الأدب الصيني .. عنكبوتية الحكي وتقنياته

كثيرٌ من النقاد يرون أن توظيف لفظة تقنية مع المصطلح الأخلاقي الصدق يعد غريبًا – لكنني سأبرهن وأدلل على أنها تقنية هادفة في نهاية المطاف.
موازاة بين الأدب الصيني / الصيني، وبين الأدب الصيني / العربي 
السارد يكون بمنطقةٍ يمكن أن نطلق عليها منطقة الإشعاع السردي

غنيٌّ عن البيان أن السارد يكون بمنطقةٍ يمكن أن نطلق عليها منطقة الإشعاع السردي؛ لأنه يمتلك أدوات قصته أو روايته وخيوطهما معا، ويلتقي بهذا وذاك، ويوزع الأدوار هنا وهناك،  لكنه في الوقت نفسه قد لا ينتبه إلى أن هناك شخصًا يجلس على مقربةٍ منه لا يتدخل في سرده من قريب أو من بعيد، لكنه في الوقت ذاته يحتفظ في وعيه بأدواته التي تمكنه من معالجة بعد الأمور التي أماط السارد اللثام عنها وكشف عنها البيان، ذلك الشخص هو الذي يمارس عملية نقد النقد.
ونحن عندما نتحدث عن مركزية الإشعاع السردي فإننا لا نغفل - على أية حال - قيمة التناول والتحليل وقوى التنميط التي يوظفها السارد في حكاياته بما يحقق له الفائدة المرجوة من وراء إبداعه.
ومن المنطلق السابق؛ فإنه حَريٌّ بي أن أنتقل إلى تلك الوجبة الأدبية الدسمة التي قدمها لنا منير عتيبة في كتابه القيم "قراءات نقدية في الأدب الصيني" إذ كانت معالجته لما عرضه لنا أشبه بتلك الكاميرا العنكبوتية التي تنتقل بنا من (كاتب/كاتبة) إلى (كاتب/ كاتبة) في سهولة ويسر وقدرة، وكذلك دقة عالية الوضوح في التعبير بجلاء عن تجربة رائعة في الكشف عن طيات وخبايا الأدب الصيني المعاصر.
والآن سنركز على عدد من القضايا النقدية التي عالجها عتيبة في كتابه بدءا من تصريحه في تقديمه "هذا الإنسان يشبهني" مرورا بـ"مذكرات بائع الدماء" عروجا إلى "الفلاحة الصينية الفصيحة" وارتكازا على "العمدة" وصولا إلى وانتهاء بـ "الشيخ والوقائع الفاضحة".
ومن نافلة القول فإن عتيبة استطاع - عبر اختياراته الأدبية - أن يلقي الضوء على أدب عددٍ من الكتاب الصينيين المعاصريين وذلك عبر  تقنيات خمس يمكن إيجازُها فيما يأتي:

التوازي النفسي أن يعبر الكاتب عما يختلج نفسه ويظهره في طيات حديث الآخرين ويتخذ من مواقفهم قيمة موازية لانفعالاته التي طالما ود لو يظهرها علنًا

