البعد الإستشرافي في 'مشروع أوما' للطفية الدليمي

الكاتبة العراقية لطفية الدليمي تواصلُ منجزها الروائي مع تشكيلة من الأفكار الفلسفية والعلمية والاقتصادية، وروايتها الجديدة متعددة الأبعاد ويمكنُ مقاربتها من مداخل مختلفة.
'مشروع أومّا' رواية بيئية برؤية مستقبلية تمزج بين التقاليد المعيشية والمعارف الحديثة

المتابعُ لموجة الروايات الحديثة يلاحظُ العودة إلى التاريخ والبحثُ في منجمه عن مصادر ينطلقُ منها النص الروائي إلى أن تستقيمَ أركانهُ، وقد يكونُ الغرضُ من ذلك هو إسقاطُ وقائع الماضي على المرحلة الراهنة، والإبانة عن محنة الزمن المثقل بالعاهات العقلية والانتفاخات الآيدولوجية.
ربما السؤالُ عن دور هذا التيار السردي المرتبط بالتاريخ ومدى نجاحه في بناء مدونة موزاية يتطلبُ قراءة نقدية كاشفة.أياً يكن الأمرُ فإنَّ السائد في المشهد الروائي هو التناص مع المعطيات التاريخية أو سردُ التجارب الذاتية المُطعمة بصيرورات الواقع العام.
ويغيبُ في هذا الإطار البعدُ الإستشرافي أو النبوئي في النصوص الروائية ماعدا محاولات نادرة لاختراق المستقبل روائياً، فلا توجدُ نصوص أدبية تناقشُ فرضيات شكل الحياة، وفتوحات معرفية في الزمن القادم وقد تكشفُ هذه الحالةُ عن شحةِ الخيال والتراخي الفكري كما أنَّ من مُتطلبات برنامج الرواية الاستشرافية هو متابعة ما يدورُ في جبهة العلم والأشواط التي قطعتها المسيرة العلمية والتراكمات المعرفية، والجدل القائم بشأن خيارات الإنسان في العصور المقبلة وهذا ما يستدعي جهوداً إستثنائية، وتبصراً بالعوامل المؤثرة في الواقع ناهيك عن ضرورة مراقبة التحولات ومايستتبعها من سلوكيات ورؤى جديدة.
 والأهمُ من كل ماسبقَ الإشارة إليه أن النص الروائي المنفتحُ على الأفق المستقبلي يجبُ أنْ لايتحولَ إلى فضاء لسجالات علمية  فيخسرُ هويته الأدبية لأنَّ المراد من هذه الصياغات ليس تطويعَ الشكل الروائي لأغراض علمية بقدر ما يهدفُ هذا المسعى إلى إحداث ثغرة بوجه ما اصطلحَ عليه بالثقافة الثالثة.
وفي الواقع تتمثل ملامح هذا المفهوم في رواية "مشروع أوما" للكاتبة العراقية لطفية الدليمي حيثُ يتواصلُ منجزها الروائي مع تشكيلة من الأفكار الفلسفية والعلمية والاقتصادية ،وبذلك يكون النص متعدد الأبعاد، ويمكنُ مقاربته من مداخل مختلف .
إذا كانت النبوءة في الروايات التي تزامن صدورها مع الأحداث والوقائع التي خلفت ظواهر على مختلف الأصعدة قد سلكت منحى توثيقياً وتابعت خطاً تسجيلياً في برنامجها السردي، فإنَّ لطفية الدليمي ترحلُ بالقارئء نحو السنوات القادمة مستشرفةً التحديات الوجودية والأزمات التي تعصفُ بالواقع الإنساني وذلك مايحتمُ عملية المراجعة والتأمل في فعالية البراديغمات الرائجة على مدار العقود.
 ومن هنا  فإن نواة الرواية هي الفكرة وإرساليتها المعبرة من خلال المكونات السردية لاسيما الشخصيات وهي تتوزعُ إلى مجموعتين مساندة للمشروع أو مناوئة له وهذه البنية المرتكزة على الثنائية المُتقابلة تشحنُ الرواية بحس درامي، وتستشفُ من مفردة العنوان أنَّ البطولة لاتُعقدُ على عنصر الشخصية ولا يقومُ المكان بالدور المحوري بقدر ما يوحي مدلول مفردة المشروع وتجيءَ مكونات النص لتكمل الفكرة التي تعبرُ عنها صيغة العنوان ويتم التأكد من هذا الافتراض مع توالي وحدات الرواية إذ يكون المشروع بمنزلة مظلة لبذور المستقبل.
