الاماراتية عائشة سلطان تحلق في فضاءات المدن شرقا وغربا

الإعلامية والناقدة الإماراتية عائشة سلطان تكشف في كتابها 'هوامش في المدن والسفر والرحيل.. في أدب الرحلات' عن بداياتها مع عالم السفر ثم تتطرق الى اندفاعها الى اكتشاف حياة المدن وتأملها جمال الأمكنة والبشر وتعرفها على الثقافة والفنون والعادات والتقاليد والتقدم التكنولوجي.

"الإنسان كطائر يحلق حتى آخر الدنيا، صباحا يكون في أرض وبين أناس، وحين يهبط عليه إذا هو في بلاد أخرى وتحت سماء مختلفة يحتسي قهوته مع آخرين في انتظار موعد طائرة أخرى أو موعد صديق أو طبيب أو منتدى، طائر حقيقي يظن نفسه أكبر من كل شيء، يحاول أن يكون أكبر من توقه وفضوله لكنه غالبا ما يخفق".. هذه الرؤية لهذا الإنسان الطائر عاشتها الإعلامية والناقدة الإماراتية عائشة سلطان واقعا حيا يمتلئ بمتعة معرفة واكتشاف حيوات المدن شرقا وغربا وتأمل جماليات الأمكنة والبشر وتجليات الثقافة والفنون والعادات والتقاليد، والتقدم التكنولوجي، انطلاقا من مسقط رأسها دبي وتحديدا من شوارع دبي القديمة حيث نشأت، لتحلق منها إلى فضاءات مدن أميركا وبريطانيا والبحرين ومصر وألمانيا ولبنان وتركيا والكويت وأسبانيا.. إلخ، وتقدم كتابا رائقا في أسلوبه وثريا في معارفه ومتوهجا في أحاسيسه ومشاعره يفتح الشهية للتحليق والسفر حول العالم.
تقول سلطان في مدخل كتابها "هوامش في المدن والسفر والرحيل.. في أدب الرحلات" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، وهو المدخل الذي عنونته بـ"في السفر" وكشفت فيه بداياتها مع عالم السفر  وذلك قبل أن تبدأ الإبحار إلى عالم مدنها شرقا وغربا "سافرت العالم شرقا وغربا، شمالا وجنوبا، وكثيرا ما وقفت مودعة في المطارات ومستقبلة في صالات انتظار أخرى، لطالما دفعت حقائبي وحيدة في محطات بعيدة وركبت قطارات وغادرت محطات أخرى أكثر بهجة مما توقعت، حزنت كثيرا وفرحت أكثر، وضحكت حتى سالت دموعي، عشت لمة الأصحاب وفرح اللقاءات، كما عشت الوحدة وأسى الفراق، وأخيرا فهمت كيف أن الإنسان ليس أكثر من طائر صغير مسكون بالشغف والحرية والتوق إلى المجهول، يحلق في كل الفضاءات ويسافر في كل الدنيا، لكنه أبدا لا يقاوم حنين العش الأول، ولحظة الأنس بأحبته وأهله وبلده ورائحة أمه".
وتشير "سافرت لأول مرة حين كنت صغيرة جدا لا أعي معنى السفر ولا الانتقال عبر الزمن والمسافات، كان من عادة الناس في دبي أن يسافروا طيلة أشهر الصيف اللاهبة إلى مناطق بعيدة باتجاه الشرق إلى مناطق تقع اليوم في سلطنة عمان "رؤوس الجبال" للتمتع بخيرات الصيف هناك".
وتضيف "كانت الرحلة تستغرق أياما عبر سفن ضخمة تشق طريقها في الخليج أياما وليالي، هناك كنا نستقر في بيوت تصنع من جريد النخل بطريقة هندسية لطيفة توفر الحياة الخفيفة والعيش البسيط، كانت القرية ـ اسمها اليادي ـ التي نسكنها صغيرة جدا تقتات من أعمال البحر وبساتين النخيل، تعبق برائحة الليمون والمانغا، وكانت تبدو وكأنها انبثقت من ضلع الجبل الأجرد المنتصب أمامنا كإله أسطوري خارق، اليادي "وينطقها أهلها الجادي" كانت في تلك السنوات قرية مزارعين وصيادي أسماك، لا يؤرقها شيء، في الليل تتكئ برأسها على كتف الجبل الأجرد، وتغسل أقدامها في البحر طيلة النهار، جزؤها العلوي جبل وجزؤها الأخير بحر، وفي منتصف المسافة أرض منبسطة ومحروسة بالنخيل وقبور الأسلاف وبيوت الطين والجريد وخرافات الجن والسحر".
