التضليل الفكري حتى في العلم

التمسك بالشكل دون الجوهر هو أسلوب حياة العرب بشكل عام.

طالب يبحث في تأثير النباتات على تنقية الجو في الأماكن المغلقة في رسالة ماجستير، وقد اتبع منهجية علمية سليمة لمعرفة ها التأثير وقياسه. مستخدما معايير إدارة الصحة والسلامة المهنية العالمية OSHA وقام بإجراء تجربة لهذا الغرض. وكانت التجربة عبارة عن قياس درجة نقاء الهواء في الغرفة الصفية قبل وضع النباتات وبعده لمعرفة درجة الحرارة والرطوبة وكمية ثاني أكسيد الكربون والهباء المنتشر في الجو. فكانت القياسات متطابقة أي أن النباتات لم تنق جو الغرفة أبدا. فقام الطالب بزيادة عدد الأصص في الغرفة، ولم تحدث أي فرق، ثم قام بتغيير نوع النباتات وأعاد القياس، ولم يجد أي فرق. والجزء الثاني من الدراسة كان إجراء استبيان على الطلاب لمعرفة ما إذا كانوا يشعرون بالحر أو البراد وإذا ما كانوا يعرقون أو إذا كانت أعينهم فيها حكة أو احمرار وإذا ما كانوا يسعلون وإذا ما شعروا بتحسن للمزاج بعد وضع النباتات، فجاءت الإجابات جميعها سلبية، أي أن الطلاب لم يشعروا بالفرق. ومع شعوره بالإحباط الشديد، قام الطالب بتزوير القياسات لكي يثبت في رسالته أن وجود النباتات في الغرف الصفية ينقي الجو ويعزز التعلم ويحسن مزاج الطلاب وفقا للنظرية التي استند إليها في دراسته. وقال لي "معظم الطلاب يفعلون هذا"، ثم أردف "أريدك فقط أن تراجعي الرسالة من الناحية اللغوية." قلت "حاضر."

بدأت العمل على تدقيق الرسالة لكن فكري شرد بعيدا، الى ما بعد الرسالة ووراء المؤسسات التعليمية والمؤسسات المجتمعية جميعها. فنحن في المجتمعات العربية لا نقول الحقيقة في كل ما نواجهه في حياتنا، ونلجأ الى المراوغة والتضليل، ونريد المصلحة الشخصية على حساب المصلحة العامة، وهذا الطالب لا يلام، فهو يريد أن يسير مع التيار ويتخرج بدرجة الماجستير في العلوم البيئية، ويحصل على وظيفة جيدة، والدكتور الذي أشرف على رسالته يريد أن تكون رسالته دقيقة من حيث الشكل والخطوات، بصرف النظر عن الجوهر، وكل ما يعنيه بالأمر هو التمسك بالشكل الذي يجب أن تكون عليه الرسالة، ثم يتخرج الطالب ويستلم الدكتور أتعابه على الإشراف، و "يا دار ما دخلك شر". هما لا يريدان أن يدخلا في مشاكل وتعقيدات، وكل ما في الأمر هو اتباع خطوات البحث العلمي، وتطبيق النظرية التي تقول أن النباتات في الغرفة الصفية لها تأثير ايجابي على الطلاب، وقد قاما بواجبهما.

لكن التمسك بالشكل دون الجوهر هو أسلوب حياة العرب بشكل عام، ولا يقتصر ذلك على الرسائل الجامعية، فكل أفعالنا تهدف الى السير بموجب القواعد والأسس المتعارف عليها حتى وإن كانت ليست منطقية، ويرددون دوما "الحيط الحيط  ويا رب الستر"، يا لهذا الستر والهدوء الذي دمرنا! ولسان حالهم يقول "افعل ما بدا لك شريطة ألا يعرف أحد."

ألم يكن بمقدور المشرف على رسالة الطالب أن يوعز له بأن يبحث في العوامل التي جعلت النباتات لا تحدث فرقا في درجة نقاء الجو وعدم تأثيرها على الطلاب. كان يمكن للبحث أن تكون له قيمة علمية أكبر عندما يشرح الطالب أن النباتات لم تحدث فرقا لأسباب معينة كالتوصل الى عدد النباتات اللازم لإحداث الفرق أو تأثير البيئة الخارجية على الأماكن المغلقة والأسباب الأخرى التي يتوصل الطالب لها. لكن هذا الأمر فيه مخاطرة وهي أن لجنة المناقشة قد تقلل من القيمة العلمية للرسالة وربما يرسب الطالب كما أن العمل يحتاج الى شغل إضافي، ولماذا كل هذا التعب؟ فالطالب ربما لن يجني ثمار تعبه ويحصل على الوظيفة التي تناسبه، كما أن كشف الأسباب الحقيقية لن يجعل أحدا من صناع القرار أن يفعل شيئا للاستفادة من النتائج التي توصل اليها الطالب.

هذا الأمر هو صورة مصغرة عن الثقافة العربية فالمجتمع العربي يعتاش على التضليل الفكري، ويفعل كل شيء دون اقتناع، ورغم التحفيز المستمر والدعوة الى التفكير "خارج الصندوق" إلا أن من يصدق هذا الأمر ويفكر خارج الصندوق سوف يفشل، ويعاني وربما يتم إقصاؤه ويخسر جراء التفكير خارج الصندوق، أليس لدينا مثل عربي يقول "حط راسك بين الروس وقول يا قطاع الروس." والأمثال الشعبية تعكس الثقافة الشعبية أكثر من الكتب والقوانين والأنظمة والأخلاق المتعارف عليها كالصدق والأمانة، وهي تغذي الانسان منذ مولده بالسلبية والتقاعس والحرص على المصلحة الشخصية بصرف النظر عن المصلحة العامة، وهذا هو السر في التخلف الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي.