التخييل الموسيقي في رواية "الشتاء في ليشبونة"

الموسيقى قد تتحول إلى ثيمة أساسية في التناول الروائي، كما يبدو في رواية الكاتب الاسباني أنطونيو مونيوز مولينا. 
تصنيف الفن يستندُ إلى مستوى العلاقة ببعدي الزمان والمكان
نظرة صارمة من السخرية واللامبالاة لدى بيرالبو

تتباينُ أدوات التعبير في الحقول الفنية، كما أنَّ تصنيف الفن يستندُ إلى مستوى العلاقة ببعدي الزمان والمكان، فمن المعلوم أنَّ الموسيقى هي فن زمني بحت، كذلك الرواية تتطلبُ زمناً محدداً لقراءتها، لكن ذلك ليس مشتركاً وحيداً بين الفنين، إنما تنظيم المادة وتناغم عناصرها، هو ما يكسبُ كلا من الرواية والموسيقى قيمة وفرادة. طبعاً الموسيقى امتد تأثيرها إلى الفنون الأخرى، بل أنَّ الفنون بأشكالها المتنوعة تطمحُ إلى أن تكون حالة من حالات الموسيقى، على حد تعبير والتر باتر، لذا فمن الطبيعي أن تتفاعل الرواية مع التشكيلة الموسيقية على مستوى البنية والتركيبة. وقد تتحولُ موسيقى إلى ثيمة أساسية في التناول الروائي، كما يبدو ذلك بوضوح في رواية "الشتاء في ليشبونة" للكاتب الاسباني أنطونيو مونيوز مولينا. 
يدركُ المتلقي وجود التواصل القائم بين النص والموسيقى بمجرد أن يقع النظرُ على صورة الغلاف، وهي عبارة عن نوتة موسيقية، ومن ثمَّ يستعيدُ الراوي في مفتتح الرواية لحظة لقائه من جديد ببيرالبو في إحدى الحانات، مشيراً إلى من يرافقه وهما عازف كونترباص وعازف درامز. ومما يقوله يفهمُ بأنَّ الموسيقى التي نمت إلى سمعه قد ذكرته بصديقه لأنَّ ملامح بيرالبو لم تعدْ كما عرفها، كما أن الاسم أصبح مختلفاً فيدعى عازف البيانو جياكو دولفين. 
وما يلفت انتباه الراوي هو النظرة الصارمة من السخرية واللامبالاة لدى بيرالبو. وهذا ما يستشف منه مرور هذه الشخصية بأطوار مختلفة. وينقلُ الراوي فحوى الكلام المتبادل بينهما إذ يخبرُ عازف البيانو بأنَّ فلورو بلوم صاحب حانة الليدي بيرد قد عاد إلى قريته حيث تزوج امرأة قد أحبها وهو في الخامسة عشرة من عمره. ومن هنا تشرع درفات الرواية على شخصيات وقصص جديدة.

ليشبونة وطن يولد فيه الغرباء وتخرجُ من أعرافها المكانية، وتتحول إلى مشهد من الزمن، كما أنَّ الموسيقى تعزفُ لمجهول، قد يتخذُ شكل امرأة أو مدينة

