الإنتماء الجمالي

ما تشتغلُ عليه الباحثة التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني في كتابها "الفن والمقدس" يصبُ ضمن المساعي الرامية لصياغة مفهوم الإيمان الحر.
الفن وحده كفيل بتبرير العالم من جديد على حد قول نيتشه
التناول المعرفي نادر جدا في المشهد الثقافي

ربما الفراغ الذي يعيشهُ العالمُ، وما يعانيه الإنسان من التصحر الروحي، بعد تصاعد حدة التطرف المتلفع بالشعارات الدينية والعنصرية يُحتمُ التفكير في شق درب مغاير بحيثُ يكون التركيز على صناعة فرص لبناء مشترك جديد بعيداً عن الرواسب العنصرية المتراكمة على مر التاريخ، وهي ما أنتجت غير الخراب والدمار. 
ما تشتغلُ عليه الباحثة التونسية أم الزين بنشيخة المسكيني في كتابها الصادر حديثاً  "الفن والمقدس" يصبُ ضمن المساعي الرامية لصياغة مفهوم الإيمان الحر الذي يستمد مقوماته من المتون والتأملات الفلسفية، وما عبرُ عنه الأدباءُ والفنانون من رؤية عميقة لضرورة إدراك القيم الجمالية. 
تقعُ في هذا المؤلف على نقاشات مستفيضة حول دور الفلسفة والأدب والفن في العالم اليوم، إذ تؤيدُ ينشيخة ما قاله دولوز عن دور الفن في تحرير الحياة، حيثما يتم إعتقالها. كما أنَّ النضال الثقافي هو طلب المستحيل في عالم فقدنا فيه الواقع على حد تعبيرها.  فالأدب برأي الباحثة هو وجه مشرق للكارثة، ما تتميز به المسكيني في إشتغالها المعرفي هذا هو تمكنها من تناول الفن والفلسفة والأدب في سياق قراءتها العميقة للأزمات المركبة على المستويات الفكرية والبيئية، هذا ناهيك عن العطل الإدراكي نتيجة تشيوء المفاهيم.

