاني عبد القاهر دلائل الإعجاز. تحقيق: مصطفى ديب البغا. الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت، الطبعة الأولى، (1995)
جورج لايكوف ومارك جونسن الاستعارات التي نحيا بها. ترجمة: عبد المجيد جحفة. الناشر: دار توبقال للنشر، الرباط، الطبعة الثانية، (2009)
Blank A. (1997) Prinzipien des lexikalischen Bedeutungswandels am Beispiel der romanischen Sprachen, Tübingen: Max Niemeyer Verlag
Fritz G. (2005) Einführung in die historische Semantik, Tübingen: Max Niemeyer Verlag
Kleiber G. (1993) Prototypensemantik Eine Einführung, Tübingen: Narr Verlag
Lakoff G. (1987) Women, Fire, and Dangerous Things. What Categories Reveal about the Mind, Chicago: University of Chicago Press
Schwarz M./ Chur J. (1993) Semantik, EinArbeitsbuch, Tübingen: NarrVerlag
Schwarz m. (2008) Einführung in die kognitive Linguistik, dritte, vollständig bearbeitete, Auflage. Tübingen und Basel: Franckeverlag.
Weinrich H. (1976) Sprache in Texten, Stuttgart: Klett Verlag
Wotjak G. (1971) Untersuchungen zur Struktur der Bedeutung, Berlin: Akademie-Verlag