الأزرق .. المملكة الممكنة

عهد رجوب يطلق نوارس أزرقه، لا ليقف بين الراحة والإطمئنان، ولا ليحصر سمواته داخل سيرورة اللانهاية، بل ليقف أمام معطيات سياقها غير مألوف له.
الأزرق الذي يرعب الفنان يرعبني أيضاً
أزرق رجوب هو الأزرق الذي يجعله أكثر ثقة وتعبيراً عن مكنوناته

منذ زمن يدور في خلدي الكتابة عن تجربة الفنان التشكيلي عهد رجوب، وكلما أشد العزم إلى عالمه للإبحار فيه، أجد الأزرق الذي يغرق فيه عهد بمتعة وتوتر ينتظرني، الأزرق الذي يشل عزمي ويدخل القلق إلى كل مفاصلي، كنت أدرك تماماً بأن الأزرق لون صعب، وهو أشبه بقنبلة بين أصابع الفنان، يتطلب الكثير من القدرة والصبر والإحتراف، كنت أدرك بأنه لون يقلق أكثر الفنانين ويذهب بهم بعيداً إلى مناطق وعرة، ولهذا يتحاشاه أكثرهم. 
أقول الأزرق الذي يرعب الفنان يرعبني أيضاً، لم أتجرأ بالكتابة عنه يوماً، وهذا الرعب هو الذي أخرني بالكتابة عن عمل عهد رجوب، عن أزرقه كشبكة من علاقات بين علامات بإمكان وصفها المملكة الممكنة لعهد الذي يعيد المعنى له وفق سياقاته هو، وفق وقائع ترصد حالاته ويظهرها بإنتباه ملحوظ، بل يسافر به كعاشق يتأهب في لقاء معشوقته وهي تحمل كل انتظاراتها وأحلامها، أو كناسك وهو في أبهى إستعداده للإتحاد باللاممكن، فرجوب مسكون بالأزرق، مسكون بالبحر، بصخب حساباته وبعزف أمواجه، بهدوء صباحاته وضجيج مساءاته، رجوب كما هو مسكون بالبحر كذلك هو مسكون بقباب السموات وبهوائها، ولهذا يفترس أزرقه على نحو إستثنائي ويفرشها على جسد لوحته بغوامقه وفواتحه وكأنه يفرش هواجس عشقه على جسد حبيبته.

