التكنوقراط وجورج بهجوري!

كل المعطيات تشير إلى السنوات الأربع القادمة في العراق لن تختلف عن سابقاتها.

بعد رحيل الرئيس الجزائري هواري بومدين نهاية العام 1978، نشرت مجلة "الوطن العربي"، رسما كاريكاتيريا، للرسام الشهير جورج بهجوري، يعكس حيرة الجزائريين في اختيار خليفة له. ظهر في الرسم مواطن جزائري وامامه مجموعة من الزعماء الجزائريين يجلسون على طاولة كبيرة، وبدوا جميعا يشبهون الرئيس الراحل بومدين. ومن هنا جاءت حيرة المواطن الجزائري، الذي كان عليه ان يفاضل بينهم ويختار واحدا منهم!

من الامور التي استهلكها الاعلام العراقي، كثرة المتحدثين، من مثقفين ومسؤولين ومواطنين عاديين، عن ضرورة ان يكون المسؤول من اصحاب الاختصاص، او ما يسمى التكنوقراط. وهذا الكلام دقيق ولا غبار عليه. لكن الذي يحصل هو انه حتى في حال تسلم المسؤول (التكنوقراط) مسؤولية في وزارة او دائرة ما، يبقى الخلل قائما وتزيد العلل فيها، الاّ نادرا. اذن اين المشكلة؟ نحن نرى ان المشكلة تكمن في الدولة الغائبة، التي لن تحضر الاّ باكتمال وتكامل مؤسساتها، وبقوة القانون وقدرة الحكومة على انفاذه وفرضه على الجميع، وهو ما لم يتحقق حتى الان.

اكثر من مسؤول كبير تحدث عن ملفات فساد بحق مسؤولين من مختلف الاختصاصات، وعرض وثائق تدينهم ومن خلال وسائل الاعلام! لكن احدا من هؤلاء لم يقدم الى العدالة، ولم يعرف الشعب مصير الاموال المسروقة والمهدورة. والسبب هو غياب التكامل المؤسسي الذي ينتج الدولة ويحميها مثلما يحمي الشعب الذي يفترض انه انتجها من قبل. وقد تسبب هذا الغياب باستسهال التجرؤ على المال العام واهداره. وهكذا بتنا في مازق مركّب، يصعب تجاوزه بطريقة تقليدية. اذ كيف نبني جهاز دولة قويا، اذا كانت مادته من الاحزاب والقوى السياسية التي حكمت البلاد منذ نحو خمسة عشر عاما، واغلبها متهم بالفساد او من الساكتين عليه؟

اليوم، يجري الحديث عن ضرورة اختيار اناس اكفاء، او تكنوقراط، للحكومة الجديدة. وتماشيا مع هذا الطرح، تسعى القوى الفائزة جميعا، الى تقديم شخصيات من التكنوقراط الحزبي، أي من التابعين لها. وعلى رئيس الحكومة المكلف ان يختار واحدا من خمسة شخصيات يقدمها الحزب او الكتلة للمنصب، ما يعني اننا عدنا لحكاية الجزائري الذي تخيله بهجوري، حائرا، وهو يختار رئيسا للجمهورية من بين مجموعة متشابهين، مع الفارق طبعا.

اغلب المتابعين يرون ان تغييرا جوهريا لم يحصل. فالاختصاص وحده لا يعصم صاحبه من الفساد، ان اراد ذلك او اراد منه حزبه، وهو ما كان يحصل من قبل، وسيبقى مستمرا، ان بقيت المواقع والادوات الحامية للدولة، والتي يمكن بواسطتها تنفيذ القانون، بايدي الاحزاب وغير بعيدة عن تأثيرها المباشر. وهو ما ينبغي تفاديه الان، وجعلها في يد مستقلين يختارهم رئيس الوزراء، لكي يحمي المال العام ويحاسب الفاسدين. فالبلاد زاخرة بالطاقات الوطنية الكفوءة التي يمكن الاعتماد عليها في تصحيح الوضع ورد الحيف الذي لحق بالدولة والشعب معا.  

من هنا، نرى ان مسالة نجاح الحكومة القادمة من عدمه، يرتبط بشكل مباشر بجعل المؤسسات الرقابية والاذرع القوية للدولة بعيدة عن هيمنة الاحزاب، ليشعر المسؤول انه بات يعمل تحت عين القانون، الذي يستطيع رئيس الوزراء انفاذه بحقه في حال ارتكابه مخالفة ما، لا ان يلوح بها ضده امام الاعلام من دون ان يتخذ موقفا بحقه، حتى اتسعت شبكة الفساد وتغولت على حساب مصالح الشعب وهيبة الدولة.

هل يتحقق ما تريده الناس من هذه الحكومة، لتبدا عجلة الدولة الحقيقية بالدوران؟ هذا غير مستحيل. لكن من الصعب تحقيق ذلك في ضوء تشبث الكتل بحصصها من الوزارات والدرجات الخاصة، ما يعني في حال نجاحها في فرض رؤيتها، اننا امام اربع سنوات قادمة شبيهة باخواتها.