اغتالوا بشير لتبقى إسرائيل

المسيحيون، أبناء الألفي سنة وجود وتضحية وحضارة، لم ينتظروا هذه الجماعة أو هذا الحزب أو هذه الفئة لينالوا شهادة في وطنية هم صاغوها.

مثلما أدنا افتراء نائب تنكر له حزب الله، نقدر اعتذار النائب محمد رعد باسم حزب الله. في الاعتذار شهامة، وفي تعليق النائب نديم الجميل عليه نبل. قيمة هذا الاعتذار أن أغلق الباب نهائيا على مقولة: "بشير أتى على دبابة إسرائيلية". حصل فك ارتباط بين السياسة والشهادة. وحبذا أن يكون ما جرى منطلقا لتعزيز العلاقة بين طرفين ما ذاق أحد ألم الشهادة في لبنان أكثر منهما رغم اختلاف قضيتيهما.

لا يستشهد إنسان من دون قضية، وصاحب القضية يستحق الاحترام. حقي أن انتقد قضية لكني أنحني أمام شهدائها. حقي أن أختلف مع الأحياء، إنما واجبي أن أتفق على الأموات. لا نقاتل الروح.

ما أعطى شعب من أجل مساحة لا تتعدى الـ 10452 كلم مربع ما أعطاه اللبنانيون. هذه البقعة الصغيرة كلفتنا بقع دم كبيرة. حسبي أنها تستحق. كلفتنا، خصوصا، خسارة بشير الجميل: رئيس المقاومة، رئيس الجمهورية، رئيس كل اللبنانيين، ورئيس الشهداء، شهدائنا على الأقل.

الذين يزعمون أن بشير وصل إلى الرئاسة على دبابة إسرائيلية - لا أعني حزب الله تحديدا - تناسوا أن الدبابات الإسرائيلية التي اجتاحت لبنان سنة 1978 ثم سنة 1982، كان يقودها أولئك الذين تواطأوا على لبنان، وتآمروا على دولته، واضطهدوا المسيحيين وحاولوا إبادتهم (ثلثهم يقتل وثلثهم يهاجر وثلثهم يخضع). هؤلاء استدعوا اسرائيل إلى لبنان حين أقاموا دويلة عسكرية من الجنوب حتى طريق الشام. فدخلت إسرائيل إلى لبنان الفلسطيني والسوري والسوفياتي لا إلى لبنان الدولة اللبنانية. ما أتت إسرائيل كرمى لعيون المسيحيين بل من أجل مصالحها، فكانت الحرب جزءا من صراع أميركي/سوڤياتي وإسرائيلي/فلسطيني. والدليل ما يدور اليوم. بعض اللبنانيين يظنون إسرائيل في خدمتهم، مجرد أن يطلبوها تصل. إسرائيل لا تشن حربا كرمى لهذا التيار اللبناني أو ذاك، ولهذا المذهب أو ذاك، بل حين تأتي ساعتها وتدق مصالحها. وعيب أن نراهن على إسرائيل أو أي دولة غريبة للقضاء على أي طرف لبناني.

لو أتت إسرائيل من أجل المسيحيين تحديدا، لجاءت في حرب السنتين (75/76) وليس سنة 1982 بعد ثماني سنوات على صمودهم وتهجيرهم ومقتل الألوف منهم وتدمير قراهم ومناطقهم. لكن ذكاء بشير الجميل ووطنيته أن استفاد من الصراع القائم، ومن تدمير الآلة العسكرية الفلسطينية، ليطرح نفسه منقذ لبنان من الاحتلال الإسرائيلي. ما انتخب اللبنانيون بشير لينقذهم من المنظمات الفلسطينية والجيش السوري (هذا تحصيل حاصل)، بل من الجيش الإسرائيلي. وأصلا هذا مشروع بشير الجميل: تحرير لبنان كل لبنان من جميع المحتلين وفي طليعتهم إسرائيل. والذين اغتالوا بشير عطلوا الانسحاب الإسرائيلي وتعايشوا معه في لبنان حتى سنة 2000 ورقة في مفاوضات السلام حول الجولان. إذن "روقوا علينا وحولوا اتهاماتكم ع غيرنا".