fine arts
عهد رجوب

رجوب يطلق نوارس أزرقه، لا ليقف بين الراحة والإطمئنان، ولا ليحصر سمواته داخل سيرورة اللانهاية، بل ليقف أمام معطيات سياقها غير مألوف له، فيستدعي أشكالا جديدة ضمن وقائع جديدة، وكأنه يعيد صياغة اشتغالاته للتقرب من البعد الدلالي، وهذا يوفر له رؤيا قادرة على معالجة تلك الوقائع، وإدراك يمكنه فك العوالم الحسية لكل المثيرات البصرية التي قد يخرج بها المتلقي، فهو لا يكتفي بوضع علامات خاصة قد تصنف صيغه التعبيرية بالإنتماء الفلسفي الأسطوري للمكان، بل تذهب به أحاسيسه نحو الذات المدركة لمقولاته، وبقدر ما يزداد تناولها تزداد تجربته الفنية قرباً من تجربته الإنسانية، فرجوب يدرك وبوعي عميق بأن البناء الذي يشيده بالأزرق وبقرونه الكثيرة يسعى النفاذ إلى عالم يجمع بين هندسة تجريبية وإيحاءات سحرية، عالم يجمع فيه الواقع بقوة تعبيريته مع الأسطورة بتباين عناصرها وتجزئتها بما يكفيه التعبير عن فضاءاته.
الفنان يبتعد بشكل أو بآخر عن الإيهامية، لأنه ينطلق من الظروف التاريخية، الإجتماعية والتي من خلالها تظهر تأثيراته في استبعاد الألوان الأخرى، فهو في أكثر الأحيان يكتفي بالأزرق ومتمماته في توزيعها على السطوح، وبدعم ما على التقابل بين اللون (الأزرق) وتدرجاته، لأنه يعمد إلى توزيعها جميعاً على حسب ما تتطلبه حالة الأحاسيس النائمة بين جوانحه، فالأمر عنده لا يتعلق بفعل الأزرق ذاته، ولا بالموضوعات التي تتحرك بها، بل بتلك العناصر الداخلة في تشييده، وبتلك المعطيات الديناميكية حيث المعرفة وقيمها هما الفاعلان ضمناً بجملته التشكيلية، وبآليات بحثه من نقطة البدء إلى دوائر التأويل جميعها. 
وبذلك يحدد رجوب على نحو ما لغته كواقعة جمالية، وهي النواة الدالة على غنى تجربته وتحولها من مقتضيات الحال إلى تأسيس نسق سميولوجي كحصيلة لنحت الجهات وتجديد لحظاتها في إنبثاقها الدلالي. وبذلك رجوب يطمح لكشف جوهر الأشياء بما فيها جوهر الأزرق ذاته، فعينه الثالثة الزرقاء فاعلة بما فيها الكفاية، فكما كانت زرقاء اليمامة بعيونها الزرقاء قادرة أن تقرأ وترى القادم إلى أهلها على بعد ثلاثة أيام من مسافة سيرهم عهد رجوب قادر على الإبصار في الأزرق وبالأزرق إلى مالانهاية، وهذا يمده بطاقة للغوص في عمق ذاكرته الزرقاء وانتشال كل الدوائر الحاملة لسيروراته الجدلية في لحظاتها المخصوصة والخروج بها نحو حدود الحياة بوصفها سنداً ومعطى خاصا في الآن ذاته، فهو يمارس مع الأزرق بكل مخزونه الدلالي وبعشق فائض، ولهذا الأزرق مطواع لجوانحه، يستسلم بعشق وروح لشهيقه وزفيره، ويتوالد بأريحية بين أصابعه في كل متمماتها، فهو شيء بحد ذاته، يحيا تقاليده في بلورة مقولته، وهذا يساعد رجوب في إفتراض وقائع يجر الأزرق إليه بسلاسة وحب، ويجعله يعيش وسط عالم من العلامات، بل ويذوب فيها ويتحول هو إلى هذا العالم بحد ذاته.

علاقة رجوب مع الأزرق قد تشي لنا بعمق الألم والإنكسار الذي يعيشه مع البلاد، فاللون لغة تعبيرية فيه من الدلالات ما يمتد للمدى، وللآفاق، وهذا ما يفسر لنا المرحلة الزرقاء التي عاشها بيكاسو تحت ركام كبير من الحزن، المرحلة التي أعقبت إنتحار صديقه الأقرب الشاعر الفرنسي كارلوس كاسيجماس ولعل عمله "تراجيديا" تحمل وتلخص كل ملامح تعبه وألمه، وبالتالي تلخص هذه المرحلة القاتمة في روحه، وكذلك الحال مع فان كوخ حين رسم لوحته "ليل النجوم" كان الصرع في بداية قرع جسده، وبالتالي كان لا بد من الكآبة والوحدة أن تحلا عليه.
وكثير من أزرق رجوب هو أزرق نيلي، أزرق ولود، الأزرق الذي يجعله أكثر ثقة وتعبيراً عن مكنوناته، وكذلك يجعلنا كمتلقين أكثر تأملاً، أكثر غوصاً وإبحاراً فيه، ويدفعنا إلى طرح التساؤلات على نحو أكثر وبحافز أكبر، فتأثيره فينا يثري خيالنا ويزيد من إختياراتنا، ويوسع من مدار محاولاتنا ونحن نستكشف فضاءه التشكيلي، وكيفية تصاعد الأحاسيس فيه، وكيفية تلمس الحزن فيه من الإنطباع الأول، فطيلة فترة التأمل والإستكشاف يهيمن على متلقيه السكون المطلق وكأنه يستمع لمعزوفة الصمت في مداركها الروحانية التي لا حدود لها.