وتتابع سلطان "كان يمكننا أن نقطعها سيرا على الأقدام من شرقها وغربها في ساعات الصباح الندية، كل ذلك السحر وحكايات الجن لم يخففا عني يوما وطأة الحر والرطوبة الشديدة التي كنا نتخبط فيها ليلا ونهارا، لا ينقذنا سوى السباحة في البحر والمراوح التقليدية التي كانت الأمهات يستخدمنها للتغلب على الحر الشديد". 

كتاب
كتاب يفتح الشهية للتحليق والسفر حول العالم

وتواصل قائلة "وبعد أسفار الطفولة تلك سافرت لأول مرة بالطائرة إلى كراتشي، وقد امتلكت بعض العمر والمعرفة، كانت باكستان نهاية السبعينيات هائجة بالمظاهرات والصدامات الدامية بين السلطة والشارع وفي تلك الفترة من العام 1979 وجدتني في شرفة منزل أقمنا فيه صيف ذلك العام، وإذ نسيت كل تفاصيل ذلك الصيف إلا أنني لن أنسى القنبلة المسيلة للدموع التي قذفت من مكان ما واستقرت في شرفة غرفتي حيث أقف، شعرت كأن أحدهم سكب لهبا في عيني، وتعال صراخي بشكل لا يصدق في ذلك المساء الذي كانت فيه المدينة تغلي بالمواجهات".
وتضيف "لأننا من الجيل الذي تمتع بنعم البدايات فقد سافرنا إلى عدة مدن في رحلات كانت تنظمها جامعة الإمارات التي كنت أكمل فيها دراستي الجامعية، طالبات كلية العلوم السياسية كان نصيبهن من السفر إلى الكويت والبحرين، لأسباب تخدم منهاج الإدارة، فقد كانت الكويت تشهد ازدهارا سياسيا لافتا، بينما البحرين كانت تطبق سياسة توطين الوظائف لأول مرة على صعيد دول الخليج، وكان مطلوبا أن نطلع على هذه التجارب الرائدة، وكانت رحلة لا تنسى هي الأخرى".
وتلفت سلطان إلى أن رحلتها الأولى إلى أميركا ـ واشنطن كانت في عام 1989 "كان أخي يدرس الهندسة في واحدة من جامعات العريقة، هناك أقمت في فرجينيا، واتسع وعيي على الكثير من الحقائق، زرت البيت الأبيض، ووقفت أمام تمثال إبراهام لنكولن، ورأيت كيف ينظر الأميركان السود لهذا الزعيم التاريخي، وكيف كانوا يحلمون برجل آخر ينصفهم بشكل تاريخي، حت جاء أوباما رئيسا أميركيا أسود لأول مرة في تاريخ أميركا، فأحسوا بأنهم أزاحوا عن كاهلهم ظلم قرون من العنصرية. تأملت حائط ضحايا فيتنام الرخامي الأسود الملئ بأسماء الضحايا والمحفورة في عمقه بلون ذهبي كما هي في عمق الوجدان الجمعي الأميركي، عند هذا الحائط يأتي السياح لالتقاط الصور، ويأتي الأميركيون لتذكر ضحاياهم، يضعون باقات الورد والكثير من الهدايا أسفل الحائط ويمضون، يأتي بعدهم متسكعون يأخذون تلك الباقات والهدايا ليبيعونها لآخرين يضعونها بدورهم أسفل الحائط نفسه، في قلعة الرأسمالية لاحت في ذهني أفكار الاشتراكيين الكبار، فابتسمت".
وتستمر سلطان في سردها الممتع لرؤاها "وقفت طويلا أمام مسلة واشنطن الشهيرة التي تشكل مع البيت الأبيض ونصب لنكولن امتدادا مستقيما لا يتسق مع سياسة الولايات المتحدة غير المستقيمة، زرت متاحف واشنطن، متحف الفن الحديث، متحف التاريخ الطبيعي، متحف الطيران.... تجولت في أشهر جامعاتها ومشيت في شارع بنسلفانيا الأشهر فيها حيث البيت الأبيض مركز القرار ومهوى أفئدة العالم، ولأجل علاج أمي قضيت قرابة الشهرين في أحد أشهر مستشفيات العالم التي تقع في مدينة صغيرة حالمة في الشمال الأميركي اسمها "روشستر" بولاية مينيسوتا"، كان ذلك في العام 1993، هناك في الولايات المتحدة بداية التسعينيات ازداد وعيي واتسعت معارفي وتلمست أعظم القيم التي تضبط إيقاع الحياة الأميركية، هناك راكمت الكثير من الأفكار والرؤى والقناعات والأحلام أيضا وهناك بدأت رحلتي مع الكتابة في صحيفة البيان العام 1997".