تقنية المُمازجة الأفقية 
إذ كان عتيبة يمزج بوعيٍ بين الواقع الحكائي للكاتب الأصلي وبين الواقع الاجتماعي له هو، معولا على التحليل المنهجي وفقا للمعطيات الأولية التي قدمها الكاتب نفسه. وقد تجلت تلك الممازجة الأفقية في غير رواية  منها "بكين بكين" للكاتب شيو تسي تشين، إذ قال عتيبة في ختام تعليقه على الرواية "لكن خلف هذه البساطة الظاهرة.. خلف كل ذلك مأساة، مأساة المدن الكبرى.." (ص 21) وفي رواية "مذكرات بائع الدماء" للكاتب يو هوا، قال "ولولا مسحة الفكاهة التي تذكرك بجحا لما استطعت استكمال الرواية – ليس لأنها غير جيدة؛ بل لأنها تضعك أما واقع شديد القسوة ...وتجعلك تفكر في النسبة التي يتماس بها واقعك أنت مع ما تقدمه الرواية" (ص45). إنه "ذلك الرجل الذي لا يكف عن المرح، لكنه مرح ممزوج بمرارة واقع وصل إلى درجة من البشاعة تسحق روح الإنسان وتجعله لا يملك سوى السخرية من قبح الواقع ليحافظ على توازنه النفسي". "مويان رجل لا يكف عن المرح" (ص126). "تلك السخرية المرة التي تؤكد أنه لا يمكن أن تتنتصر النزاهة، ولو كانت شكلية أو بدافع الخوف في نظام يحكمه الفساد مثل:
من ليس فاسدا فهو أحمق.
كم مسئولا الآن لا يستخدم سلطته.
لو كنت الوحيد الفاسد لافتضح أمري سريعا. رواية بعد النهاية (ص 82).
وتلك الصلات الأفقية المتجهة يُمنة تارة ويُسرة تارة أخرى نسجت عالمًا عنكبوتيًا عبر الممازجة الأفقية النابعة من معين الأسلوب الحكائي المرتكن على السرد المتقطع تارة والمتناوب تارة أخرى؛ وذلك الأخير عندما يقارن عتيبة بين روايتين أو كاتبين. فها هو هنا يمزج بوضوح بين الكاتب وواقعه الصيني المرير. وتكمن القيمة هنا في روعة التحليل النهائي وتوظيف الدليل مكتوبًا وعرض السخرية بشكل رائق.
تقنية الصدق
قد يرى كثيرٌ من النقاد أن توظيف لفظة تقنية مع المصطلح الأخلاقي الصدق يعد غريبًا – لكنني سأبرهن وأدلل على أنها تقنية هادفة في نهاية المطاف - وإن لم يعمد إليها ناقدنا من قريب أو من بعيد. 
وقد بدا ذلك في قوله في مقدمته "هذا الكتاب اختيار شبه عشوائي يعتمد على وصول الكتاب إلى يدي أو ترشيحه لي من قبل أحد المختصين أو المهتمين بالأدب الصيني" (ص12) أما في رواية "الربع الأخير من القمر" للكاتبه تشية زي جيان، فقد قال عن الصدق وأهميته "ولأن الساردة امرأة عجوز، فهي تحكي كل تفاصيله بحميمية وبلهجة أقرب إلى الرواة الشعبيين، مما أعطاها حرية الحركة في الزمان والمكان، والأفكار والأشخاص، فلم يشك القاريء لحظة في صدقها..." (ص 23). وقد بدا كذلك في نهاية رواية "إنجليش" للكاتب وانغ جانغ، إذ كان مبدعنا صادقًا مع نفسه قبل أن يكون صادقًا مع نصه الذي يعرض فيه قوله: "على الرغم مما في هذه المقارنة من سخرية ومرارة - يقارن السارد الأصلي بين زمن طفولته وزمن الأطفال بعد أن أصبح هو كبيرا في السن - وعلى الرغم من أنها توضح زمن القهر الذي عاشه السارد طفلًا فإنها إشارة من جهة أخرى إلى أن المتمردين نجحوا في أن يغيروا شكل الحياة ولو تدريجيا، ولو ببطء، ولو دفعوا ثمنًا غاليًا ولم يحصدوا شيئا" فتلك النتيجة - كما أراها - صادقة وتعبر عن هدفٍ كان أملا وصار رجاء قد يمكن تحقيقه. (ص 93).
تقنية الدوائر السردية 
أعني بالدوائر السردية تلك الأقواس التي يبدأ بها عتيبة قضية محددة ثم نجده يدور في فلكها، ثم يعود إليها مرة أخرى في نهاية المطاف الحكائي، وهنا لا أقصد التكرار المعيب، لكن أقصد التوظيف الواعي لما يريد أن يلتقطه بالكاميرا النقدية عبر أرضيات الروايات والقصص المعروضة. وقد وجدنا ذلك في غير شاهد عنده مما استشهد به في تضاعيف عرضه. ومن ذلك ما نجده في رواية "الربع الأخير من القمر" للكاتبه تشيه زي جيان: "كانت معرفتي بلاجيدا قد بدأت بمطاردة دبٍّ أسودَ، لقد جلب ذلك الدبُّ السعادةَ حتى بابي، وكان وداعي مع (والواجيا) بسبب دبٍّ أسودَ أيضًا، يبدو أنه هو مصدر سعادتي، وهو أيضا نهايتها" (ص 31). فالدبُّ بمثابة القوسين، وهو البداية والنهاية، وهو سبب السعادة والحياة، وسبب الحزن والموت في آن معا.  

