"الأرشيف السردي" في الدراسات السردية

عبدالله إبراهيم يوضح أن مفهوم الأرشيف السردي هو السرد بوصفه ذاكرة حافظة للأحداث والأفكار، فلا تقوم للسرد قائمة من دون تحويل الأفكار والأحداث إلى أشكال سردية مترابطة.
الناقد العراقي جعل من السرد أرشيفا حافظا للأحداث والقضايا حفظا ينتقل بها من مستوى الفناء إلى مستوى البقاء
الأرشيف السردي كناية عن السجل المجازي الحامل لمضامين الذاكرة الإنسانية

اقترح الناقد العراقي د.عبدالله إبراهيم في كتابه الصادر أخيرا بعنوان "الأرشيف السردي: الأحلام، العنف، السخرية"، مفهوم "الأرشيف السردي" أي "السرد بوصفه ذاكرة حافظة للأحداث والأفكار، فلا تقوم للسرد قائمة من دون تحويل الأفكار والأحداث إلى أشكال سردية مترابطة؛ فالسرد، بصورهِ اللفظية والصورية والإيمائية، هو الوسيلة المثلى لتنظيم الأحداث والأفكار المتناثرة في خطاب قابل للإدراك، والفهم، والتأويل، ولأجل ذلك يلجأ إلى أمرين: الانتقاء، واصطناع الحبكة؛ فهو ينتقي الأحداث الداعمة للعالم الافتراضي، ويقترح بؤرة تتماسك فيها أحداث ذلك العالم، وذلك هو التحبيك الذي يدرج في إطار واحد وقائع يتعذّر سبكها في العالم المرجعي".
بهذا المفهوم الجديد في الدراسات السردية العربية الذي وضعه عبدالله في كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت، جعل من السرد أرشيفا حافظا للأحداث والقضايا حفظا ينتقل بها من مستوى الفناء إلى مستوى البقاء. ولا مغالاة في هذا القول؛ فتعاقب الأحداث في تيار الزمن لا يوفّر لها ثباتا، ولا يتيح لها رسوخا، وحده السرد هو القادر على حفظها، وصونها؛ فالأرشيف السردي بهذا المعنى كناية عن السجل المجازي الحامل لمضامين الذاكرة الإنسانية. وبذلك يتخطى مفهوم "الأرشيف السردي" الدلالة المكانية للأرشيف بوصفه مستودعا للوثائق إلى اعتباره مستودعا للمتخيّلات، وعلاقة المتلقّي بمحتوى هذا الأرشيف تقوم على التفاوض الذي يبدأ بالوصف، ويمرّ بالتحليل، وينتهي بالتأويل، ومن أجل الولوج إليه يحتاج المتلقّي إلى الأخذ بأعراف السرد، ومراعاة شروط التلقّي، ويتفطّن إلى العلامات، والإشارات، واللوائح التي تحيل المادة السردية إلى حقبتها التاريخية، وبيئتها الاجتماعية، وسياقها الثقافي.
خالف عبدالله إبراهيم في هذا الكتاب ما درج عليه في مؤلّفاته النقدية السابقة؛ ومنها كتابه المشهور "موسوعة السرد العربي" فقد وجد أن الظاهرة السردية تستوعب قضايا دنيوية شائكة، فتحوّر فيها، وتعدّل، وتكيّف، بل تتلاعب بجوهرها، وتخاتل في تفاصيلها، فتخلع عليها شروطها بدل أن تمْتثل لمعاييرها، فترتقي بها من كونها موضوعات مرجعية إلى أحداث سردية، وهو استئثار محمود بأحداث بدا وكأنها خارج اهتمام تلك الظاهرة. 
وقصد عبدالله إبراهيم من ذلك لفت الاهتمام إلى التداخل، والتفاعل، والتماهي؛ بهدف الانتصار للتخييل الذي يعيد تملّك أحداث الواقع، وينفثها سردا من بنات الخيال، ومع ذلك، فليس من بين مقاصده الاحتفاء بظفر موضوعات السرد، وقهر موضوعات الواقع، ولا الثناء على الظاهرة السردية في حملها القضايا الشائكة، بل الاحتفاء بما تأتّى من الصِّلة بينهما؛ أي بذلك الكتلة السردية التي تميّزت هويتها في كونها نسيجا متخيّلا اتصل بأحداثه وانفصل عنها في وقت واحد. 

