الأخيار الأشداء يحصدون الرفعة والسمو

نيتشه وهيوز يسيقان أمثلة من الواقع في محاولة دؤوب لتعليم البشرية السبيل للرفعة السرمدية، حتى مع ضعف الإمكانيات.
الضعف ما هو إلا إحساس داخلي؛ فالقوة الحقيقية موئلها النفس، ومحركها القدرة على التفكير السليم
نيتشة بدأ بانتقاد مجتمعه، الذي جنح عن ركب مسيرة التقدم، وأحللها بالتمسك بالعدمية، والتي تفضي للدونية

أنت وحدك القادر على تحديد مصيرك، والتحكم في كيفية رؤية الناس لك. الضعف ما هو إلا إحساس داخلي؛ فالقوة الحقيقية موئلها النفس، ومحركها القدرة على التفكير السليم. 
بينما كنت أردد هذه الكلمات في إحدى الحلقات النقاشية، قاطعني أحدهم بقوله: "الرفعة والسمو مجرد كلمات طنانة، من الصعب تطبيقها، وخاصة في عصرنا الحالي الذي يعج بالصراعات والاضطرابات، وصارت الأنانية هي الشعور السائد". وحالما انتهى من ترديد كلماته الأخيرة، رددت أن الأنانية شعور لا يمكن تغافله، فهي المحرك الغريزي الذي يدفع المرء للتقدم، ولكن هناك شروط لها حتى تصير محمودة العواقب. 
فور ما تفوهت بتلك العبارة، تداعى إلى ذهني ما كان يردده الفيلسوف الألماني الكبير فريدريك نيتشه في كتاباته المميزة المثيرة للجدل؛ وخاصة ما ورد في كتاب "شفق الأصنام" المنشور في عام 1889. فأهم ما تؤكد عليه فلسفة نيتشة بوجه عام، وإن ظهرت بشكل مفصل في الكتاب سالف الذكر، هي أهمية التوكيد على تميز الإنسان، والتعبير عن ذلك بكل الوسائل؛ لأن هذا هو مكمن السعادة، والذي من خلاله يسهل الإرتقاء للرفعة.
بدأ  نيتشة قبل أي شئ بانتقاد مجتمعه، الذي جنح عن ركب مسيرة التقدم، وأحللها بالتمسك بالعدمية، والتي، دون أدنى شك، تفضي للدونية. فالمجتمع لا يتقدم ولا يشعر أفراده بالسعادة إلا في وجود الأخيار الأشداء، وعدم الإشارة لهم بأصابع الإتهام. ومن ثم، امتدح نيتشة شخصيات على مر التاريخ استطاعت أن تعبر عن قوتها الكامنة، فتمكنت أن تشق طريقها في دروب الحياة الوعرة لتصل لأعلى درجات الشهرة، والسمو على مدار الزمان، ومن تلك الشخصيات التي امتدحها نيتشة: نابوليون بونابرت، ويوليوس قيصر، والكاتب والسياسي الألماني يوهان فولفجانج جوته. وبوضع تلك السطور في قالب يلائم عالمنا المتسارع في الوقت الحالي، نجد أن نيتشه قد تغلغل للهاجس الذي يسيطر على عقول مجتمعاتنا، من إحساس بالخمول، والاستضعاف، والذي يدفعها أيضاً لمهاجمة وانتقاد المجتمعات التي استطاعت أن تحرز تقدماً، وتمكنت من أن تخرج من دائرة الشفقة والمسكنة التي تجمع آخرين أيضاً غير مؤهلين حولها. فكما هو واضح، يكمن بقلب نيتشه إيمان راسخ بأن البقاء للأصلح، فأنى يصير الإنسان أو المجتمع صالحاً وهو لا يؤمن بأنه الأصلح. أضف إلى ذلك، تقدم المجتمعات وكذلك الأفراد التي لم تحرز تقدما، أن تعرقل مسيرة الآخرين الذين يجاهدون في تطوير أنفسهم.

تيد هيوز في قصيدة "الصقر جاثماً" قد طبق جميع تعاليم نيتشه عن السعادة المذكورة في كتاب "شفق الأصنام"، الذي ينتقد فيه نيتشة تمجيد الثوابت الواهية