التصاعد
بعكس النصوص الروائية التي تختزنُ صفحاتها الأولى نواة القصة الرئيسة، وما تكون الفقرات التالية سوى امتدادٍ لما يردُ في مستهلها. فإنَّ أنطونيو مونيوز يتدرجُ في الكشف عن شخصيات عمله ودورها في بناء الحدث. وبذلك ينحو السردُ في مفاصله الأساسية منحىً تصاعدياً وتتوزعُ المادة المروية على ما يقصهُ الراوي بنفسه وهو المشاركُ في القصة وما ينقلهُ عن عازف البيانو. هذا مع المقاطع الحوارية الخاطفة التي تقطعها تعليقات الراوي مثلما ترى ذلك في المفلوظات التي تعبرُ عن رأي سانتياغو بيرالبو بشأن الموسيقى وما يميزها عن الكتابة والرسم، فبرأيه من يكتبُ أو يرسمُ يراكم الماضي على أكتافه، بينما يغيبُ الماضي لدى الموسيقي حالما يتوقف عن العزف يبدأُ الفراغ. 
ويعقبُ الراوي على كلام بيرالبو بوصف شخصية الأخير عندما كان يعزفُ في الليدي بيرد فتعامله مع الموسيقى يضاهي تصرف رجل مغرم يستسلم لشغف يستبدُ به. والحال هذه تتوالى الإشارة إلى شخصيات جديدة ويلمحُ الراوي بأنَّه قد تواصل مع لوكريثيا، وسألته الأخيرة عن بيرالبو لافتاً إلى أن مظهرها كان مظهر من تنازل مرغماً عن كبرياء. وما يلبث أن يعودَ صوت بيرالبو قائلاً "تخلصتُ من ابتزاز السعادة". 
هنا يتدخلُ الراوي موضحاً هوية صاحب القولِ ناقلاً صورةً عن مستواه الشكلي. عليه يتحول الخطابُ نحو صيغة ذاتية إذ يشير الراوي إلى انتظاره لما قد يذكرهُ بيرالبو حول لوكريثيا وما يقولهُ عازف البيانو عن التخلص من السعادة والحب هو بمثابة إجابة ضمنية على ما يدورُ في ذهن الراوي. 
ينتهي الفصل الأول بتقديم نمط حياة بيرالبو، وهو يعيشُ بالموسيقى، ويعزف في الملاهي ببرشلونة ومدريد، مقيما بغران فيا وما يتلفظ به الراوي عن بيرالبو بأنَّ لديه القصة يثير التوقعات.
المدينة
الموسيقى هي محرك السرد والحلقة الواصلة بين وحدات الرواية، ما أنَّ يسمع الراوي أسطوانة لبيلى سوان عازف البوق الذي شاركه بيرالبو ببيانو سلس في إنجاز مقطوعتين يحيلُ عنوانهما إلى أسماء المدن “ليشبونة” و”بورما” حتى  يتساءل بماذا يشعر لو أحب امرأة باسم “بورما”، ومن ثمَ يلحق ببيرالبو في الفندق ويلتبسُ الأمر على الموظف عندما يستفسرُ  عن الموسيقي ذاكراً اسمه القديم. 
يريدُ المؤلفُ إضفاء التشويق والغموض، وذلك بالاعتماد على صيغ سردية متنوعة وتأسيسِ جزء من عالمه الروائي على بنية المدونة. يعهدُ ليبرالبو برزمة من الرسائل المطوية إلى صديقه. ولم يكتب على هذه الرسائل إلا حرف “ل” بخط أنثوي مائل، موضحاً بأنَّ مراسلته مع لوكريثيا قد استمرت لسنتين. يُذَكرُ ما يعيشهُ ليبرالبو من الوحدة والعبث الراويَ بأغنية ليشبونة هنا يتخذُ الخطاب صيغة حوارية، ويبادرُ الراوي بالسؤال من محدثه عما إذا زار ليشبونة ويأتي الجواب من الأخير بالتأكيد معقباً بأن المرء يصل إلى الأماكن عندما لا تعود تهمه. وحين يبدي بيرالبو استغرابه عما يعرفه الراوي عن لقائه بلوكريثيا في المدينة يقولُ بأنَّ المقطوعة الموسيقية أوحت إليه بذلك الاحتمال. 
يسترسلُ الراوي في استعادة تفاصيل لقائه المسبق بلوكريثيا والإبانة عن ملامحها  التي تنم عن مشاعر متناقضة. وما يكون التواصل بين الاثنين إلا عن طريق مالكولم المعروف بالأميركي، وهو سمسار التحف واللوحات الفنية ترافقه الذي زوجته إلى مدينة سباستيان، يتزامنُ ذلك مع ما يمر به الراوي من ضائقة مالية الأمر الذي يدفع به لبيع لوحاته بمالكولم مُقابل مبلغ لا يأخذ سوى أقل من نصفه.

