
الأفكار لا تأتي صدفةً بل تُصنع في 'ماكينة الأفكار'!
رأينا جميعًا هذا الأمر؛ يوجد مئة خبير يحذِّروننا من كل اختراعٍ يظهر للنور، فحين اخترِعت الصحافة المطبوعة ارتفعَتْ دعوات الخوف من فقدان الهالة المميزة وتهديد إخفاء الهُوِية، مقارنة بالوثائق الشخصية التي كان يخطها الرهبان بأيديهم، كما اعتبِرت السكك الحديدية تهديدًا للروح البشرية، وقُوبِل الهاتف بقدر كبير من التشكُّك؛ إذ لم يعد الناس بحاجةٍ إلى مغادرة منازلهم، وسيؤدي ذلك إلى أن يصِيروا وحيدين ومنعزلين. لم يحدث أي من هذه الأمور؛ إذ كانت الفرص دومًا أعظم من المخاطر. ولو أننا أَعَرْنا السمعَ على الدوام للمائة خبير، لَظللنا إلى الآن جوعى ونقطن الكهوف؛ فكلُّ شيءٍ جديد لم يُسمَع به من قبل يحمل قدرا معينا من الخطورة، وكل تطور جديد ـ وفكرةٍ جديدة ـ له جانب إيجابي وآخَر سلبي، والبشرُ يحققون التقدمَ فقط عن طريق التركيز على الجوانب الإيجابية وتطويرها إلى نقاطِ قوةٍ ذات شأن.
انطلاقا من هذه الرؤية يأتي كتاب "ماكينة الأفكار: كيف يمكن إنتاج الأفكار صناعيا؟" للباحثة الرائدة في مَجالِ الإنتاجِ الصناعِي للأفكارِ ناديا شنتزلر، والصادر عن مؤسسة هنداوي بترجمة محمد فتحي خضر، حيث تؤكد أن إن الأفكار الجيدة لا تظهر إلى الوجود بمحض الصدفة، بل بإمكانك إمَّا أنْ تمنعها وإما أن ترعاها. وتتساءل: ماذا يعني الإنتاج الصناعي للأفكار؟. وتقول أن مبدأ الإنتاج الصناعي للأفكار تقوم على مفهومِ أن الأفكار الجيدة ـ أيًّا كان الغرض منها ـ يمكن تطويرها بواسطةِ عمليةٍ منهجية منظمة، شأنها شأن السلع الأخرى التي تُنْتَج وَفْقًا لعمليةٍ محدَّدة سلفًا وباستخدام أدوات محدَّدة. هذا لا يعني أن الأشكال القديمة لتوليد الأفكار لم تَعُدْ صالحةً أو لم تَعُدْ منطقية، فسيظل الفنان يصنع فنًّا بمفرده ومن داخله، دون الاضطرار لاستخدام عملية لتوليد الأفكار. ويمكنك أيضًا انتظار الإلهام حين لا تكون تحت ضغط الوقت أو النجاح. وفي كل المواقف التي لا يكون فيها الحال هكذا، تُعتبَر ماكينة الأفكار الخاصة بنا واحدةً من عدد من الوسائل الممكنة لخلق الأفكار بشكل منهجي. والمبادئُ التي يستند إليها الإنتاج الصناعي للأفكار مستقلةٌ عن أيِّ عملية بعينها، وقائمة ببساطة على المنطق السليم وسنوات عديدة من الخبرة في مجال إنتاج الأفكار. تلخص صورة الماكينة المبادئَ الأساسية للإنتاج الصناعي للأفكار؛ إذ تُطوَّر الأفكار في إطارِ عملية واضحة محددة لا تحدث بمحض المصادفة. فالماكينة دائمًا ما تفعل الشيء نفسه، وَفْقَ خطوات معينة محددة سلفًا، ومع ذلك يمكن ضبط الماكينة للقيام بمهامَّ متعددةٍ وتنتج أكثرَ من شكل، ودائمًا ما تكون النتيجة أفكارًا متنوعة تلبِّي جميع الشروط المطلوبة.