Beauty
المساعي الرامية لصياغة مفهوم الإيمان الحر 

يذكر أنَّ مثل هذا التناول المعرفي نادر جدا في المشهد الثقافي، لأنَّ ما هو متوفر حول واقعنا المتخم بسخام التطرف والإستبداد والإنتكاسات الحياتية عبارة عن مقاربات أحادية بينما يفتحُ لك هذا الكتاب الثري بمعلوماته، أفقاً أرحب لرؤية الإشكاليات بكل أبعادها مع البحث لإمكانيات ومثابات داعمة لتأسيس نوع جديد من الإنتماء الجمالي.
تناقشُ المسكيني في المقدمة مفهوم المقدس الأنثوي مشيرة إلى ما توصلت إليه الباحثة السورية ميادة كيالي بشأن هذا الموضوع، فبرأيها أنَّ شكل طبعات الأصابع المتكررة على جدران الكهوف تمثل أصابع النساء على الأكثر الأمر الذي يؤكد بأنَّ صفحة التاريخ مطبوعة أولاً ببصمات النساء، كما أنَّ ولادة المقدس قد تجلت في المنحوتات الفنية والتماثيل الأنثوية ضمن المجتمع الأمومي قبل إنسحاب الأنثى من حقل الرموز المقدسة.
التحولات
شهد مفهوم المقدس تحولات في سياقات مختلفة ومرت الفكرة بتعريفين حاسمين بحيثُ لم يعد المقدس منحصراً في دلالاته الدينية، فما حدده دوركايم باسم المقدس الديني تقابله فكرة المقدس غير الديني التي نشأت لدى ميشال ليريس، ويكون لها إمتداد عند طيف من المفكرين. 
وما يجدرُ بالذكر في هذا الإطار هو نظرة دوركايم عن الحياة الدينية التي لا ترتبط حسب كلامه بديانات التوحيد، فكل الشعوب قد أنجزت حياةً دينية خاصة بها، ويخلص من ذلك إلى أنَّ ثمة طقوس بلا إله، وطقوس قد صحبها نشوء الآلهة. وبهذا يتمُ الفصل بين المقدس والدنيوي. وعن مصدر إنبثاق المقدس يقولُ دوركايم بأنَّ المجتمعَ هو منشأ المقدس، أكثر من ذلك فإنَّ مظاهر الحياة الدينية لا تخلو منها المجتمعات الواقعة على خط اللائكية، وتتوقفُ الباحثة عند أطروحة الفيلسوف الفرنسي رينيه جيرار حيثُ يتشابكُ في برادايمه العنف والمقدس، بحيثُ إنَّ ظاهرة العنف ليست سوى وليدة فكرة المقدس.
وفي ظل هذا الجوع النهم للمقدس تعولُ المسكيني على ما يحملهُ المقدسُ من إمكانيات وتجسيدات جديدة أو مايسميهُ جيرار من الإعتناق الروائي الكفيل بتوجيهنا نحو مقدس من نمط جمالي. 
طبعا أنَّ العقليات السقيمة والأنظمة المستبدة تشنُ حملةً على الفنون هادفة إلى نسف القيم الجمالية، وبذلك تحلُ غريزة العنف مكان التذوق الراقي للإبداع الفني إلى أن تكشفَ الرغبات الحيوانية عن وجهها المخيف،
ويلمحُ جوزبه كاتو تسيلا  في روايته "لا تقولي إنك خائفة" إلى مخاصمة المتطرفين للفن إذ ما أن يستتبَ الأمرُ لحركة الشباب في الصومال حتى يتم إغلاق دور السينما بحجة تغذية فن السينما للأحلام. إذاً الحربُ تبدأُ بتعرية المرء من أحلامه ومواراة الجمال. من هنا نفهم مؤدى ما يقوله ميلان كونديرا عن القيمة الجمالية "إن الجمال أهم من العدل، وأهم من الحقيقة" لذا لا استغراب من تقاطع مساعي صاحبة "الفن في زمن الإرهاب" لبناء مفهوم الإنتماء الجمالي مع مشاريع فلسفية ونصوص روائية وقيمة أعمال فنية، وهي تطالبُ بغلق أبواب النهايات لأنَّ هذه السردية المسكونة بإعلان النهايات لا تخدم إمكانية التفكير في المستقبل الإيجابي للأجيال القادمة.
عطفاً على ما سبق فإنَّ الباحثة تؤسسُ مفهومها بناءً على تواصل الثقافة مع حقل المعارف البينية أو تعدد الإختصاصات، ولم يعد العلم بعيداً عن التصور الجمالي بحيث يجوز وصف العلم بسردية كبرى، بمعنى يمكن حكيه مثل أشكال أخرى من الحكي. 
تشيرُ المسكينى إلى ما أنجزه جول فيرن على هذا الصعيد وهو قد جعل معارف عصره متاحة للجميع من خلال رواياته. 
هذا وتتناولُ أم الزين في فصل من كتابها مفهوم الأمل لدى كل من سبينوزا وديكارت إذ تنحازُ إلى الأخير فمن المعلوم أنَّ الأمل ضرب من الأهواء الحزينة لدى سبينوزا، بينما عند ديكارت يقعُ الأملُ ضمن الإنفعالات الإيجابية، ومن ثمَّ تتحرى عن تجليات الأمل في الفن التشكيلي لافتةً إلى أنَّ أول لوحة فنية تحمل عنوان "الأمل" من توقيع الرسام الإنجليزي جورج فريدريك واتس، وهي لوحة بحرية ترمز إلى عدم الإستقرار وفي هذا الإطار تؤكدُ الباحثة على أن أطروحة نهاية اليوتوبيا وصفة رأسمالية تهدفُ من خلالها تحويل الناس إلى وسائل داخل مكنة التوحش. وذلك كله لا يستنفدُ حديثُ الأمل إنما يتخذُ النقاش بشأنه منحى عقلانيا في مدار الفلسفة الكانطية. فكان للفيلسوف الألماني سبق في صياغة السؤال عن الأمل داخل الحقل الفلسفي. الأهم في هذا السياق هو رأي كانط عما يمكنُ للإنسان عمله على مستوى التقدم الإخلاقي بوصفه الموضوع الوحيد لإرادته.

Beauty
تحولات في سياقات مختلفة 

التناغم
مفصل آخر من الكتاب يدورُ حول مفردة ديانة الفن التي قدمها هيغل في حديثه عن الفن اليوناني القديم، فبنظره أنَّ المهمة الأولى للفن هي التى يشتركُ فيها مع الدين والفلسفة. إنه لايختلفُ عنهما في التعبير عما هو إلهي وعن حاجات الروح ومتطلباتها الأكثر سمواً.
تقتفي بنشيخة أثر هيغل عن حتمية التواصل بين الدين والفن ضاربة بعرض الحائط كل محاولة لإقامة التعارض بينهما إذ التناغم الأمثل بين الدين والفن عبر عنه نوفاليس "العقل شاعر مباشر. مخيلة منتجة بلا وسائط العقيدة شاعر غير مباشر مخيلة منتجة عبر وسائط" وفيما الإنسانُ تصدمهُ صورة الخراب الذي خلفته آلة التطرف وهي أتت على شواهد الحضارة يبدو أنَّ الفن وحده كفيل بتبرير العالم من جديد على حد قول نيتشه.
وما يجبُ الإشارة ونحنُ بصدد وظيفة الفن أنَّ الحداثة ليست سوى مفهوم فني إذ أوردت المسكيني في مؤلفها تأملات بودلير لبوادر الحداثة، كما لاحت في لوحات الرسام الفرنسي كوستنتين غويس. 
يشار إلى أن ما قدم سلفاً ليس إلا جانباً من المواضيع التي تشتغلُ عليها الباحثة لإرساء مفهوم الإنتماء الجمالي، فهي ترصدُ مسوغات مشروعها في الشعر والفلسفة والفن التشكيلي والرواية، وهذه الأشكال التعبيرية كلها تندرج في سياق لعبة الحياة البهيجة والشعب الذي يلعب هو شعب مريض على حد رأي شيلر.