الاحتفاء بنجيب محفوظ في بغداد

نادي المدى للقراءة بشارع المتنبي يقيم احتفالية بأعمال الروائي المصري الراحل بمناسبة مرور ثلاثين عاما على "نوبل" وذكرى ميلاده 107.
وقفات المحاضر جاءت بما يتواءم مع طبيعة اللقاء وطبيعة نادي القراءة
محفوظ أفضل من تعامل مع التقليد فلم يلغه أو يتعالى عليه، ومع التحديث فلم ينغلق عنه ويمتنع عن الأخذ به

بغداد ـ بمناسبة الذكرى (107) لولادته، وثلاثين عاماً لحصوله على جائزة نوبل للآدب؛ أقام نادي المدى للقراءة جلسة احتفائية بنجيب محفوظ قدم لها الناقد الدكتور أحمد الظفيري وحاضر فيها  الناقد الدكتور نجم عبدالله كاظم وشارك فيها الحضور من أعضاء النادي الشباب بالعديد من الأسئلة والمداخلات.. ومما جاء في محاضرة الناقد نجم عبدالله كاظم:
"بدأت علاقتي بنجيب محفوظ بقراءة روايتَيْ: القاهرة الجديدة وخان الخليلي، عام 1968، وهي التجربة التي شكلت تحولاً في مسيرة قراءتي، ثم تتوجت قراءاتي الشبابية تلك لمحفوظ عام 1973 ببحث تخرج عنه وتحديداً عند روايات المرحلة الواقعية الاجتماعية السبع. وتواصلت قراءاتي لمحفوظ على امتداد خمسين سنة، قارئاً لما يقارب الثلاثين رواية ومجموعة قصصية من أعماله، وجل ذلك وذروته كانا خلال العشرينيات من عمري، بل وأنا دون السابعة والعشرين، وبما يعني، من وجهة نظري بالطبع، وهذه نقطة مهمة هنا، أن أعمال محفوظ كانت ملائمة لعمري حينها ولأعماركم الآن، وهذا ما أردت إيصاله من هذه الإشارات، وصولاً إلى التوقف عند أهم خصائصه التي تصب في ملائمة أعماله لأعمار شباب نادي المدى للقراءة ومن هم بأعمارهم".
لقد كُتب وقيل الطبع الكثير والكثير جداً عن محفوظ، وذلك لثراء خطابه السردي والعالم الذي يقدمه في أعماله التي قاربت الستين. فجاءت وقفات المحاضر الدكتور كاظم بما يتواءم مع طبيعة اللقاء وطبيعة نادي القراءة. فلمحفوظ روايات، وقصص قصيرة، ومسرحيات غالبيتها ذوات فصل واحد، وكتاب مترجم. ولكنه أولاً وأساساً روائي، ورواياته هي أهم كلاسيكيات الرواية العربية التي مرة أخرى لا يمكن للتأسيس الأدبي والثقافي والإبداعي لأي مثقف، مثل جلّ شباب الحاضرين، أن يتم بدون المرور بها، لما تميّزت به من خصائص كثيرة، توقف الناقد الدكتور نجم عبدالله كاظم عند ما يراه أهمها، فقال: 
"لعل أهم، أو على الأقل أكثر ما تجذب كلا القارئ العادي والناقد، في روايات محفوظ، البيئة وتحديداً الاجتماعية وما يرتبط بها بالضرورة نعني النماذج البشرية التي تتمثلها الشخصيات الروائية. فمعروف عناية محفوظ غير العادية بالبيئة، المصرية بالطبع، ولكن القاهرية تحديداً بشكل خاص، وغالباً ما كانت بيئة الطبقة المتوسطة والفقيرة، وتبعاً لذلك كان من الطبيعي أن يتميز عالم محفوظ الروائي، ولاسيما في المرحلة الاجتماعية من مسيرته الروائية (القاهرة الجديدة - الثلاثية) بالمحلية، وبرأيي أن هذا هو أكثر ما أوصل محفوظ إلى نوبل فالعالمية. لقد كانت وراء هذه المحلية بشكل خاص، إلى جانب التصاق محفوظ بعوالمها بنماذجها البشرية، الخبرة بهما على أرض الواقع، وفي النتيجة قدم الكاتب شخصيات حية أو قادرة على الحياة، ولم يعد غريباً أنها، بعد الانتهاء من قراءة الرواية، تبقى في أذهاننا، بخصوصياتها وطبيعتها وقضاياها التي هي القضايا التي تعالجها الرواية. 
وهكذا تبقى نماذج الموظف والمتسلط وذي الشخصية المزوجة والمتسلق الطبقي، والمناضل والسياسي الوصولي والمسؤول الفاسد والمرأة المقموعة وغيرها. فبعد قراءة "القاهرة الجديدة" يبقى (محجوب عبدالدايم) الذي يرتضي لنفسه معاشرة المسؤول الكبير لزوجته، وبعد قراءة "زقاق المدق" تبقى (حميدة) بأحلامها التي تضيع وتضيّع صاحبتها معها، وبعد قراءة "بداية ونهاية" يبقى (حسنين) والتسلق الطبقي، وبعد قراءة الثلاثية يبقى (سيد أحمد عبدالجواد) بتسلّطه وانفصام شخصيته، وبعد قراءة "اللص والكلاب" يبقى (سعيد مهران)، وبعد قراءة "ميرامار" تبقى (زهرة) البنت الريفية البريئة و(سرحان البحيري) الوصولي والسقوط السياسي. 