فلا يمكن للإنسان وهو ينكمش تحت ساتر من الثوابت الواهية التي تشوبها مغالطات جمة، أن ينشئ حياة سليمة. فالنتيجة الحتمية لذلك هو النقيض تماماً؛ حيث سوف يتولد لدى الإنسان شعور "معادي ومناهض للحياة" نجد فيه أن الضعيف يتم تمجيده من خلال نشر شعور من الشفقة حياله، في حين تسعى جميع القوى أن تخمد قوة الأقوياء. أي أن لسوف تصير المعاناة ومدى التعرض للهجوم الغاشم هو مقياس القوة.
وفيما يبدو أن الشاعر الإنجليزي تيد هيوز (1930-1998) قد تنبه لهذه الحقيقة وخاصة بعد ما أكتوى بنيران أصدقائه والمجتمع الذي ضمن له النجاح فيما سبق عندما كان يكن له الشعور بالشفقة، وهاجمه عندما وقف على أرض الواقع الصلبة بقوة.
فلقد عاني الشاعر الإنجليزي تيد هيوز خلال مسيرة زواجه من الشاعرة والقاصة الأميركية سيلفيا بلاث، والتي كانت تعاني من انتكاسات نفسية متكررة منذ صغرها، والتي جعلتها تخضع للعلاج النفسي، والعلاج بالصدمات الكهربائية. وبسبب الشعور الدائم باليأس والعدمية، حاولت سيلفيا بلاث الانتحار لمرات عديدة، ولكنها نجحت في المرة الأخيرة أن تنهي حياتها، وخاصة بعد أن علمت أن لزوجها خليلة خارج إطار مؤسسة الزواج. وعندئذ، ما كان من المجتمع الذي صفق فيما سبق لتيد هيوز، إلا أن يكيل له الاتهامات، ومن أخطرها أنه هو من قام بقتل زوجته فعلياً.
وتلك الواقعة كانت تكفي لتدمر مسيرة تيد هيوز الأدبية والاجتماعية، لكنه فيما يبدو قد اعتنق مبادئ نيتشة الفلسفية، وخاصة تلك المتواجدة بكتابه "شفق الأصنام"، فاستناداً على تمجيد نيتشه لمبدأ "البقاء للأصلح"، قام تيد هيوز بتأليف مجموعته الشعرية الفريدة "الغراب: إقتباساً من حياة وأناشيد الغراب"، والتي أصدرها في عام 1970. تم وصف المجموعة بأنها تمثل نقلة ليس فقط في الأسلوب الشعري لتيد هيوز، بل أيضاً للشعر الإنجليزي السائد في هذا الوقت، بشكل عام. فلقد كانت المجموعة جدلية لأقصى درجة، حيث غابت عنها الرومانسية، وخلت من أي شعور بالتعلق بأي شيء، أو أي مخلوق، أو أي مبدأ. والمجموعة تمس الجانب المظلم من حياة وشعور الإنسان، الذي لطالما استحي الأفراد أنه يلقوا عليه الضوء، بالرغم من أنه الجانب الواقعي، الذي إذا تم التواصل معه بشكل صحيح لتحققت السعادة، ومنها الشعور بالسمو والرفعة. 
ولعل أبرز قصيدة في هذه المجموعة، هي قصيدة "الصقر جاثماً ، وهي تعد واحدة من القصائد التي تحظى بشهرة عالمية واسعة، وتقريباً لا يخلو أي كتاب دراسي أو جامعي منها في أوروبا والولايات المتحدة. ويلاحظ أن تيد هيوز في هذه القصيدة لا يركز إلا على شخصية صقر، فيجسده ليتكلم، وما يتفوه به يجعل القارئ يغوص في أفكار الصقر؛ ليكتشف منبع قوته الكامنة، وليسبر غور سبب إحساسه الدائم بالرفعة والسمو، والاستغناء عن الانخراط في الحياة مع الآخرين. فعلى لسان الصقر، يقول تيد هيوز:

تيد هيوز
جسدي يخلو من السفسطة

أقبع على قمة الغابة، مغمض العينين
وساكن بلا حراك، لا تراودني أحلام خادعة
لتسلل عبر رأسي المعقوف، وقدمي الخطافي:
وعندما أخلد للنوم، أتدرب على أن أقتل دون شائبة، ثم آكل. 

أهمية الأشجار الشاهقة!
عندما يطفو الهواء، وتنتشر أشعة الشمس
تصير الأشجار الشاهقة الفائدة الكامنة لي؛
ثم ترفع الأرض وجهها حيالي للتنقيب عن الفرائس.

قدماي مطبقتان على اللحاء القاسي.
لقد استغرق الأمر أمداً موازيا لخلق البشرية؛
من أجل تخليق قدمي، وريش جناحي
وحالياً، أضع كل البشرية عند قدمي.

وقد أحلق عالياً ببطء في دوائر،
أنا أقتل حيثما شئت، لأن الوجود ملكي
فجسدي يخلو من السفسطة،
والنموذج الأخلاقي الذي أمجده هو حز الرؤوس.

وأما عن حصة الموت التي أتبعها
فهي تلك التي تكفي رحلتي المباشرة
عبر عظام الأحياء،
وليس بمقدور أي جدل توكيد حقي هذا؟

وبينما تجثم الشمس خلفي
لم يُصب شيء التغيير البتة، منذ فجر البشرية
فعيناي لم تسمحا بأن يطرأ أي تغيير
ولسوف أعمل على أن تظل الأمور دوماً هكذا.
ما يثير الدهشة والسخرية في آن واحد، أن الصقر الذي هو من فصيلة الطيور التي تتميز بضعفها، قد تحلى بالثقة والإيمان بنفسه وبقدراته، لدرجة أنه صار يرى نفسه زعيماً للبشرية: فهو يقتل دون وحشية، أو لإرضاء غريزة وقتية هوجاء، وكذلك هو يحيا دون أن ينخرط في لغو الآخرين. فعند سبر غور قدراته الكامنة علم أن كل المخلوقات، وأيضاً الأرض قد كرست جهودها لخدمته. وبسبب رصانته، وحكمته في التعبير عن قدراته، تبوأ منزلة سيد البشرية وصارت جميع أوامره وأحلامه أمر مطاع.
أعتقد أن تيد هيوز في قصيدة "الصقر جاثماً" قد طبق جميع تعاليم نيتشه عن السعادة المذكورة في كتاب "شفق الأصنام"، الذي ينتقد فيه نيتشة تمجيد الثوابت الواهية. ومن الطريف أن الاسم الآخر لهذا الكتاب هو "التفلسف ممسكاً بالمطرقة"، وكأن نيتشه راغب في فرض فلسفته تلك على الجميع من خلال إحداث جلبة. فكل من نيتشه وهيوز في عمليهما السابق ذكرهما والمثيرين للجدل، يسيقان أمثلة من الواقع في محاولة دؤوب لتعليم البشرية السبيل للرفعة السرمدية، حتى مع ضعف الإمكانيات.