novel
حياتها الحقيقية تنتظرها في مدينة أخرى

غير أنَّ القصص الفرعية والأحداث الجانية والشخصيات العالقة بأعطاف السرد لا تسحبُ الضوء مما يشكل محور الرواية، وهو قصة لوكريثيا وبيرالبو التي تبدأُ على إيقاع الموسيقى في الليدي بيرد تماهت نظرات الاثنين في أثير المكان.
مطاردة
بعد خمسة عشر يوماً على هذا اللقاء الموسيقي تغادرُ لوكريثيا برفقة زوجها إلى برلين وتعطي عنوانها لبيرالبو واعدةً إياه على المراسلة قبل ذلك قد طارد مالكولم العشيقين، ومن جانبه أدرك بيرالبو خطورة المبارزة مع الداهية المتورط في التهريب. يحاول بيرالبو نسيان الحب، ولكن مع قراءة الرسالة التي كتبتها لوكريثيا على خريطة ليشبونة ورؤيته لكلمة بورما وتأكيد لوكريثيا على عودتها للمدينة يتضاعفُ الغموضُ أكثر وتتغلفُ القصة بالألغاز عندما تظهر شخصية توسين مورتون الذي تعرف على لوكريثيا في برلين وأخبرته عن طبائع صديقها بيرالبو، ويتوددُ مورتون إلى الموسيقي فبنظره أن مالكولم ليس برجل مناسب للوكريثيا مادام عازف البيانو الذي بقي في إسبانيا على قيد الحياة. 
وعندما تعودُ لوكريثيا إلى سان سباستيان يخبرها بيرالبو بأنه قد عرف من خلال بيلى سوان بأنها تحمل مسدساً وصورة لسيزان، ومما يرشحُ من محتوياتِ الصفحات اللاحقة يتبين بأنَّ تلك الصورة هي ما تضعُ لوكريثيا على خط المواجهة مع كل من مالكولم ومورتون. 
يتحققُ حلم التجول بليشبونة، وهناك يشعر عازف البيانو بأنهُ أصبح غريبا عن ماضيه ومستقبله، لكن تتحول المدينة إلى حلبة للصراع تارة كما تصبح مسرحاً للموسيقى تارة أخرى، إذ يتورطُ بيرالبو في الجريمة عندما يقتل زوج عشيقته في القطار. قبل ذلك يتعرفُ على حانة بورما مستدرجاً أحد الندل للحديث عن تاريخ المكان وخصوصيته متقمصاً دور من يؤلف كتاباً بعنوان ”ليشبونة في الشتاء”. 
إذا كانت انطلاقة الرواية تبدو مُتثاقلة، فإنَّ تشابك الأحداث والتنقل بين المدن؛ سباستيان، برلين، باريس، جنيف، ليشبونة، يزخمُ الحركة. هذا إضافة إلى أنَّ اشتداد الصراع بين الشخصيات يشدُ المتلقي إلى مناخ العمل. 
تقومُ هذه الرواية على ثيمات المكان والمرأة والموسيقى، فليشبونة هي وطن يولد فيه الغرباء وتخرجُ من أعرافها المكانية، وتتحول إلى مشهد من الزمن، كما أنَّ الموسيقى تعزفُ لمجهول، قد يتخذُ شكل امرأة أو مدينة. منذ أن تناهت إلى مسمعها موسيقى بيرالبو عاشت لوكريثيا في عدم الطمأنينة بأن حياتها الحقيقية تنتظرها في مدينة أخرى بين أناس مجهولين. وهذا ما يمكن تسميته بالتخييل الموسيقي.