الأزمة الروسية الأوكرانية من منظور آخر

يدخل الطرفان الروسي والغربي المواجهة في اوكرانيا وكل منهما يدرك عواقب انفلاتها.

من المفيد النظر إلى الأزمة الروسية الأوكرانية بمنظور أوسع أو أشمل، فقد يساعد ذلك على فهم هذه الأزمة بشكل أفضل، اذ لا تنفصل الأزمة الروسية الأوكرانية عن الصراع القائم بين روسيا من ناحية والغرب بقيادة الولايات المتحدة من ناحية أخرى. ولا تخفي الولايات المتحدة مواقفها السياسية، والتي تعتبر الصين بشكلٍ رئيس وروسيا المهددين الاستراتيجيين الرئيسيين لسلطتها ومكانتها العالمية. وقد تحمل روسيا مكانة أشد خطورة بالنسبة للولايات المتحدة، ليس لأنها عدوتها التاريخية أبان الحرب الباردة فقط، بل لأنها تتمدد الآن وتنتشر في قارة أوروبا، القارة الحليفة والشريكة والسند الاستراتيجي والايديولوجي الرئيس للولايات المتحدة. وتتصاعد حدة الخطورة الروسية على الولايات المتحدة في أن تسللها أو اختراقها للقارة الأوروبية يأتي في معظمه ضمن الوسائل الناعمة الاقتصادية والدبلوماسية التي تعكس لغة المصالح التي يجيد الجميع التحدث بها، وليس بلغة القوة العسكرية المنفرة، الا عندما يستدعي الأمر ذلك من وجهة نظر روسيا، والتي تمتلك القوة الصلبة وتعرف توقيت استخدامها بحرفية عالية، خدمة لمصالحها.

وتستخدم الولايات المتحدة قضية تايوان من جهة وأوكرانيا من جهة أخرى في إطار مواجهتها المفتوحة مع الصين وروسيا، كمبرر لتدخلاتها العسكرية أو حتى لفرض عقوبات اقتصادية، وهي أدواتها المعروفة لمحاربة منافسيها وتقويض مكانتهم الإقليمية أو الدولية عسكريا واقتصادياً وسياسياً. وفي الازمة الروسية الأوكرانية الأخيرة المتصاعدة، نجحت الولايات المتحدة بشكل خاص والعالم الغربي عموماً في دعم ومساندة النظام الاوكراني عسكريا ومالياً عبر السنوات الماضية، الا أن كثافة هذا الدعم تضاعف بمراحل وبشكل ملحوظ خلال العام الماضي، استفزازاً وتحدياً للنفوذ الروسي فيها، رغم أن الوضع الحالي في شرق روسيا يخضع ضمن نفس المعطيات منذ عام 2014. فهل تدفع أوكرانيا ثمن اعتمادها على الغرب؟

عملت روسيا بعد صعود فلاديمير بوتين عام 1999على تطوير مكانتها ونفوذها السياسي والعسكري والاقتصادي، وشهد العقدين الماضيين الصعود الكبير الذي نجحت روسيا في تحقيقه في المجالات الثلاثة، ليس فقط في إطار القارة الأوروبية، بل امتد ايضاً إلى خروجها. الا أن الاختراق الذي نجحت موسكو في تحقيقه على الصعيد الاقتصادي والذي جاء من داخل القارة الأوروبية عبر السنوات الماضية، بدأ يثير قلق واشنطن التي باتت تعتبره بالخطر الذي يمكن أن تستخدمه موسكو في المساومات السياسية مع دول القارة الأوروبية، على الرغم من أن روسيا لم تستخدم الورقة الاقتصادية وسيطرتها على سوق الطاقة الحيوي في هذه القارة، في أصعب الظروف، أي عندما واجهت عقوبات اقتصادية من دول القارة التي شكلت مصدرهم الرئيس للطاقة.

وتمتلك روسيا إمكانيات هائلة لإنتاج الطاقة، فتعتبر ثالث دولة منتجة للنفط في العالم والثانية في انتاج الغاز، مما جعلها سوقا عالمية ضخمة، تعتمد مناطق بأكملها من العالم على انتاجها خصوصاً من الغاز. ويعتمد اقتصاد روسيا بشكل كبير، على تصدير النفط والغاز، التي تشكل ثلثي صادراتها وتساهم بما بين 30%؜ إلى 40%؜ من الناتج القومي. ويوجه كثير من إنتاج الطاقة الروسي إلى دول القارة الأوروبية التي تستهلكه بكثافة، وتعتمد في استيراده بشكل أساسي على الجار الروسي، فما بين 33%؜ و40%؜ من استهلاك أوروبا للغاز يأتي فقط من روسيا. وتستهلك ألمانيا والنمسا 60% من مجمل الغاز المستورد من روسيا؜. كما تحصل القارة الأوروبية أيضاً على ربع صادراتها من الوقود من روسيا. ويشكل الوقود 14%؜ من الناتج القومي الروسي. ويأتي ثلث واردات المانيا من النفط الخام، على سبيل المثال، من روسيا. وتعود أهمية الغاز الروسي بالنسبة للأوروبيين بعدم وجود حاجة لبناء بنية تحتية وسيطة، والذي ينتقل من حقول الغاز في روسيا، إلى المنشآت والمصانع والبيوت في الدول الأوروبية مباشرة، وذلك من خلال أنابيب الغاز التي تهتم روسيا بتشييدها عبر أراضي تلك الدول الأوروبية، خصوصا دول الجوار، والتي أنشأ بعضها في عهد الاتحاد السوفيتي.

