الإعلام البريطاني يضيء على سحر فاس الحقيقي
فاس (المغرب) - لا تحظى مدينة فاس المغربية بالتقدير الكافي، على الرغم مما تتحلى به من معالم أثرية تتجلى في قصورها وحماماتها وحدائقها ومدارسها الدينية، وهو ما يشكل موطن سحرها الحقيقي، وفق ما استهلت به خبيرة الوجهات السياحية باولا هاردي تقريرها الذي نشرته مؤخرا بصحيفة "تلغراف" البريطانية.
تعتبر مدينة فاس متحفا في الهواء الطلق، تعاقبت العصور والأجيال عليها وراكمت فيها كنوزا كثيرة، ومدينتها العتيقة هي الأقدم والأكبر في المغرب حيث تتجمع فيها كل الحرف التقليدية من دباغة ونسيج وفخار وخزف، كما تزخر شوارعها وأزقتها بروائع معمارية خالدة، وتنبض ساحاتها وأماكنها العامة بفنون الأجداد.
وتقول هاردي في تقريرها "من شرفة سطح فندق رياض فاس يمكنني رؤية واحدة من أعظم مدن العالم التي لا تزال حية وراسخة منذ العصور الوسطى، ممتدة أمامي. وقد حلم بها مولاي إدريس الأول في القرن الثامن، وهو حفيد النبي محمد الذي فرّ إلى المغرب هربًا من" الخليفة العباسي هارون الرشيد.
وتوضح أن إدريس حكم مدينة وليلي الرومانية القديمة، لكنه حلم بعاصمة جديدة حتى لحق به قتلة هارون. لذا، أتم ابنه إدريس الثاني بناء فاس عام 789، ليؤسس بذلك أول مدينة إمبراطورية للمغرب.
وتعد حاضرة فاس التي تأسست سنة 808 ميلادية، مدينة إمبراطورية عريقة ترمز لتاريخ عريق ومجد تليد يوثق لحضارة مغربية عريقة تمتد حوالي ثلاثة عشر قرنا، تكتنز أمجاد الدولة المغربية وقوتها.
وترى هاردي أن مراكش تتصدر العناوين، لكن فاس الأنيقة هي القلب الثقافي للبلاد. تخفي ثرواتها في وادٍ أخضر هادئ بمرتفعات الأطلس المتوسط، حيث تتغطى التلال ببساتين الزيتون الفضية.
وتؤكد أن القادم إلى المغرب مهما عرف عن مراكش، فإن ذلك لن يهيئه للدخول في المتاهة الشاسعة للمدينة القديمة لفاس، حيث يرسم 9700 زقاق متعرج حواف الجدران الصماء ذات الطوابق الثلاثة التي تخفي خلفها الرياضات والقصور، والحمامات البخارية والفنادق (الخانات التي كانت تستخدمها القوافل)، والحدائق الخضراء الزاهية والجامعات النابضة بالحياة، والمساجد والمدارس الهادئة، وكلها مزينة بالجبس المنحوت بدقة، والزليج المتلألئ (البلاط المقطوع يدويًا)، وخشب الأرز المطلي والمنحوت من غابات الأطلس المتوسط.
وأخذت هاردي قراء مقالها في جولة بين ثنايا مدينة فاس، حيث تحدثت بالتفصيل عن عطلتها بثاني أكبر مدن المغرب بعد الدار البيضاء.
وتتحلى المدينة العتيقة التي تصفها خبيرة الوجهات السياحية بـ"المتاهة" بروح التشويق والإثارة، قائلة "وإذا رغبتَ في الانغماس في كل ذلك، فستحتاج إلى مرشد سياحي جيد، فالمرشد هنا لا يكتفي بإرشادك إلى المعالم السياحية فحسب، بل يوفّر لك رفيقًا إلى عالم خفي".
