التسوية المطلوبة للأزمة الليبية

الأزمة الليبية مثال على تبديد الموارد الوطنية لصالح العنف والتشدد.

كشفت الأزمة الليبية عمق التناقضات في تصرفات بعض القوى الإقليمية والدولية. ففي الوقت الذي تزعم فيه السعي نحو البحث عن تسوية سياسية ناجحة، تقوم بضخ الدماء في الصراع من خلال مساعدة العصابات المسلحة بمزيد من المعدات والعناصر المتطرفة والمرتزقة لإطالة عمر الأزمة، والصمت على الانتهاكات والممارسات الخاطئة التي تقوم بها حكومة والوفاق ومجلس الدولة، ومن يقفون خلفهما من دول وتيارات تتحالف مع جماعات إرهابية عابرة للحدود.

عندما تدخل الجيش الوطني الليبي للقضاء على الميليشيات لحسم معركة طرابلس بهدف القضاء على الإرهابيين وفتح الطريق لتسوية حقيقية، انهالت عليه الانتقادات من قبل جهات مستفيدة من نشر التوترات والصراعات، وبدأت تضاعف من وتيرة الاعتماد على هؤلاء لفتح ثغرات جديدة في الجنوب وبعثرة الجهود الرامية للتوصل إلى حل عاجل يوقف الانفلات الراهن، ويعطل مسيرة التحركات التي تبذلها مصر في هذا الاتجاه.

نجحت عملية تحرير طرابلس في القضاء على جزء معتبر من المقومات المسلحة للميليشيات التي تعتمد عليها حكومة الوفاق، وتوجيه ضربات موجعة لغرف العمليات التركية ومراكز إطلاق الطائرات المسيرة في مصراتة وزوارة وطرابلس خلال الأيام الماضية، الأمر الذي جعل ما تبقى من قوات تابعة للحكومة وحلفائها المتشددين تسعى إلى البحث عن جيوب خلفية، أملا في تشتيت تركيز الجيش الوطني، وشغله بمعارك قد تخفف من وطأة الضغوط التي تتعرض لها الكتائب المسلحة، وتحسن الوضع السياسي للمتعاونين معها.

نكأ البيان المصري بشأن المطالبة بتسوية شاملة للأزمة الأسبوع الماضي، الكثير من الجراح السياسية والأمنية، وقدم مجموعة من الخطوط الواضحة التي يجب أن يستند عليها الحل العام، بدلا من الالتفافات التي تتبناها دوائر تزعم أنها تريد وقف الأزمة.

وتكمن أهمية الخطاب المصري في وضعه النقاط على الحروف بشأن الأجسام غير الشرعية التي انخرطت في التنسيق المستمر مع تنظيمات متشددة وكتائب تمارس الإرهاب كوسيلة لحصد مكاسب سياسية ومادية وعقائدية، وشدد على الدور الحيوي الذي يلعبه مجلس النواب الليبي، باعتباره الكيان الدستوري الوحيد، والمرجح أن يلعب دورا محوريا الفترة المقبلة.

حركت الخطوة الكثير من المياه على أكثر من مستوى. وبدأت بعض القوى الدولية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وروسيا، تتحدث عن الحاجة الملحة إلى حل سياسي عميق للأزمة، وأهمية وسرعة التصدي للجماعات المتطرفة وقطع جذور الإرهاب في ليبيا، ووقف الفوضى عبر خطة تضع كل طرف أمام مسئوليته القانونية. وهو ما أزعج قوى جنت أرباحا متعددة من وراء الانفلات الحالي، ودفعها إلى التركيز على جوانب فرعية للتشويش على بيان الخارجية المصرية، بعد أن لقي أصداء إيجابية داخل ليبيا وخارجها.

جاء الترحيب من رحم مناقشته للأزمة على صورتها الحقيقية، من دون تشنج أو مزايدات أو شعارات فضفاضة تتحكم في تصرفات آخرين، بدأوا يعتمدون عليها في بياناتهم وتصريحاتهم ومبادراتهم للتغطية على توجهاتهم السلبية أو تبرير تقاعسهم عن المساعدة السياسية، وهي في مجملها تؤكد غضب الليبيين من المتاجرة بأزمتهم، لأن روافدها كبدتهم خسائر باهظة، ومكنت قوى إرهابية معروفة من التمركز في بلادهم.

