الأخبار لم تعد سلعة ثمينة

لم تعد الأخبار الجانب الأوحد في خلفية حياتنا، بل تمثل اليوم الدراما الرئيسية في نكهة مألوفة ومطلوبة، وهي الوسيلة التي يختبر فيها الملايين ما يدور حولهم.
صار الإنسان المعاصر يشعر بأهميته من التفاعل مع الأزمات الدولية
العلاقة المتغيرة مع الأخبار ليست وصفة لإحساس أكبر بالسعادة الشخصية

يدافع نيكولاس كريستوف الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز، عن إدمانه على أخبار الرئيس دونالد ترامب في دائرته الاجتماعية، فهو على استعداد للاهتمام بكل ما يصدر عن ترامب أينما يكون في حفلات الكوكتيل، على طاولة العشاء، في نزهة مع العائلة، وغير مستعد للتفريط في أي من هذه الأخبار. بيد أن هذا لا يعني أنه غير مدمن على الدراما الإخبارية في الشؤون الأخرى.

وَضْع كريستوف الإدماني صار هو الطبيعي، والغريب ألا يكون أحدنا قد وقع بإرادته في حبال الأخبار، لأن الإحساس بالمسؤولية تجاه العالم اليوم أن تكون على دراية بما يحصل فيه قبل أن تتبادل كلمة مع إنسان آخر في الصباح.

إلا أن رجلا أميركيا من أوهايو يدعى إريك هاغرمان تَحمّل كل أوصاف الازدراء الأخلاقي والأنانية والانفصال عن الواقع، من قبل محيطه الاجتماعي ووسائل الإعلام التي وصفته “بالرجل الأكثر أنانية في أميركا”، لأنه فرض على نفسه تعتيما على الأخبار منذ وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، إلى حد أنه ذهب إلى عمل نوع من الضوضاء غير الضارة على أذنيه أثناء زيارته للمقهى المحلي، لمنع نفسه من الاستماع إلى الأخبار.

صرنا نقتل الوقت في الحافلة أو في طوابير الانتظار بمتابعة الأخبار أكثر من أي شأن آخر، لنجد أنفسنا غارقين في مآسي السياسة أو الكوارث الإنسانية.

بل إن دراسة جديدة قد توصلت إلى أن 70 في المئة من الذين يملكون أجهزة ذكية يصطحبونها معهم إلى فراش النوم.

في السنوات الأخيرة، كان هناك قلق كبير بشأن الوقت الذي نقضيه مع أجهزتنا الذكية وما يتركه ذلك من أثر على أدمغتنا. مع أن الأخبار لم تعد كما كانت قبل عقود “سلعة ثمينة” لأنها أضحت متاحة وسريعة الوصول إلى الجمهور، إلا أنها في الوقت نفسه تشغل المزيد من وقتنا، بل تحتل مركز الصدارة في الواقع الشخصي للإنسان الرقمي.

صار الإنسان المعاصر يشعر بأهميته من التفاعل مع الأزمات الدولية، ويعد ذلك من مسؤوليته الشخصية كي لا يبدو متهربا، ولم تعد الأخبار الجانب الأوحد في خلفية حياتنا، بل تمثل اليوم الدراما الرئيسية في نكهة مألوفة ومطلوبة، وهي الوسيلة التي يختبر فيها الملايين ما يدور حولهم.

يعزو أوليفر بوركمان الكاتب في صحيفة الغارديان السبب الذي يجعلنا نقضي وقتا طويلا في قراءة وتحليل الأخبار، إلى جنونها! لم تكن الأخبار مجنونة في تدفقها كما يحصل في عصرنا، مع أننا نتذكر أنها لم تكن متاحة في كل الأماكن قبل عقود وكانت ترسل على الأغلب من مراكز صناعتها المعروفة.