وأشادت هاردي بمرشدتها السياحية مريم أمزيان من "كالتشر إنسايدرز" (Culture Insiders)، حيث انطلقتا وفق اقتراح هذه المرشدة "الذكية" في جولتهما السياحية من متحف البطحاء الذي افتُتح حديثًا، وقد كان في ما مضى قصرًا صيفيًا فخمًا يضم حدائق أندلسية غائرة، والآن تروي قاعاته قصة أكثر من ألف عام من التاريخ، فهي تستعرض تعاقب السلالات الحاكمة، والهجرات، والعلوم، والحرف، مما يضع فاس ليس فقط في قلب التاريخ المغربي، بل يربطها أيضًا بالعوالم الأوسع قبل الإسلامية والإسلامية والمتوسطية.
وتحت سقوف من خشب الأرز متعددة الألوان، تُظهر الخرائط إمبراطوريات مغربية امتدت ذات يوم لتشمل شبه الجزيرة الإيبيرية بأكملها تقريبًا، وتونس ونواكشوط التي أصبحت الآن عاصمة موريتانيا، وكيف ترسخت جغرافية المدينة وطابعها العربي الأندلسي بفضل المستوطنين الأوائل القادمين من قرطبة والقيروان.
وتجسد الأسطرلابات العتيقة، والمخطوطات الطبية المزخرفة، والمنابر المتقنة الصنع، والقفاطين المطرزة بالذهب، والخزفيات الرائعة، وأدق قطع الزليج، براعة فاس الفكرية والإبداعية.
وتضيء هاردي على قصة فاطمة الفهرية وهي امرأة مسلمة من القيروان أسست جامعة القرويين قبل أكثر من مائتي عام من تأسيس أول جامعة في أوروبا، وكذلك إقامة البابا سلفستر الثاني (999-1003) الذي جاء لدراسة الفقه الإسلامي.
وجامعة القرويين في فاس التي تأسست عام 859 هي أقدم جامعة في العالم، وفقًا لليونسكو وكتاب غينيس للأرقام القياسية، وتعتبر الجامعة أيضًا أول مؤسسة تعليمية تمنح إجازة في الطب في العالم، ولا تزال تعمل حتى الآن.
وتقول أمزيان بأن الجوهر الحقيقي على مرمى حجر وما زال ينتظر الاكتشاف، حيث توجهت بنا إلى باب بوجلود وتجولنا في الشارع الرئيسي الملون للمدينة العتيقة النابض بالحياة والمليء بمحلات السيراميك والسجاد، وهناك تأملنا الساعة المائية الرائعة "لا ماجانا" التي تعود إلى العصور الوسطى، والتي كانت تُستخدم ذات يوم لتحديد أوقات الأذان.
قمنا بعد ذلك، بجولة في المدارس الدينية/الكليات اللاهوتية "بُو عِنانية" و"العطارين"، التي بُنيت في العصر الذهبي للمرينيين في القرن الرابع عشر، والتقطنا عشرات الصور لزخارفها الجصية التي تشبه الدانتيل، وخطوطها العربية الرقيقة، وأفاريزها المنحوتة من خشب الأرز العتيق.
تقع مدرسة العطارين في أزقة سوق التوابل والعطور بالقرب من زاوية مولاي إدريس الثاني المقدسة، حيث يرقد مؤسس فاس تحت الثريات المتلألئة والأسقف المزينة بالزواق المرصع بالذهب. وتحيط بالضريح عربات تبيع الشموع والبخور وماء الزهر الذي يعطر الأجواء من حوله.
وتقول خبيرة الوجهات السياحية "بينما كنا نشتري بعض حلوى 'النوغا اللزجة' من عربة وردية زاهية، رفع المؤذن الأذان، فغمرت الشارع حشود تتجه نحو أحد الأبواب الـ14 لجامع القرويين"، مضيفة أشارت لنا حينها مريم بالتوجه إلى باب محل لنسج الأقمشة، سمح لنا صاحبه بالصعود إلى شرفة سطحه حيث حظينا بمنظر رائع، واقفين في قلب النداء المقدس وهو يتردد صداه في القبة الصوتية للوادي.
