التلفزيونات تبلع الفن وتحصد أموال الإعلانات

نسبة لا يستهان بها من التلفزيونات العربية فشلت في صناعة أفكار جديدة وانحدرت باتجاه الثقافة الضحلة واللعب على الغرائز واستغلال الضعف الإنساني والاستقواء عليه في برامج لا تقدم أي فائدة.
لم تعد مجموعة من التلفزيونات مهتمة بتصنيفها ضمن الثقافة العالية عندما يتعلق الأمر بتقديم المزيد من الخدمات الإعلامية

لأن التلفزيون يمكن تصنيفه وفق الفلسفة الإعلامية ضمن الثقافة العالية عندما يكون مصدرا للحساسية العالية في تقديم برامج تُنمي وعي المشاهد وتتجول عدساته في أروقة الماضي والحاضر من أجل المعرفة، بيد أنه عادة ما يقبع في خانة الثقافة الواطئة عندما ينقاد إلى السطحية وعروض الكلام والإغراء التي تبدأ وتنتهي بالتهريج والإسفاف والضحك بلا سبب!

لم تعد مجموعة من التلفزيونات في عصر التلفزيون بامتياز وسيلة للارتقاء بالوعي، بل صار بعضها أداة للإزعاج والتجهيل والتكرار والإيغال بالسطحية، عندما تتنازل عن القيم التلفزيونية التي وجد من أجلها وتخضع للثقافة السائدة، والفاسدة غالبا.

ولم تعد مجموعة من التلفزيونات مهتمة بتصنيفها ضمن الثقافة العالية عندما يتعلق الأمر بتقديم المزيد من الخدمات الإعلامية مدفوعة الأجر لاستقطاب الأموال وتقديم الخدمات السياسية، وصناعة برامج تحاكي الغرائز أكثر من التحفيز على الدهشة وتقديم المعلومة وفتح أروقة التاريخ عبر عدسة ذكية بأفكار جديدة.

صحيح أن المشاهد أمام خيار الانتقاء من أجل المحافظة على ذائقته، لكننا أمام حزمة خطيرة من التدفق التلفزيوني لاختراق العقول والتجهيل بغية الحصول على المزيد من الأموال عبر الإعلان.

الإعلان صناعة يصعب فهمها، حسب جون جابير الكاتب في صحيفة فايننشال تايمز، لأن “القصة تدور حول أعمال عالمية تراوح قيمتها ما بين 1 إلى 2 تريليون دولار سنويا عادة، لكن لا أحد يعرف حقيقة مقدار الأموال التي تدور في هذه الصناعة وحيث الشخصيات لا تزال مهمة لكن الفن يتم ابتلاعه الآن من قبل البيانات”.

في العالم العربي، هناك تلفزيون سياسي مدفوع الثمن يعمل بجد لتقديم الخدمات للسياسيين ورجال الدين، وهناك تلفزيون الحكومات الذي يدين بالولاء لخطوطها الحمر وعليه ألا يحيد عنها.

لكن نسبة لا يستهان بها من التلفزيونات العربية فشلت في صناعة أفكار جديدة وانحدرت باتجاه الثقافة الضحلة واللعب على الغرائز واستغلال الضعف الإنساني والاستقواء عليه في برامج غير جذابة لا تقدم أي فائدة، وفاقدة للتسلية في الوقت نفسه.

لدينا مثال على درجة من الأهمية في عالم التلفزيون في العالم متمثل في هيئة الإذاعة البريطانية “بي.بي.سي” هذه القنوات ممولة من قبل مشاهديها وفق ضريبة سنوية يدفعها كل منزل بريطاني يوجد فيه جهاز تلفزيون، مقابل أن تتعهد القناة بتقديم الفائدة لهذا الجمهور الذي يمتلك الحق في محاسبتها على برامجها.

لكن مثل هذا الحق غير متاح لأي من مشاهدي التلفزيونات في نسبة كبيرة من دول العالم الأخرى.

قبل سنوات ارتكبت قناة تلفزيونية في صربيا حماقة نادرة، لكنها تتكرر اليوم في العشرات من التلفزيونات بطريقة أو بأخرى، عندما تعمدت محاورة رئيس الوزراء آنذاك إيفيتسا داتيشتش مع مذيعة لم تكن ترتدي ملابس داخلية!