وتتابع "سافرت بعد ذلك إلى بريطانيا لأكمل رسالتي للماجستير، امتحنت قدرتي على احتمال الحياة في بلدان الاغتراب، فكانت نتيجتي صفرا من عشرة في امتحان احتمال الغربة، عدت إلى دفء أمكنتي وأمي وحياتي وأصحابي، لم أخسر شيئا بل على العكس عدت ممتلئة بالكثير من الصداقات والقراءات والمواقف والاختبارات والفرح والحزن والوجوه والمشاهد والتجارب".
 وتردف قائلة "ببساطة حين أغمض عيني اليوم أستطيع تذكر الصديقات الصينيات اللواتي تعرفت إليهن في جامعة كاردف في بريطانيا، والأرجنتينيات والبرازيليات والكويتيات اللواتي تعرفت إليهن في فصل اللغة بأحد معاهد تعليم اللغة الإنكليزية في العاصمة واشنطن، كما أستطيع أن أروي الكثير من حكايات المسز أديث الأميركية التي درست على يديها اللغة الإنكليزية ودارت بيني وبينها مراسلات كثيرة بعد عودتي لدبي، كانت مأزومة في علاقاتها العاطفية، كانت تبحث عن الحب والأمان بأية طريقة حتى أنها أحبت شابا مكسيكيا كان أحد طلابها، وكان يصغرها بعشرين عاما، ربطتني بها علاقة إنسانية جميلة سرعان ما توارت في غياهب البعد والانشغالات، لكنها من الحكايات التي كلما استعدتها ابتسمت".
وتقول سلطان "بدءا من صيف 2001 توقفت عن زيارة واشنطن لأرتبط بمدينة ميونخ الألمانية ولسنوات طويلة كونت هذه المدينة في داخلي حمولة من الذكريات لا تمحى، أحببت ريفها، تاريخها، قصورها، الساحات والكاتدرائيات والنزهات والأصحاب والتسكع أيام الآحاد في محطتها الرئيسية الكبرى "الهابنهوف" والسفر منها عبر أراض شاسعة ومسافات طويلة إلى مدن بعيدة بعضها لم أعد أتذكر أسماءها. 
وترى إن الألمان في السنوات الأخيرة يتعلمون الضحك في مدارس خصصت لهذا الغرض، لهذا فهو شعب لا يعرف من لهو الحياة سوى الطعام والخمر والعمل، أما العلاقات الاجتماعية فلا محل لها إلا نادرا جدا، هم شعب عظيم وجاد وشديد الفخر بنفسه وبحضارته، يمتلك واحدا من أقوى اقتصاديات العالم وواحدا من أقوى الأنظمة السياسية وأكثرها استقرارا وديمقراطية، وقد علمني التردد على بلادهم ولسنوات طويلة أن تثبيت مسمار في جسم سيارة المرسيدس أهم من صناعة هيكل السيارة الفخم، وأن السمعة الألمانية العريقة وراءها تاريخ طويل من العمل والمثابرة الجادة حيث الجودة أساسها الاتقان في العمل والدقة في التفاصيل، وهو المبدأ الأول في درس المعجزة الصناعية الألمانية المعاصرة.
وتكشف سلطان أن أغرب أسفارها تلك التي قطعت فيها آلاف الأميال لحضور حفل غنائي للعظيمة فيروز في لبنان والبحرين، ومن ألمانيا عدت ذات يوم إلى دبي لأحضر حفلها وأعود ثانية!!..
 وتضيف "سافرت للمتعة والبهجة وتجمعات الأصدقاء، ومازلت أحن لتلك الشوارع والطرقات المرصوفة بالحجارة القديمة والمبللة بأمطار الليل، مازلت أحن لساحة سان ماركو الرومانسية في فينيسيا ولجولات الجندولا، ولسرفة جولييت في مدينة فيرونا، ولمقاهي شارع الماكسيميليان في ميونخ، وللفناء الرخامي المشع بأنوار البيت العتيق والمسجد الحرام بمكة المكرمة، ولساحة الكنيسة القديمة في المارين بلاتز، وذلك الشاطئ الذهبي الخلاب في الجولد كوست باستراليا، لشوارع سنغافورة ومدينة بومبي الهندية وباريس ومطاعم بروكسل والجولة النهرية في مدينة بروج البلجيكية الهادئة والتبضع في ستراسبورغ الفرنسية وبانكوك التايلندية وأجمل الطعام ما كان مصحوبا بالموسيقى في مدينة الموسيقى والجمال: فيينا... مدن كثيرة تلاشى في تلافيف الذاكرة.