وتضيف "هناك مبدأ بسيط للغاية لنجاحِ أي مشروع لتوليد الأفكار، ويصف أيضًا المكونات الثلاثة الأهم لماكينة الأفكار: توليد الأفكار، وتكثيف الأفكار، واختيار الأفكار. إن هذه المراحل الثلاث ينبغي أن تصبح شعارك الشخصي؛ أيْ جملة تردِّدها دائمًا حين تشرع في البحث عن أفكار: ولِّدْ، كثِّف، اختَرْ. ومن المهم أن يقوم أي شخص يرغب في تطوير أفكار بفصل هذه العبارات الثلاث بعضها عن بعض؛ فعليك أولًا أن تقوم بتجميع الأفكار، ثم دمجها وتنقيحها، وحينئذٍ فقط يمكنك أن تقرِّر وتختار. يبدو هذا معقولًا، أليس كذلك؟ نحن أيضًا نعتقد ذلك. ومع ذلك فهذا هو حجر العثرة الأكثر شيوعًا وخطورةً على الطريق نحوَ أيةِ فكرة.
وترى شنتزلر أنه من أهم قوانين الإنتاج الصناعي للأفكار؛ ضرورة وجود منظور جديد محايد. وبالتأكيد لن تحقِّق ذلك إذا تعامَلْتَ مع توليد الأفكار وحدك أو مع فريقك الأساسي في الشركة. بدلًا من ذلك، أنت بحاجةٍ إلى إشراك أشخاصٍ بخلفياتٍ ورؤًى مختلفة في عملية توليد الأفكار، وينبغي أيضا إشراك المستخدِمين المحتمَلين (المستهدَفين من الأفكار) في عملية التطوير في مرحلة مبكرة.. إذا أشركتَ الأشخاص المناسبين في المشروع، تكون بالفعل قد حقَّقتَ الكثير. انْسَ فكرةَ أن الأشخاص ذوي المعرفة المتخصِّصة عن الموضوع الذي بين يديك هم فقط مَن يُجْدُون نَفْعًا في مشروعاتك لتوليد الأفكار، فكلَّما تنوَّعَتْ مجالاتُ المعرفة، والتخصصات والاهتمامات داخل فريق المشروع في مرحلة توليد الأفكار، كان ذلك أفضل. اجعلِ الأشخاصَ المثيرين للاهتمام جزءًا من شبكة أفكارك الشخصية، وسوف تجد أن كل هذه الرؤى ستكون يومًا ما ذات نفع، فضلًا عن الإثراء الذي سوف تشعر به على المستوى الشخصي؛ إذا عرفتَ أشخاصًا مختلفين كلَّ يوم وقدَّرت وجودهم.
وتلفت إلى معادلة بسيطة "كلَّما كان الوقت المتاح لتوليد الأفكار بشكل عام أقل، ازداد عدد مصادر الإلهام التي ستحتاج إلى جمعها لتطوير الفكرة، وكلما كان لديك مزيد من الوقت، قلَّ عدد الأفكار المبدئية التي ستحتاج إليها؛ نظرًا لزيادة حجم الوقت الذي يمكنك أن تمضيه في تشكيلها، كما يمكنك أيضًا تحمُّل انتظار الوميض الحاسم للإلهام. ولكنْ: مَن ذا الذي يملك بالفعل الوقتَ لانتظار الإلهام لفترة طويلة هذه الأيام، بينما تحتاج السوق إلى شيء جديد والمنافسون يسبقونك بخطوة دائمًا؟ إذًا نحن بحاجةٍ إلى إيجادِ فكرةٍ ممتازة وزيادةِ الفرص المبدئية، خلال الفترة الزمنية القصيرة المتاحة لنا. جَهِّزْ نفسك للتعامل مع مزيج ضخم من المادة الأولية. سوف تطرح جانبًا الكثيرَ من المادة الأولية، ولكن فرصة العثور على فكرة مثيرة تكون أكبر كثيرًا في وجودِ كمٍّ كبيرٍ من "المادة الأولية" منها في حالة وجود بعض الشظايا القليلة. ولكن ماذا يعني هذا؟ إن لدينا قاعدة عامة في برين ستور: الفكرة الجيدة تحتاج إلى ما لا يقل عن 500 شظيةِ أفكار. وبما أنك بحاجة إلى ما لا يقل عن ستِّ أفكار، لتبقى لديك في النهاية فكرة واحدة يمكنك اختيارها وتنفيذها؛ إذًا فأنت بحاجةٍ إلى ما لا يقل عن 3000 فكرةٍ خام أو شظيةِ أفكار، يمكنك فَلْتَرَتها، ودمجها، وتشكيلها في صورة أفكار جاهزة.