المرأة الرائدة 
 واللافتُ في رواية "مشروع أومّا" أنَّ شخصية نسائية تتكفلُ بالإعلان عن المشروع والتعهد بإدامته وسط الخراب الذي حلَ بجميع الأمكنة جراء الصراعات المدمرة، وتصبح بلدة الصافية حاضنة للشخصيات ومنها تنطلقُ الطاقاتُ الكامنة إلى أن تغدو ورشة عمل تجترح حياةً جديدة. لايمكنُ فهمَ موقع زهيرة الصافي الريادي لا يمكن فهمه وادراك روحيتها المبادرة الشجاعة إلا على ضوء الخلفية المعرفية التي أسست لها الكاتبة عبر سنوات نمو زهيرة ونضجها، فمن تأثرات بالموروث الفكري الرافديني والرموز الانثوية والثقافات البرية. ومن هنا تبرز فكرة الإنبعاث الخصوبي وتسمية الأشياء التي تحمل ايحاءات رافدينية في الرواية.
كما تسربتْ نصوصُ من ملاحم وادي الرافدين إلى طيات الرواية مُضيفةً إلى خطابها دلالة إيحائية عن قيمة الثورة الزراعية في التاريخ ومكانة المرأة على هذا الصعيد عبر اكتشافها لعملية الإنبات فلا ينقطعُ النص عن مناخِ البيئة الحضارية من جانب والاهتمام بحماية البيئة واستخدام كل ممكناتها لعبور أزمة الغذاء والطاقة
بين الحب وصراع الارادات
تبدأُ الروايةُ بعودة إبراهيم إلى القرية وتكشفُ هذه الحركةُ عن وجود علاقة عاطفية بينه وبين قريبته زهير الصافي  صاحبة معمل ماء الورد ووريثة اسرة الصافي، ويهيمن شبحُ نزاع بين أسرتيهما غير أنَّ ذلك لايمنع من اشتعال مشاعر الحب بين الإثنين حتى يغدو هذا الحبُ مشروعاً موازياً لعملية النهوض بالقرية على المستوى الزراعي وبناء منشآت توليد الطاقة.
 تتضاعفُ الشحنات الحسية والعاطفية في تركيبة النص من خلال مفردات محتفية بمشاهد طبيعية ومشاعر نابضة بالحب، فتبدأ تحولات المشاركين في مشروع أوما، فهم لايتعافون من أزمات شخصية بتوظيف خبراتهم وإمكانياتهم لانطلاقة نحو حياة جديدة فحسب،  بل يغدو الحبُ داعماً لإرساء مباديء روحية وانبثاق أفكار ومبادرات تستعيضُ عن الشرائع المقيدة للأفكار الحيوية المنتجة.
  تستمدُ الروايةُ زخمها من الجدل بين الأفكار التي تعبرُ عن إرادات متصارعة، وتكشفُ مستويات متباينة للوعي لدي الشخصيات.
ويتجلى هذا المنحى في الحوار المتبادل بين الأجيال، بين زهيرة وجدتها فوزية التي تؤمنُ بأنَّ القرية ستنهض بعد الكارثة وتعود إلى عهدها المزدهر غير أنَّ الحفيدة ترى بأنَّ الإيمان لوحده لايقضي على مظاهر البؤس والخراب من جانب وترفضُ أن تربط مصيرها بإرادة شخص آخر  وترفض الزواج بالرجل الذي اختارته الجدة.
هكذا تتشكلُ ملامح شخصية زهيرة المختلفة عن توأمها الطبيبة زهور فقد نشأت الأخيرة مدللة مترفة في كنف خالتها وداد وتبدو أكثر انفعاليةً وانفصالا عن الواقع، إذ  تمر بأزمات متتالية وتفقد ثقة فيصل الذي رافق صديقه إبراهيم إلى القرية للمشاركة في المشروع نتيجة انسياقها وراء الوهم. 
تتفوقُ زهيرة على أختها في حسن إدارتها للحياة في القرية وتفهمها للواقع ومتطلباته وتخففها من العلاقات والامور التي تعيق انطلاقتها ولاتكونُ مثابةً للتذوق الروحي والهدوء العقلي أو تعمق إدراكها باللذة الحسية.إذ لا تكتفي ببراعتها في التأسيس للمشروع بل تبادرُ لترميم شخصية علياء - التي انقذتاها هي والجدة عندما عثرتا عليها شبه ميتة - من خلال إشراكها في ورشة العمل إلى أنْ تتعافي من صدمة تعرضها للاغتصاب على يد المسلحين.
 وتراودها الرغبة للعودة إلى المدرسة فيما تنصحها زهيرة بنهل المعرفة من مكتبة البيت الكبيرة التي تمثل جانبا اساسيا من تاريخ الأسرة ومقتنياتها بدلاً من الاهتمام بما لايكسبها مهارات يحتاجها العالم المُعاصر ، مشيرة بهذا إلى أصحاب الشهادات من أبناء القرية الذين تنقصهم الخبرة العملية والبصيرة بالتحولات، فالانطلاقات الجديدة لا تستدعي الاستعداد الذهني فحسب بل تفرضُ رؤية مختلفة لعلاقة المرء بالأشياء والبيئة  وحاجات مجتمع القرية الاساسية.