وتهتم روسيا بشكل خاص بتطوير انتاجها وتوسيع دائرة عملائها الاقتصاديين من الدول، وتعتبر أوروبا هدف رئيس لذلك الاهتمام. في المقابل، تقف الولايات المتحدة، التي تهيمن على معظم صادرات الطاقة في العالم، حجر عثرة أمام هذا التمدد الروسي السلس بين دول القارة الأوروبية، رافضة القبول بمزاحمة خصمها الشرس لها في هذا الفضاء. وقد بدأت الولايات المتحدة جهودها بالضغط على دول القارة الأوروبية لإلغاء تعاقداتها طويلة الاجل مع روسيا خصوصاً في مجال منتجات الطاقة، على الرغم من أن منتجات الطاقة البديلة التي تطرحها أكثر تكلفة وذات شروط أقل ملائمة. كما وقفت الولايات المتحدة ضد تدشين العمل بخط أنابيب الغاز نورد ستريم 1 منذ عام 2011، ثم عارضت انشاء خط انابيب نورد ستريم 2، الذي يعتبر توسيع لخط أنابيب نورد ستريم الأصلي، الذي بدأ تدشينه منذ عام 2018، حيث يربط الخطان بين روسيا وألمانيا عبر بحر البلطيق. كما أنها كانت من بين أهم أسباب عدم تشييد خط أنابيب الغاز ساوث ستريم، الذي كان يفترض أن يمر عبر بلغاريا، حيث استعاضت عنه روسيا بعد ذلك بخط الغاز التركي "تركيش ستريم".

ولا يأتي دعم الولايات المتحدة للنظام الأوكراني المعادي لروسيا، الا ضمن ذلك السياق، اذ شكلت أوكرانيا أهمية اقتصادية خاصة لروسيا، فكان خط أنابيب الغاز الذي يمر عبر أراضيها قادماً من روسيا، والذي شيد في عهد الاتحاد السوفيتي، خط الأنابيب الرئيس حتى عام 2011، والذي اعتمدت عليه روسيا لسنوات طوال لنقل غازها للقارة الأوروبية. وتعتمد روسيا منذ ذلك العام على خط أنابيب الغاز "نورد ستريم 1"، من أجل تلبية الطلب الأوروبي على الطاقة، ولتجاوز الخلافات التي بدأت تظهر في أوكرانيا لأقاربها من الغرب، وباتت تهدد صادرات الغاز الروسي إلى دول القارة الأوروبية. وتقف الولايات المتحدة تقف حجر عثرة أمام تشغيل خط أنابيب "نورد ستريم 2"، الذي أصبح جاهزاً للعمل منذ العام الماضي، بعد أن أخضعته لعمليات المساومة السياسة في إطار الازمة الروسية الأوكرانية. وقد تكون كل الأزمة المفتعلة بين روسيا وأوكرانيا محاولة في سبيل الالتفاف على الاختراق الروسي الملحوظ على المستوى الاقتصادي لدول القارة الأوروبية.

وقد ترتبط التطورات التي حققتها روسيا اقتصاديا في القارة الأوروبية العام الماضي بشكل أو بأخر بتصاعد الأزمة الروسية الأوكرانية. ونجحت روسيا بمضاعفة عائداتها من تصدير النفط خلال العام الماضي بـ 110 مليون دولار، بزيادة 51%؜ عن العام 2020. كما ارتفعت عائدات شركة الطاقة الروسية غازبروم لتصدير الغاز الطبيعي العام الماضي بنسبة 120%؜ مقارنة بالعام 2020، بعد أن أعلنت روسيا العام الماضي عن رفع إنتاج الغاز بنسبة 18.1%؜ مقارنة بالعام 2020، وهو ما جعل روسيا تقترب من حد الأقصى للإنتاج. وخلال العام الماضي وحدة زادت شركة غازبروم من امدادات الغاز إلى تركيا وألمانيا وإيطاليا ورومانيا وبولندا وصربيا وفنلندا وبلغاريا واليونان بنسب ملحوظة ومتفاوتة تراوحت ما بين 188%؜ و12%؜. كما ارتفع فائض صندوق الثروة السيادي الروسي العام الماضي لحوالي 5.7%؜ مقارنة بفائض بلغ 2.4 للعام 2020. والأهم من كل ذلك انجاز بناء خط أنابيب "نورد ستريم 2" والذي بات جاهز للتشغيل في العام الماضي أيضاً.