وتلفت هاردي إلى أنها على مدى الأيام القليلة التي تلت تلك الجولة عادت مرارًا وتكرارًا إلى المدينة العتيقة، لكن في كل مرة كانت تعود مع شخص مختلف ما منحها فرصة التعرف على المدينة من زاويا مختلفة، حتى أنها زارت المدينة في أحد الأيام رفقة المصور عمر شنافي، حيث تجولا معا في الأزقة الخلفية السكنية للمدينة.
وتابعت "استمتعنا بجمال شجرة تين متدلية على مبنى متهالك من الطوب اللبن، وشربنا القهوة في "الحديقة الخربة" (Ruined Garden)، وتفدينا الأطفال الصغار الذين يأخذون الخبز إلى الفرّان (المخبز). فاس تقدم "تجربة إنسانية مكثفة ومُكثّفة"، فهي مكان يبوح بأزمة المعنى في العالم الحديث.
وتشير هاردي "في المساء، شعرت ببعض التوتر بينما كنت أتناول العشاء في مطعم عشق (ISHQ) فائق المعاصرة، حيث قدموا لي طاجن لحم البقر مع الطماطم المطهوة بالزيت (كونفيت) وبذور السمسم"، ثم تجولت رفقة زميل مريم نور الدين شباني الذي نشأ في المدينة العتيقة، حيث تنقل بنا بين أزقة بالكاد يزيد عرضها عن كتفي.
وتضيف "حذرنا شباني ضاحكا وهو يختفي في نفق مظلم بأن نظام تحديد المواقع (GPS) لا فائدة منه هنا"، قائلا "تذكروا فقط أن اللافتات السداسية تعني طريقًا مسدودًا، بينما المستطيلات مخصصة للطرق الرئيسية".
واصطحبني بعد ذلك إلى فندق تازي، آخر ورشة لا تزال تصنع الطبول والدفوف يدويًا من جلود الإبل. جلستُ أمام عجلة الدهان الدوارة أحاول طلاء طبلتي، وضحكنا جميعًا على النتيجة.
ألقينا بعد ذلك نظرة عبر الأبواب الخشبية على فندق "Kaat Smen"، وهو سوق مخصص للعسل يخضع للترميم في الوقت الراهن، ثم تناولنا القهوة في بازار فندق الفاخر، بعدها نزلنا إلى الأزقة البخارية لسوق العشابين، حيث يصطف العمال أمام أكشاك الطعام ويزدحمون في المطاعم الصغيرة ليتناولوا الفاصوليا المطهية والسردين المقلي وسندويشات الكبد.
وأصر نور الدين على أن أجرب المعقودة، وهي شطيرة لذيذة من كعكة البطاطس مع طبقات من البيض والهريسة وصلصة الطماطم، قائلة "للتعمق أكثر في عالم فاس الغذائي الرائع، انضم إلى جولة مع 'فاس جايدد تورز' (Fez Guided Tours)، أو انضم إلى دورة طبخ في 'كورتيارد كيتشن' (Courtyard Kitchen)".
وتقول في أحد الأيام، اصطحبني عبدالحميد بالسيارة إلى برج الجنوب مشيرا إلى المقابر البيضاء في المقبرة اليهودية بالملاح؛ وفي يوم آخر، رتبت منظمة "المغرب الشامل" (Inclusive Morocco) زيارة إلى حي الفخار، عين نقبي، خارج باب الفتوح مباشرةً، حيث وجدت الحرفيين يعجنون ويشكلون طين فاس الرمادي في عدد لا يحصى من الأوعية والأواني، كما وجدت مستودعًا يضم حرفيين يقطعون بلاط الزليج بلا كلل ويضعونه في أنماط معقدة باستخدام الملاقط.
وفي مكان قريب، في مركز الفنون التقليدية (Traditional Arts)، يعتبر محمد الجيل الخامس من عائلته الذي يواصل حرفة تشبيك المعادن والتي يتم قطعها كلها يدويًا وفقًا لتصاميم والده الدقيقة.