كان الهدف اللامسؤول يتلخص بالحصول على 1.7 مليون مشاهدة على يوتيوب خلال 48 ساعة لبرنامجها “المهمة المستحيلة”.

لم يفقد رئيس الوزراء رباطة جأشه أمام المذيعة التي قامت عارضة تعري بدورها، ووصف الواقعة بأنها سخرية من صربيا وليس من رئيس الوزراء الصربي. وقال إن “الصحافيين استغلوا الثقة التي يمنحها رئيس الوزراء لهم”.

مثل تلك “المهمة المستحيلة” في التلفزيون الصربي تحوّلت إلى مهمة وضيعة في القناة الحكومية العراقية عندما دخل مذيع في رهان مالي مع آخر يعبر عن استعداده بنطق كلمة قبيحة على الهواء مباشرة! وبالفعل ربح الرهان وسمع الجمهور البذاءة في أوجها، من دون أن يحاسبه أحد، بل إن الرثاثة السياسية القائمة والمتصاعدة في العراق رفعته ليكون عضوا في مجلس النواب اليوم.

المثالان السابقان ليسا الأكثر خطرا في التلفزيونات عندما يصل الأمر إلى الاستقواء على الوهن الإنساني ونشر الغسيل القذر في نمط برامج مهمتها الإثارة وعدم المبالاة بوقع الصدمة على المشاهدين لاستقطاب المزيد من الجمهور والإعلانات، من دون الاهتمام بالخطر الجسدي والنفسي المترتب على ذلك.

هذا الأسبوع انتحر أحد ضيوف برنامج في قناة “آي.تي.في” البريطانية تحت وقع مناقشة النزاعات الشخصية ومشاكل العلاقة الأسرية أمام جمهور داخل الأستوديو، مما فاقم الأسئلة الحرجة بشأن تأثير تلفزيون الواقع على الأشخاص الذين يشاركون فيه.

وتعهدت إدارة القناة البريطانية بعدم بث الحلقة المسجلة التي انتحر المشارك فيها بعد فشله في اختبار كشف الكذب لإثبات أنه كان مخلصا في حبه لصديقته، بالإضافة إلى إزالة جميع الحلقات السابقة من برنامج “جيريمي كايل شو” المعني بكشف الخلافات الشخصية بين الأزواج والأشقاء والأصدقاء عبر استفزازهم بالكلام وإقحام الجمهور بتفاصيل شخصية غالبا ما تكون مثيرة للتعاطف أو الازدراء.

لم يعد كافيا البيان الذي أصدرته إدارة القناة البريطانية بشأن شعورها بالصدمة والتعاطف مع أسرة المتوفى وأصدقائه، بل يتعلق الأمر الآن بالحساسية العالية والمسؤولية الأخلاقية التي باتت في تراجع مستمر في القنوات التلفزيونية.

اهتمام برنامج “جيريمي كايل شو” بالمشاجرات داخل العائلات المتناحرة عبر النقاش الغاضب بين أفراد أسرة واحدة أمام الجمهور والتلفظ بكلمات نابية، جعل أحد المعلقين يصفه بـ”صراع الدببة على الطعام في الغابة”، هكذا تطمح التلفزيونات في عصرها الذهبي إلى أن تسلط عدساتها على غابة سياسية واجتماعية بطلها الوهن الكامن في الإنسان!

لا تريد هذه التلفزيونات أن تشعر بمرضها، وتتمادى في نقل الفيروس بين الجمهور، وعندما يتحول المرض إلى وباء ستكون هي أولى ضحاياه، فهناك قِدر ضغط كامن في عمق المجتمعات، التلفزيون يحرض بشكل دائم على رفع درجة انفجاره.

من المفيد أن أعيد تساؤلا سابقا: هل يجب أن نقلق بشأن مستقبل التلفزيون العربي؟ نعم، فالأرقام تشير إلى أن العرب يشاهدون التلفزيون بمعدل خمس ساعات يوميا، مقابل ثلاثين دقيقة لموقع يوتيوب. الأخطر من كل ذلك أن الجمهور العربي يشاهد التلفزيون بغريزته وليس بوعيه!