على الجانب الآخر، عززت الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية دول الناتو شراكاتها العسكرية مع أوكرانيا، خلال العام الماضي، أعلنت الإدارة الأميركية رغبتها في تطوير البحرية الأوكرانية وزيادة تسليح أوكرانيا وتدريب قواتها العسكرية. وأرسلت الولايات المتحدة صواريخ “جافلين” الأميركية المضادة للدبابات إلى أوكرانيا، كما سلّمت البحرية الاوكرانية زوارق لخفر السواحل. كما بدأت بريطانيا في بناء قاعدتين بحريتين لأوكرانيا. وأعلن الاتحاد الأوروبي في الشهر الماضي عن حزمة مساعدات مالية طارئة جديدة لأوكرانيا بقيمة 1.2 مليار يورو و120 مليون يورو إضافية كمساعدات أخرى. كما قدمت كندا قرضًا بقيمة 95 مليون دولار أميركي ومساعدة إضافية بقيمة 40 مليون دولار أميركي. يأتي ذلك بالإضافة إلى تحرك أوكرانيا الأخير للانضمام إلى حلف الناتو، والذي اعتبرته روسيا تهديد مباشر لأمنها، ويعتبر الشرارة المفجرة للازمة الحالية. وضمت ذات السياق، بلغ عدد الخروقات الأمنية التي تم تسجيلها على تفاهمات "اتفاق مينسك" حوالي 200 مخالفة من قبل الطرفين الروسي والأوكراني ما بين عامي 2014 و2020، في حين تخطى عدد تلك الخروقات الاف مخالفة في العام الماضي وحده.

من الملاحظ أن الولايات المتحدة هي الجهة المركزية التي قادت دفة الأخبار التي روجت لفكرة الغزو الروسي لأوكرانيا في الأيام الماضية. كما أن الولايات المتحدة هي من كان الأكثر تشددا في اعتبار الاعتراف الروسي بالمقاطعات الأوكرانية الانفصالية بمثابة غزو لأوكرانيا، وكانت الأشد تدقيقاً على ضرورة فرض العقوبات. كما تتركز العقوبات التي تقترحها الولايات المتحدة على روسيا حول تجميد العمل بخط أنابيب "نورد ستريم 2" بشكل خاص، بالتزامن مع البحث عن مصادر طاقة بديلة للقارة الأوروبية عن روسيا، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، التي وقعت اتفاقيات مع بعض دول القارة لتورد لها الغاز والنفط، مثل بولندا وليتوانيا، رغم ارتفاع سعر الغاز الأميركي بحوالي 30%؜ عن سعر الغاز الروسي. كما جرى الحديث عن ضربات مالية واقتصادية مؤثرة ضد روسيا، كفصل النظام المصرفي الروسي عن نظام الدفع السريع الدولي، وعزل بنوكها عن النظام العالمي، وفرض قيود على صندوق الثروة السيادية الروسي، وعقوبات على الصناعات الاستخراجية، وغيرها.

ويبدو أن روسيا القطب العصي اختار بداية أن يواجه مخططات الولايات المتحدة الأخيرة من خلال الاقتصاد أيضاً، تجنباً لخطر العقوبات المحتملة، التي تسعى واشنطن لفرضها. وكانت روسيا قد نجحت من قبل في مواجهة العقوبات التي فرضت عليها، بعد غزوها لشبة جزيرة القرم، وحافظت على اقتصادها مستقراً. ونجحت روسيا في السنوات الأخيرة باستخدام عائدات الطاقة لتراكم حوالي 630 مليار دولار من احتياطات النقد الأجنبي، وخفض البنك المركزي الروسي اعتماده على الدولار بشكل ملحوظ، ولجأت روسيا لسياسة استبدال الواردات خصوصاً فيما يتعلق بالصناعات الحيوية، حتى لا تعرض بنيتها التحتية الأساسية لأي خطر محتمل، كما زادت روسيا علاقاتها التجارية والاستثمار الأجنبي المباشر مع دول أسيا إلى جانب دول الاتحاد الأوروبي، اذ باتت روسيا تملك أسواقا بديلة هائلة من حيث حجم الاستهلاك مع الصين تحديداً وكذلك الهند وجمهوريات آسيا الوسطى وبلدان جنوب شرق أسيا.

خلاصة القول، ليس من السهل حل الصراع الحالي بين الولايات المتحدة وروسيا لأنه صراع أيديولوجي مصلحي في الأساس، وتزداد الازمة صعوداً، في ظل تصاعد قوة الأقطاب الأخرى خصوصا روسيا في مواجهة قوة ومكانة الولايات المتحدة على الساحة الدولية، فطموحات روسيا السياسية والاقتصادية في القارة الأوروبية لم تعد مقبولة الان من قبل الولايات المتحدة في ظل تخلخل معادلات النظام الدولي. ويبدو أنه من الأفضل الان وبعد أن تفاقمت الازمة الروسية الأوكرانية ووصلت حد اشتعال معركة، أن تتدخل الجهود الأوروبية لحصر تمدد حرب قد تخرج عن السيطرة.