وهكذا الأمر مع جل روايات الكاتب. ومما يجذب الانتباه في تفرّد محفوظ تميز اللغة الوصفية، وتحقيقها للإقناع، حتى في تفصيليتها في روايات المرحلة الاجتماعية، بعكس الكثير من الروائيين الذين يقعون في أسر الوصف والوصفية فيغرقوا في تفصيليتهما مما لا يقع مع محفوظ. وأعتقد أن مثل هذه الخصيصة من أكثر ما يلائم الذائقة الشبابية، وعليه حين تكون متميزة فإنها تترك تأثيراتها الإيجابية فيهم، وحين تكون عبئًا، في ضعفها أو تفصيليتها غير الملائمة، أو توظيفها غير الموفق، فإنها تترك تأثيراتها السلبية عليهم. وتعلّقاً بهذا يأتي الحوار الذي يشكل أصلاً، من وجهة نظري وكما عبّرت عن ذلك في كتابي (مشكلة الحوار في الرواية العربية) مشكله عند غالبية الروائيين العرب. الحوار عند محفوظ جاء دائماً مقنعاً لغة وأسلوباً وتناسباً مع الشخصيات المتكلمة به".
في وقفات أخيرة حاول الناقد نجم تسجيل ظواهر أو خصائص مهمة تتعلق بتجربة نجيب محفوظ، أولها وعيه بكل مراحل تحولات الواقع والمجتمع والإنسان، وبما احتاجته تلك المراحل والتحولات من أنماط وتحولات سردية متلائمة معها. وهو في هذا كان صاحب حس غير عادي فما كاد تحوّل يسبق أو يتجاوز نمط كتابته جنساً سردياً أو نوعاً روائياً وقصصياً أو اتجاهاً فنياً أو نزعة فكرية. وهكذا نجد مسيرته الروائية قد بدأت بالرواية التأريخية مصاحبة لحركة البعث القومي والوطني الذي وسم نهايات القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، وتحول إلى الرواية الواقعية الاجتماعية حين صار الواقع، ضمن ذلك، محور اهتمامٍ، ثم انتقل، وبما تناسب مع انفتاح مصر والوطن العربي على العالم واجتياح الحركات الفكرية والفلسفية والثقافية المختلفة لواقع الوطن والأمة، إلى التنوع ما بين الرواية الفكرية والفلسفية والرمزية، وامتداداً إلى التجريب. ثاني الظواهر التي توقف عندها الناقد، التأثير الذي مارسه محفوظ في الرواية والقصة العربيتين، وضمنها الرواية والقصة العراقيتان خصوصاً في الخمسينيات والستينيات. 
أخيراً، يرى الدكتور كاظم أن خير التقليد ما لا ينغلق عن التحديث، وخير التحديث ما لا يلغي التقليد، فقال إن محفوظ أفضل من تعامل مع التقليد فلم يلغه أو يتعالى عليه، ومع التحديث فلم ينغلق عنه ويمتنع عن الأخذ به.