لكن مع ذلك لا يفرط بوركمان في حزمة أسئلة وهو يثبت أن الأخبار لم تعد سلعة ثمينة كما كانت، بالقول: هل المشاركة الشخصية في معرفة الشؤون العامة مفتاح لجعل الإنسان مواطنا صالحا؟ وهل يمكن لسيل لا نهاية له من أشرطة الأخبار أن يتسبب بالضرر للديمقراطية والرفاهية التي نطمح إليها؟

لقد شجعتنا وسائل التواصل الاجتماعي على استهلاك وصناعة الأخبار أكثر من أي وقت مضى، لأنها الطريقة المثالية للتعبير عن الاحتجاج المعاصر، قد تسبب هذه الوسائل إحساسا بالوهم عند غالبية المستخدمين، لكن فكرة التعليق والنشر بددت الصورة الكلاسيكية للاستهلاك السلبي لنفس العناوين المتكررة طوال اليوم، عندما أضحى المستخدمون شركاء في الصناعة الإخبارية.

ومع ذلك فإن هذه العلاقة المتغيرة مع الأخبار ليست وصفة لإحساس أكبر بالسعادة الشخصية. فترك مساحة من الدماغ مشغولة بشكل دائم بالأخبار هو نوع من الشعور بالذعر حسب تعبير أدم غرينفيلد مؤلف كتاب “التكنولوجيا الراديكالية: تصميم طبيعة كل يوم” لأن الأحداث الضخمة عادة ما تشغلنا لكن يتعذر على أي فرد تغييرها.

لا أحد يجزم بأن جميع الناس اليوم يقضون ساعات في استهلاك الأخبار، إلا أن الإفراط في التعرف على الأخبار هو بحد ذاته مشكلة للمتميزين. وقد نشهد ظهور ضرورة أخلاقية جديدة ترى أن تجاهل الأخبار أو رفض منحها الأولوية في حياتنا، نوع من التهرب من المسؤولية. وفقا لمبدأ يرجع إلى عصر التنوير، فإن المواطنين الديمقراطيين المسؤولين هم أولئك الذين يسعون جاهدين للبقاء على اطلاع على أخبار الأمة والعالم، وهو واجب يمكن اعتباره بالغ الأهمية في أوقات الاستبداد والحروب وهدر الكرامات المتصاعد في العالم.

ومع ذلك، من الواضح أن ثمة مشكلة في هذا الموقف، بصرف النظر عن تأثير الأخبار على أدمغتنا. فهناك اعتقاد بأن المجتمع الذي يستثمر فيه الكثير من الناس في الدراما العاطفية للأخبار بعيد عن تجسيد الديمقراطية المثالية، بل على العكس من ذلك، فإن هذا المستوى من المشاركة الشخصية مع الأخبار يعد أحد أعراض الأضرار التي لحقت بحياتنا العامة. وأصحاب هذا الاعتقاد يطالبون بإعادة الأخبار إلى مكانها السابق بعد أن أثرت بما يكفي على هدوء حياتنا. فلا يزال هناك من يتذكر الوقت الذي كانت فيه الأخبار بمثابة لهو لطيف عن نمطية الحياة اليومية، للهروب من المكتب أو البيت أو المشاغل كان الناس يفضلون الاستماع إلى الأخبار! أين نحن من تلك الحال؟

من الواضح أن الأخبار اليوم سلبت هدوءنا الداخلي، ولم تعد ملجأً مريحا للهروب إليها كما كان يتوق لها المرء. إلا أنها صارت ضرورية لتحسين الكفاءة الشخصية كما يرى تيم وو الخبير في الإنترنت ومؤلف كتاب “تجارة الاهتمام” و”من يحكم الإنترنت”. وهذا يفسر أيضا لماذا أصبحت الأخبار مهيمنة على مساحات أكبر من ذهن الجمهور. عندما يتعلق الخبر برئيس يضع إصبعه على الأزرار النووية، اضطراب أسعار الغذاء في زمن الحروب، أزمة اللاجئين، أو حتى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة. وهكذا يصبح تجاهل الأخبار أمرا خاطئا في عالمنا الفوضوي الذي تآكلت فيه الحدود بين المجالين العام والخاص على الإنترنت.