يفترض بحزب الله، ولم يكن شريكا في الأحداث آنذاك، أن يدرك هذه الحقائق التاريخية، وأن يعرف أن أكثر المتضررين من نتائج الدخول الإسرائيلي إلى لبنان هم المسيحيون: فقدوا بشير الجميل، هزموا في عهد أمين الجميل، خسروا الجبل، تركوا الجنوب، ضعفوا مع انقسام الجيش، عزلوا وتشتتوا وتقاتلوا وتنازلوا، ثم جرعوا اتفاق الطائف وأحبطوا. ماذا جنى المسيحيون من حرب 1982 ومن الدبابة الإسرائيلية؟ لكني أستطيع أن أخبركم، إذا لزم الأمر، ماذا جنى الآخرون في لبنان من الإسرائيليين.

ما حققناه نحن المسيحيين، قبل الدخول الإسرائيلي، كان بعرق الجبين ودم الشهداء، كان بالصمود والمقاومة، كان بقوتنا الذاتية وإيماننا بقضيتنا، بشجاعة شبابنا وشاباتنا، بصلاة أمهاتنا وصلابة آبائنا وتضامن مجتمعنا، لم يقاتل أحد عنا. قاتلنا بسلاحنا الذي دفعنا ثمن غالبيته، وبئس ذاك اليوم الذي سلمناه إلى دولة لا تشبهنا ولا نثق بها فقضينا على "مساحتنا الآمنة". ما حققناه كان في معارك عين الرمانة والشياح وفرن الشباك، كان في الأشرفية وزحلة والكحالة، كان في الزعرور وصنين وعيون السيمان، كان من الكورة وزغرتا وقنات، إلخ... كنا مقاومة لا ميليشيا. جدك وعمك يا شيخ سامي كانا قائدي مقاومة لا رئيسي ميليشيا. القوات اللبنانية والكتائب كانوا مقاومة وليس ميليشيا. أين نحن من ذاك الزمان المجيد ومن أولئك الرجال العظماء؟

ليست العمالة من مكونات الشخصية التاريخية المسيحية في لبنان. فمن ينشئ وطنا لضمان حريته وأمنه لا يبيع كرامته وشرفه. ومن يؤسس مجتمعا قائما على الشراكة لا يشرك. ومن يقاوم ويستشهد في سبيل قضية لا يتقبل العمالة وتعددية الولاء. ومن يسترجع التاريخ، القديم والحديث، يكتشف أن المسيحيين في لبنان، وبخاصة الموارنة، ما تعرضوا للحروب والاضطهاد إلا لأنهم رفضوا العمالة والخضوع وآثروا الصداقة والتحالف على أسس الكرامة الشخصية والسيادة الوطنية.

المسيحيون، أبناء الألفي سنة وجود وتضحية وحضارة، لم ينتظروا هذه الجماعة أو هذا الحزب أو هذه الفئة لينالوا شهادة في وطنية هم صاغوها. نحن نحدد مشروعنا وخطنا. نحن نختار صداقاتنا وتحالفاتنا. نحن نقرر قبول مساعدة هذه الدولة أو تلك. نحن نميز العدو من الصديق. نفعل ذلك انطلاقا من مصلحتنا كجماعة خاصة في هذا الشرق وكمكون مؤسس لبنان الحديث. وما كانت مصلحتنا يوما خارج إطار سيادة لبنان واستقلاله وميثاقيته.

من هذه الرفعة الوطنية نظر المسيحيون إلى الآخرين واختاروا الحياة معهم. وهكذا يريدون أن ينظر الآخرون إليهم ليبقى لبنان دولة واحدة ومجتمعا مسالما يحتكم إلى الديمقراطية لا إلى الدبابات.