جاءت مخاوف البعض من التداعيات التي أحدثها البيان المصري، لأنه لامس مجموعة من القضايا الجوهرية وملفات تم السكوت عنها كثيرا، وتجاوز حدود المكاشفة والصراحة المعهودة، لذلك أقلق قوى سياسية بعينها تتخوف من توسيع نطاق الحديث عن فقدانها الشرعية، والتلويح بخطورة الأدوار التي تقوم بها خارج اختصاصاتها. كما أن التوقيت تزامن مع انهاك هذه القوى وفقدانها القدرة على التواصل مع دول وشخصيات أممية كانت قريبة منها، وتخشى الآن التوافق معها أو الالتصاق بها، لأن الرؤية المناهضة للمتطرفين والإرهابيين تكسب كل يوم أرضا سياسية تحرج الرافضين لتعميمها في ليبيا وغيرها.

اهتزت أعصاب جماعة الإخوان التي تسيطر على مجلس الدولة وتملك زمام الكثير من الأمور في حكومة الوفاق برئاسة فايز السراج، بعد أن حددت مصر الثوابت الأساسية للحل، واقتربت من النقاط التي بدت محرمة في وقت سابق، وفتحت الباب لحديث كبير ومهم حول طرح الضوابط المطلوبة في أي اتفاق سياسي يتم التوصل إليه مستقبلا لتضييق الخناق على من أدمنوا القبول بالعملية السياسية ثم التنصل من الالتزامات أو تطبيقها بالطريقة التي تضمن الوصول إلى أهدافهم الخفية.

أرسلت مصر إشارات قوية لوقف عمليات النهب للموارد الليبية والتوزيع غير العادل للثروة والتحذير من غياب الشفافية في عمليات الإنفاق، خاصة من قبل المصرف المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط. وهو حديث يلقى قبولا في عقل غالبية المواطنين الذين تضرروا من الممارسات غير المنصفة، وتأكدوا أنه يتم اقتطاع جزء كبير من عائدات الموارد الطبيعية لتمويل جماعات متطرفة وتنظيمات إرهابية والإسراف في جلب مرتزقة، ودفع ثمن أسلحة ومعدات قادمة من تركيا أو بمعرفتها، من جيب المواطن الليبي الذي يعاني الآن للحصول على مستلزماته الحياتية، بينما يرى قيادات في الحكومة تراكمت أموالهم وتضخمت جيوبهم، وحركات خارجة على القانون تتحكم في ثروات البلاد والعباد.

تكمن مشكلة التركيز على هذا الطرح بالنسبة للإخوان في أنه يجبر بعض الأطراف على التدخل لوقف النزيف المستمر منذ سنوات للثروات، ويفضح الدور الذي لعبته قيادات الجماعة التي حصلت على نصيب كبير منها، عبر صفقات غير مشروعة وعمليات سمسرة وتمويل إرهابيين وعصابات مسلحة وشخصيات سياسية تستخدمهم لتحقيق أغراضها في السيطرة على مفاصل الدولة. علاوة على تهريب جزء كبير منها إلى الخارج لتمويل عمليات قذرة ترعاها قيادات ليبية إخوانية تقيم في كل من تركيا وقطر.

لقد حان الوقت لوقف الخطوات التي يقوم بها هؤلاء، وتسليط الضوء على التحركات الغامضة التي يلجأون إليها للنفخ في الأزمة وإطالة أمدها، والعمل سريعا على فرملة المحاولات الحثيثة لزيادة مساحة التصعيد وخلط الأوراق. فأي عملية متكاملة للتسوية سوف تكنس في طريقها القيادات والكيانات السياسية التي تورطت في تغذية الاقتتال، ما يفسر الغضب العارم الذي انتاب القوى المؤدجلة ليقينها أنها ستكون أول الجهات التي يجرفها التيار المؤيد للتسوية الشاملة الذي تتنامى أجنحته المحلية والإقليمية والدولية.