وتضيف شنتزلر "من أجل إيجاد هذا الكم الكبير من الإلهام، أنت بحاجةٍ ليس فقط إلى الفريق المناسب، ولكنك أيضًا بحاجةٍ إلى الأدوات المناسبة. بشكلٍ عام، لديك أربعة مصادر أساسية لجمع الإلهام، ويوجد فصل مستقل في هذا الكتاب عن كل واحد من هذه المصادر:
ـ الفِرَق الإبداعية: هي ورشُ عملٍ تتراوح مدتها بين ساعة وست ساعات، تقوم خلالها بجمع المواد الخام بالتعاون مع الأطراف الداخلية والخارجية.
ـ استكشاف الاتجاهات واستكشاف الإنترنت: هو البحث عن مدخلات غريبة وشاذة وغير مألوفة من قطاعاتٍ صناعية ودولٍ مختلفة، يمكنك تضمينها في المشروع في وقت لاحق.
ـ مقابلات الخبراء: هي مناقشات مع الخبراء الذين يمكنهم إعطاؤك بذورًا لأفكار معينة.
ـ مقابلات الأفكار: هي استطلاعات للموظفين، أو غير العملاء، أو الإدارة، أو آخَرين، ممَّن يستطيعون المساهَمة بشيء في الفكرة.
وتوضح "بينما ينصبُّ التركيزُ في المرحلة الأولى لإنتاج الفكرة على الكمِّ وتنوُّعِ الرؤى وإشراكِ مختلِف الأشخاص، تُعنى المرحلة الثانية ـ التكثيف ـ باستخلاص الاستنتاجات المناسبة من الأفكار الخام التي تم توليدها في السابق. ويمكن تحقيق هذا بأقصى سرعة إذا قام فريق مناسب من المتخصِّصين في المنهجية والمحتوى بفَرْز ودمج الأفكار الخام التي وُجِدت، بحيث تصل إلى عدد عملي قابل للتطبيق من الأفكار. مرة أخرى يحدث هذا في العديد من النماذج. يُسمَّى الجزء الأول من الماكينة "مدينة الأفكار"، ووظيفته هي النظر إلى شظايا الأفكار التي أُوجِدت في مرحلةِ توليد الأفكار، وخَلْقِ توليفاتٍ وأفكارٍ جديدة من منطلق هذه الرؤية. بعد ذلك تحدث عملية "الفحص الأول"، وفيها تُقيَّم الأفكار التي صُنِعت في "مدينة الأفكار" بأسلوب عاطفي، ويتم تحديد إنْ كان من الممكن أن تظل فكرةٌ ما ضمن المجموعة المختارة، أو ينبغي رفضها أو تغييرها بشكلٍ ما. الخطوة التالية هي "فحص المعايير"، وتُقيَّم خلالها الأفكار المتبقية بناءً على معايير المشروع.
