الاعتراف بسلطة الذاكرة المعدلة

‏يبرز المكان بجدارة، ليس في صورة الأبيض والأسود بل بمقارنة الرثاثة المكانية السائدة اليوم بسبب العجز الحكومي، مع ما كان مشيدا بوصفه من روائع ألامس، السينمات، المباني، الجسور، محطات القطارات، الطرقات... إلى أن ننتهي بسلوك الناس ومفهومهم للحرية.
اغلاق دور السينما
ذاكرة المدينة

ليس في السياسة وحدها صارت استعادة الماضي نوعا من الحل بما يهدد المستقبل، هكذا يعمل ويعترف الشعبويون اليوم في عصر ترامب وفي أوروبا أيضا، بسلطة الذاكرة المعدلة.

العالم العربي بدأ يؤمن بسلطة الذاكرة المعدلة عندما يترحم على الماضي، الواقع أنه لم يكن ماضيا بالمعنى التاريخي الموغل وأدرج في أروقة المتاحف، هذا الذي يترحم عليه العرب اليوم، بل نتحدث عن بضعة عقود! هكذا تكمن قوة الحنين إلى الماضي في غريزة إنسانية تميل إلى حجب الأمور السيئة في الوقت الذي تستدعي فيه الأمور الجيدة، وفق تفسير فيليب ستيفنز الكاتب في صحيفة فايننشيال تايمز، فالأشخاص الذين فقدوا ثقتهم بالمستقبل يتطلعون إلى العزاء في اليقين القديم المتخيَّل.

يبرز هنا المكان بجدارة، ليس في صورة الأبيض والأسود بل بمقارنة الرثاثة المكانية السائدة اليوم بسبب العجز الحكومي، مع ما كان مشيّدا بوصفه من روائع الأمس، السينمات، المباني، الجسور، محطات القطارات، الطرقات… إلى أن ننتهي بسلوك الناس ومفهومهم للحرية، لماذا صارت الحرية اليوم تحمل معاني بغيضة لا تمتّ بصلة لمفهومها التاريخي؟ تفسير الدين دائما في موضع اتهام، وتكمن الكارثة في أن الدين متغير مع تغير السياسة.

سأقترح مقطعا معاصرا بوصفه معادلا مكانيا للماضي، من أجل أن أدافع عن فكرتي، فقد شدني أن يكون في المجمعات التجارية المشيّدة حديثا في المدن العراقية، أن الإشارات الاحتفالية تتركز على وجود صالات للسينما داخل تلك المجمعات، وهو أمر يدعو للغبطة بلا شك وسط الرثاثة التي تغلف المدينة برمتها، لكنها سعادة منقوصة عندما نهمل عن قصد الحسية المكانية لدار سينما الأمس، أهملت أو هدمت لإزالة أي أثر لها مع أنها أرّخت لتاريخ من العلاقة بين الإنسان ومدينته، لا أحد فكر في ترميمها لسبب تجاري وأناني أو سياسي بغيض! ومهما كانت مواصفات الصالات الجديدة متقدمة، فإنها لن تعوض دور السينما العتيقة، لأن الزمن الحقيقي يكمن فيها، ولن يكون الزمن الشاذ المستقطع من تاريخ البلدان بديلا لها.علينا أن نشرع في ترميم المبنى العتيق في الوقت الذي نشيّد آخر بمواصفات معاصرة.

في ضاحية ريتشموند القريبة من منزلي في لندن هناك ثلاث دور للسينما، تعود عتاقة المبني الأول إلى أكثر من مئة عام، سحره يكمن في أن المرء ينزل من جسر ريتشموند العتيق ليفتح أمامه باب السينما، لم يُهمل هذا المبنى عندما شيّدت على بعد خطوات منه دار سينما حديثة، مع انه توجد صالة ثالثة للعرض تتوسط المسافة بين مبنيي الدارين.

مثال مدينة ريتشموند يكاد يتكرر في المدن المخلصة لروحها، المقاومة للرثاثة والترهل لكي تبقى متحفا كبيرا يدور في طرقاته الناس، فافتتاح صالات جديدة لا ينقذ واجهات المدينة المفرغة أصلا من مضمونها.