لعل السخرية بركائزها من هزل، وتهتّك، وظَرف، وفكاهة، ومجون تدفع بالواقع إلى الوراء، وتستحدث واقعا متخيّلا تجعل التصديق به هو الاحتمال الممكن

ولعلّ التفاعل بين السرد وسيلةً وموضوعاته غايةً، ظلّ مثار اهتمام الدراسات السردية، ولَم يُبتّ فيه إلى يوم الناس هذا، وكلّما توهّم المرء أنه قائل فيه قوله الأخير، تبيّن له أنّ القول الفصل ما زال بعيد المنال، وهذا من ثراء الظاهرة السردية، وليس من عجز الباحثين فيها، فالإرجاء فيها خير من البتّ. 
جعل عبدالله السرد طبقة عليا لما رأى من قضايا شكّلت قاعدته الأرشيفية التي اكتسب بها هويته السردية، ولم يغفل الأصل المرجعي لتلك القضايا، ولا تقاعس عن الخوض فيها، فالكتاب غاص فيها لا لذاتها باعتبارها ظواهر ضاربة في عمق الفكر النفسي، والاجتماعي، والأدبي؛ بل لأنها من مغذّيات الظاهرة السردية، وقد اتخذتْ لبوسا مجازيا، وهي تندرج في العوالم الافتراضية التي أنشاها السرد؛ ومن ذلك الأحلام التي جعلها موازية للتخيّلات السردية، فلا السرد، ولا الحلم، يستنسخان أحداث الواقع، بل يذهبان إلى ما وراء ذلك، فعالم السرد يمكن تخيّله كما هو عالم الأحلام، ولعلهما يدعمان تصوّرا طريفا عن الحياة يخالف إيقاعها المعتاد، ويؤكّدان صلتهما بها من دون أن يكونا صدى مباشرا لأحداثها. 
كما وجد الناقد في الوجه السردي للعنف معادلا تمثيليّا للعنف المرجعي الذي يتغذّى من منابع  نفسية أو دينية أو اجتماعية، لكنّه يستجمع عبرته المؤثّرة بالسرد، ويجمع ما تناثر منه بحبكة تخلع عليه أمثولة تحذيرية، ومن ذلك العنف الذاتي الذي يتّخذ صورة الانتحار، فلا يجعل من الآخر موضوعا له، إنما موضوعها الذات نفسها؛ فالصحيح أن قتل النفس واقعة مؤكّدة، بيد أنّ تكاثر مرويات ذلك الحدث ترتفع به إلى رتبة الحدث السردي، وختم الناقد كتابه بما رآه تأكيدا لوظيفة السرد في مخالطته بموضوعاته؛ أي مفارقة الواقع بالسخرية منه، والضحك عليه، وما يتأدّى عن ذلك من أمر خطير تمثّل في جعل التصديق بأحداث السرد أكثر أهمية من التصديق بأحداث الواقع.
وكشف عبدالله في كتابه عن اشتباك السرد بالأحلام والعنف والسخرية، اشتباكا كليّا، حتى ليظنّ المتلقّي، وهو يغوص في تضاعيف "الأرشيف السردي" أن إحلالا وقع في الوظائف الابتدائية بين الطرفين، وأنّ تبادلا جرى فيما بينهما جرّاء العدول المتواصل عن قضايا العالم المرجعي، ويشكّل ذلك العدول لبّ الظاهرة السردية، فكما أن الحلم عتبة من عتبات اليقظة، فكذلك السرد في وظيفته التمثيلية، وكما أنّ العنف انزياح عن سلام في مجتمعات متضامنة بحكم الأعراف، والتقاليد، والقوانين، فكذلك السرد في إلمامه بما هو فوق الواقع المعيش. 
ولعل السخرية بركائزها من هزل، وتهتّك، وظَرف، وفكاهة، ومجون تدفع بالواقع إلى الوراء، وتستحدث واقعا متخيّلا تجعل التصديق به هو الاحتمال الممكن. وتخلع الوساطة التي يقوم بها الحالم، أو المُعنّف، أو الساخر، على المجتمع السردي سمته الأدبية، فلا نعود بإزاء أشخاص وأحداث، بل أمام حبكة تلمّ ما تفرّق من عناصر مشتّتة في إطار عالم سردي مواز للعالم المرجعي.
يذكر أن الناقد العراقي متخصّص في الدراسات الثقافية والسردية. نال درجة الدكتوراه في الآداب العربية عام 1991 من كلية الآداب في جامعة بغداد. وهو باحث مشارك في الموسوعة العالمية (Cambridge History of Arabic Literature) وزميل معهد ( ٍSangalli) للدراسات الثقافية والدينية في فلورنسا بإيطاليا، وعضو الهيئة العلمية لمعهد غرناطة للبحوث والدراسات العليا، حاصل على "جائزة الملك فيصل العالمية في الآداب واللغة" لعام 2014، وجائزة "الشيخ زايد" في الدراسات النقدية لعام 2013، وجائزة "شومان" للعلماء العرب لعام 1997. أصدر أكثر من 20 كتابا، منها: "موسوعة السرد العربي" في 9 أجزاء، و"المطابقة والاختلاف" في 3 أجزاء، و"أعراف الكتابة السردية"، و"أمواج" وهي سيرته الذاتية باللغتين العربية والإنجليزية.