وتتابع شنتزلر "تقدم الأفكار المتبقية الآن في بوتقة الأفكار إلى فريق البحث؛ حيث يقوم فريق صغير ومحنَّك من المتخصِّصين في منهجية توليد الأفكار، وغيرهم من المتخصِّصين في مجالات أخرى، بإخضاعِ الأفكار لاختبار شامل في مرحلة "مصباح الحمم". وقد سُمِّيت هذه التقنية باسمها هذا نظرًا لأن الأفكار ترتفع وتهبط، وتنفصل وتترابط، كما في مصابيح الحمم الشهيرة التي ترجع إلى الستينيات، والتي تشهد الآن عودة للرواج مرةً أخرى. في نهاية هذه المناقشات (التي تكون أحيانًا ساخنة ومطولة للغاية)، يجري فحص تلك الأفكار التي تنجح في الإفلات من اختبار قوة التحمُّل؛ هذا من أجل التحقُّق من جدواها وقابلية تنفيذها. بعد ذلك، تُصاغ الأفكار بلغة بسيطة (يمكن لطفلٍ في المرحلة الابتدائية أن يفهمها) وتُوضَع في شكل مرئيٍّ يرتبط بالمحتوى وقابلٍ للمقارَنة في مرحلةِ تصميمِ الأفكار. وفي فصول لاحقة، سوف تعلم تفصيلًا كيف تعمل كل هذه الأجزاء من الماكينة، وما ينبغي أن تنتبه إليه إذا أردتَ تطويرَ أفكار وفقًا لهذه المبادئ بنفسك.
وتؤكد أن الإنتاج الصناعي للأفكار يحظى بجاذبية شديدة؛ نظرًا لأنه في كل مشروع يمكن إشراك هؤلاء الذين يمثِّلون الأشخاصَ الأنسب في كل حالة، ويمكن الاستفادة من مهاراتهم ومعرفتهم الواسعة في المشروع. غير أن هذا يعني أن إدارة المشروع والرقابة عليه أمر ضاغط، ويعني أيضًا أن إدارة الأفكار تضطلع بدور، وهو قبل كل شيء دور تنسيقي، وليس بالضرورة أن ينتج الفكرةَ في حدِّ ذاتها. كذلك تُعَدُّ إدارةُ الأفكار، بالطبع، مسئولةً عن الجودة المرتبطة بالمحتوى، إلَّا أنها تضمن هذا بالأساس من خلال التأكُّد من أن الإطار الموضوع لإنتاج الفكرة يؤدي مهمته، وأن الأشخاص المناسبين تتاح لهم الأدوات المناسبة في الوقت المناسب؛ لكي يكونوا قادرين على تطوير أفكار، وهذا من شأنه أن يؤدي إلى فاعلية بالغة. لذلك يصاب الكثير من الموظفين، المحتمل انضمامهم لمصنع الأفكار الخاص بنا، بخيبة الأمل في البداية حين يعلمون أن دورهم في مصنع الأفكار سوف يتضمَّن الكثيرَ من التنسيق والتخطيط أكثر ممَّا يتضمن العمل الإبداعي على الأفكار. إن مَن يعتقدون أن بإمكانك حقًّا أن تعبِّر عن نفسك، وتضع أفكارك موضعَ تنفيذٍ في مصنعٍ للأفكار، لديهم صورة خاطئة عن إدارة الأفكار. ولكن لا يمكن تطوير أفكار جيدة من دون وجودِ وظيفةٍ تنسيقيةٍ وشخصٍ لديه معرفة منهجية ونظرة عامة لمشروع الأفكار؛ فإدارة الأفكار تتضمَّن وضْعَ شرحٍ واضح للمشروع بالتعاون مع مالك المشروع، ومراقبة جودة المشروع، والاهتمام بمالك المشروع، وفحص العمليات والأفكار والمفاهيم بأسلوب ناقد، وعرض مشروع الفكرة وتوجيهه.