وفي رواية "العمدة" للكاتب ليو جين يون، يمكننا أن نلحظ ذلك التدوير الذي عبر عنه عتيبة على صفحات الرواية، نشعر بأن الزمن متجمد تماما على الرغم من تعاقب الأجيال وتغير مسميات منصب العمدة، وفي ذلك يخلص أيضا إلى أن "لذلك كان المنصب بآلياته المستقرة هو من يحكم الجالس في كرسي العمودية وليس العكس، حتى أهل القرية لم يكونوا يقدرون العمدة في بداية تسلمه المنصب، بل يحترمونه فقط عندما يصبح متسلطًا عليهم." (ص 120). 
إن دائرية الأحداث السردية واضحة بجلاء ذهابًا وعودة عبر متواليات الممارسات وقيمة الفعل ورد الفعل بين الحاكم والمحكومين.
وبإطلالة سريعة على رواية "نهر الزمن"  للكاتب يو هوا، يمكننا أن نلحظ تلك التقنية التي عول عليها في نقده وكانت بمثابة – كما أظن - سببًا من الأسباب التي دفعته إلى اختيارها ألا وهي فكرة التدوير؛ فقد كان الفصل الأول في الرواية بعنوان: "الباب الجنوبي"، وانتهي الفصل الرابع كذلك بالعنوان نفسه "إلى الباب الجنوبي" حتى إن عتيبة علَّق على ذلك المنحى بقوله "تبدأ الرواية من الباب الجنوبي وتنتهي فيه"، إشارة إلى دائرية حياة الإنسان التي تبدأ وتنتهي عند النقطة نفسها، الميلاد والموت ضفتان يجري بينهما نهر الزمن الخاص بكل منا" (ص 61).
تقنية العتبات الموازية
إن عنوان النص وسيميائياته من أهم التقنيات الحداثية التي يعول عليها كثير من النقاد في رسم لوحة تسبر فكر الكاتب الماورائي، وأما أن يكون هناك عتبة تحت العتبة فإن ذلك يعد إبداعًا جديدًا موازيًا يضيف إلى النص قوة إلى قوته، ويجعل القاريء في حيرة من أمره؛ أيعتني بالعتبة الأصلية أم العتبة الفرعية؟! ولعل هذا يذكرني بما ذكرة أدونيس في "الثابت والمتحول" حول قضية طبقات النص، والحفر في تلك الطبقات بحثا عن معانٍ جديدة قد يكون المؤلف أرادها، ودورنا يكمن في التنقيب عنها.
وقد تكشفت لنا تلك التقنية في كل العناوين تقريبًا، ولكنني ينبغي أن أذكر عددًا من العتبات الأصلية والموازية التي طالما تركت أثرًا في وعيي الذاتي ومنها:
(الربع الأخير من القمر) صار عنوانها الموازي (رواية تعيد بناء عالم لن يعود).
(مذكرات بائع الدماء) صار عنوانها الموازي (جحا المصري).
(بعد النهاية) صار عنوانها الموازي (القاريء الشبح).
(طلاق على الطريقة الصينية) صار عنوانها الموازي (الفلاحة الصينية الفصيحة).
(الجمل الأبيض) صار عنوانها الموازي (انتصار البراري).
تقنية التوازي النفسي
أعني بالتوازي النفسي أن يعبر الكاتب عما يختلج نفسه ويظهره في طيات حديث الآخرين ويتخذ من مواقفهم قيمة موازية لانفعالاته التي طالما ود لو يظهرها علنًا. ولعل خير دليل على ذلك التوازي النفسي ما وجدناه من إشارات كثيرة إلى الريف وما ينطلق منه من طاقة إيجابية مشعة، وذلك في مقابل المدينة التي لا ينطلق من بين براثن تمدنها سوى اللامبالاة وانعدام الشعور وانحدار الأخلاق – حتى على مستوى المهارة التقليدية، فقد قارن عتيبة بين السيارة والحصان في تعليقه على رواية "الجمل الأبيض" للكاتب قراي هاي جي، فقال الكاتب: "كان جالسا بشكل مائل على ظهر حصانه، متأرجحا ذات اليمين وذات الشمال، ولكن الراعي الذي يتعلم ركوب الخيل بمجرد أن يتعلم  المشي – من المستحيل أن يسقط عن حصانه حتى لو شرب بحرًا من الخمر، اهتز على ظهر الحصان ولكنه لم يسقط وبدا كأنه والحصان وَحدة واحدة. شعر الحصان بضرورة العناية بصاحبه واستمر في نقل حوافره حثيثا دون إبطاء أو إسراع". وهذا ما لم ولن تجده بالتأكيد بين ابن المدينة وبين السيارة أو بيئة المدينة، كما ذكر عتيبة. ولا شك أنني معه أتفق في تلك المقارنة بل المقاربة الثقافية كذلك.  (ص 105).
وفي نهاية المطاف يمكنني الذهاب بالقول إلى أن منير عتيبة استطاع بتلك التجربة الإبداعية أن يوازي ويوازن بين الأدب (الصيني – الصيني) من ناحية وبين (الصيني – العربي) من ناحية أخرى؛ وذلك عبر الشواهد الثقافية، وتلك الروافد الحضارية التي بثها الكتاب في تضاعيف أعمالهم الإبداعية. ولا ننكر أنه – عتيبة - كان متكئا على ذلك الرصيد الثقافي الذي يمتلكه، وجعل منه دفًّة توجه تحليقه النقدي وتحليله الروائي والقصصي على أساس بيّنٍ من التجذير الممتد تحت طبقات الوعي السردي البنائي المتعدد الأنماط.
أستاذ النقد الأدبي والبلاغة المساعد بقسم اللغة العربية وآدابها - كلية الآداب – جامعة الإسكندرية