 وهذا ما يجسدهُ قرارُ زهيرة بالتخلي عن تعلقها بالخيول التي تكلفها الكثير واللجوء إلى استخدام الدراجات الهوائية مما  يخفف عنهم المصاريف فضلا عن كونها صديقة للبيئة.
بموازاة المساعي الرامية لاستكمال المشروع واكتشاف الآبار المنسية وانشاء دوارات الرياح لتوفير الطاقة النظيفة، تتواصل غارات المسلحين على القرية وتغدو مصدراً دائما للتهديد  مثلما تستمر محاولات الاندساس وعقد الصفقات المشبوهة فكان يونس المنذري والد زهور بالتبني ضليعاً في استهدافات تدميرية للصافية .وهو من بقايا طبقة سياسية هيمنت طوال عقود .
وبهذا يتضحُ الاستقطاب بين ارادة تتطلع إلى القطيعة مع الواقع المزري وأخرى لايهمها سوى تراكم المكاسب ولو أدي ذلك إلى مستقبل معتم.
  يتحقق التكامل في مقومات المشروع بالتفاعل مع النصوص الرافدينية المتعلقة بإدامة الحياة مع مواكبة المعطيات العلمية ويختار القائمون على المشروع إسم "أوما" للمشروع نسبةً إلى مدينة سومرية شهدت سلاماً وإزدهاراً في عهد ملكها لوكال زاكيسي.
 وهنا يفتحُ القوس على البعد التيمولوجي للكلمة كما يحيلُ السردُ إلى مدينة هيفن في أميركا التي  لبثت متماسكةً أثناء موجة الكساد التي طالت حياة الأمريكيين خلال ثلاثينات القرن المنصرم.
تبرز ثيمة الرواية البيئية عبر الاهتمام بثقافة البساطة في المعمار ويصبح البناء البيئي ركنا اساسيا من المشروع حيثُ يتم إنشاء المباني بالمواد المتوفرة في البيئة المحلية من اللبن الطيني وجريد النخل، مثلما يكونُ الفضاء السبيراني رافداً لمعلومات بيئية حول طراز الأبنية حيثُ يشارُ إلى تجربة المهندس المصري حسن فتحي الذي نجحَ في إرساء شكل مختلف للمعمار مو الشخصيات ونهوضها.
اللافت في هذه الرواية أنَّ شخصياتها لاتقبعُ في مربع أزماتها ولا تستسلم، فعادل عمُ زهيرة ينصرفُ إلى توظيف خبراته في المشروع بدلاً من الاستغراق في هموم انفصاله عن اليخاندرا، كذلك الأمر بالنسبة إلى مها التي تداوي جراحها بالحب.وما يزيدُ من سلاسة السرد وشفافية اللغة الاقتصاد من الصيغ الإسترجاعية إذ يتمُ تقديم نبذة عن شخصية الجدة وخلفيتها الثقافية وشغفها بالموسيقى الذي تورثه للحفيدة.
 ولا تتوغلُ الكاتبة في سرد المحن الناجمة من الصراعات والإقتتال والإبانة عن مظاهر الرثاثة السياسية إنما تتواردُ إشارات تذكر المتلقي بالأزمات المتفاقمة، فأحداث الرواية تجري في الأزمنة القادمة 2026 إذ تفقدُ الحكومات زمام المبادرة وتعمُ الفوضى في 2028..
 تتلخصُ الفكرة الأساسية في رواية "مشروع أوما" التي تطوف في أثيرها مباديء أبيقورية ورواقية بأنَّ المبادرات الفردية والخلاص الفردي يحققان خلاصا جماعيا بابتكار حلول للأزمات الحياتية تمنح الأمل بمستقبل أقلَّ قتامة، أما المشاريع السياسية فإنها لاتزيدُ الواقع إلا بؤساً وتقودُ المجتمع إلى الإنحطاط والتخلف.ولاتنتهي سلسلة الخيبات المتتالية قبل تعافي المواطن من عدوى الانتظار الذي يضخمُ ظاهرة اللاقيمية .
يبرز هنا دور الروايات الحديثة، إذ لم يعد الغرض من قراءة الرواية المتعة أو التسلية فحسب، بل التأمل واستنهاض الأفكار ومناقشة الأزمات البيئية والوبائية والمشكلات التي قد تداهم البشرية وما يمكنُ أن يكونَ عليه شكل التحديات في المستقبل كما رأينا في رواية "مشروع أومّا" التي قدمت نمطا من رواية بيئية برؤية مستقبلية تمزج بين التقاليد المعيشية الايجابية والمعارف الحديثة ، وهذا من سمات الروايات المعاصرة  العالمية التي تغيب غالبا عن معظم الروايات العربية،  ويمكن الإشارة في هذا  الصدد إلى بعض الإستثناءات كرواية "الطريق الرابع" للبنانية ناتالي الخوري غريب.