وفي السوق، تقوم "تعاونية أنو" (Anou Cooperative) الحائزة على جوائز بربط 600 من النساجين الحرفيين بسوق رقمية، حيث يمكنهم بيع أعمالهم والاحتفاظ بنسبة 100 في المئة من العائدات.
وتواصل خبيرة الوجهات السياحية، قائلة "عندما يحل الليل أعود لأنام في قصر بالمدينة العتيقة 'دار الصفارين'، تحت سقف مزخرف بالنقوش الملونة، وأستحم في حمامات مكسوة بالزليج بألوان الجواهر"، مضيفة "صاحب القصر علاء وهو مهندس معماري قدم لنا جولة في بعض الرياضات القريبة، شارحًا لنا السياسات والفلسفة والجوانب العملية الكامنة وراء عمارة المدينة العتيقة".
وتتابع "بعد ذلك، أسرع بالانطلاق لأجلس في حدائق جنان السبيل الرسمية المضاءة بالفوانيس، لأستمع إلى صوفيين سنغاليين وراقصي فلامنكو إسبان يغنون على خلفية أصوات الضفادع الناعقة وحفيف أوراق الشجر، وذلك في مهرجان فاس للموسيقى الروحية العالمية... إنه جميل ومدهش، ولا يشبه أي شيء رأيته في حياتي من قبل. ويُصر جاري، وهو خريج فاسي يُدعى أسامة على أن يشتري لي الشاي وبسطيلة الدجاج اللذيذة خلال الاستراحة".
وتؤكد "في الواقع، قضيت أسبوعًا كاملًا في فاس، ووجدت أنني بالكاد اكتشفت المكان - على الرغم من شعوري بأنني أصبحت جزءًا من العائلة بشكل ما. إن المدينة أشبه بـ'تارديس' (Tardis) تكافئ من يبذل جهدًا لاكتشافها".
وتضيف "ستجد السحر في اللحظات التي تقضيها وأنت ترتشف الشاي على مقعد جلدي في مدبغة الشوارة، وتكتشف وجود سوق مزدهر لفضلات الحمام تُستخدم في أحواض الصباغة، أو في الأمسيات التي تقضيها جالسًا على شرفات أسطح مختلفة – بينها فندق باليه أماني، وفندق صحاري، ورياض فاس وهي من بين أفضل الأماكن – تشاهد السماء تحول المدينة إلى اللون الوردي الخفيف، بينما تعود طيور اللقلق (التي يشاع أنها علماء ملعونون) إلى أعشاشها".
ويأتي تقرير خبيرة الوجهات السياحية باولا هاردي بصحيفة "تلغراف" البريطانية، ليعزز فرص المدينة المغربية في استقطاب المزيد من السياح، لاسيما أن فاس تعد العاصمة الروحية للمغرب فهي تعيش تحركًا ثقافيًا متميزًا على مدار السنة يتجسد في مهرجانات واحتفالات دينية وأنشطة مختلفة ومتنوعة تتلون بشتى ألوان الإبداع، من ضمنها مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، ومهرجان فاس للثقافة الصوفية، ومهرجان فنون الطبخ، والمديح والسماع، ومهرجان الملحون.
كما أن المدينة أصبحت مقصدا وفضاء لعقد عدد من التظاهرات الدولية والوطنية في هذا المجال، ومنها المؤتمر الدولي لمدن التراث العالمي سنة 1993، والمؤتمر العربي للمدن التاريخية العربية الإسلامية.
وقد أضحت فاس إحدى أرقى المدن الإسلامية، بإشعاعها الثقافي والعلمي، وذلك بفضل جامعة القرويين الشهيرة، ومدارسها المتعددة التي تستقبل عدد كبيرا من الطلاب والعلماء البارزين من الديانات الثلاث اليهودية والمسيحية والإسلام.
ولأهمية المدينة التاريخية، عملت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو)، على إدراج مدينة فاس ضمن قائمة التراث العالمي سنة 1981 كأول مدينة مغربية يتم وضعها في هذه القائمة.