التوافق النثروشعري في نص "أصبحتَ إيقاعَ شغفٍ"

النثروشعرية حاضرة في نص غادة علوه من خلال اللغة، وما بين القرب والتوصيل والعذوبة المحببة بعدما صاغها خيال الشاعرة برمزية موغلة بالإيحاء وجمالية التعبير. 
السرديّة التعبيريّة منحت كتّابها الحرية الواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والانطلاق نحو المستقبل
طغيان النَفَس الأنثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة

بقلم: كريم عبدالله

يقول هيجل: الشعر هو الفن المطلق للعقل، الذي أصبح حرّاً في طبيعته، والذي لا يكون مقيّداً في أن يجد تحققه في المادة الحسيّة الخارجية، ولكنه يتغرّب بشكل تام في المكان الباطني والزمان الباطني للأفكار والمشاعر .
مما لاشكّ فيه أنّ الموهبة قد تموت وتنتهي بالتدريج إذا لم يستطيع الشاعر تطويرها واستثمارها أقصى إستثمار عن طريق الاطلاع على تجارب الآخرين والاستفادة منها والاتكاء على المخزون المعرفي لديه، وتسخير الخيال الخصب في إنتاج وكتابة كتابات متميّزة ومتفرّدة تحمل بصمته الخاصة التي عن طريقها يُعرف ويُستدلّ بها على إبداعه، وقد تموت أيضا إذا لم تجد التربة الصالحة والمناخ الملائم لإنضاجها، وقد تنتهي حينما لمْ تجد مَنْ يحنو على بذورها التي تبذرها ويعتني بها ويُسقيها من الينابيع الصافية والنقيّة. 
ولم تعد قوالب الشعر الجاهزة ترضي غرور شعراء السرد التعبيري لذا حاولوا ونجحوا في الانفلات من هذه القوالب ومن هيمنتها ولو بشكل محدود في الوقت الحاضر. وتجلّى هذا من خلال طرق كتابة النصّ والموضوعات التي يتطرق إليها، وترسخت فكرة التجديد لديهم وخطّوا لهم طريقا مغايرا في كتاباتهم، وصاروا يواصلون الكتابة ويأخذون منحى آخر لهم بعيدا عما هو سائد الآن في كتابة قصيدة النثر، صارت القصيدة أكثر حرّية وانفتاحا على التجارب العالمية.
لقد منحت السرديّة التعبيريّة لكتّابها الحرية الواسعة والفضاء النقيّ الشاسع والانطلاق نحو المستقبل خاصة حينما يكون التعبير أكثر شبابا وصدقا عن المشاعر الحقيقية المنبعثة من القلب الصافي كالينبوع العذب، فلقد أحسّ الشاعر بمهمته الصعبة في الكتابة بهذا الشكل الجديد والمختلف والذي نؤمن به وبقوّة، فنحن نؤمن وعلى يقين بأنّ القصيدة السردية التعبيريّة هي قصيدة المستقبل لقدرتها على الصمود والتطوّر المستمر نتيجة التجربة الطويلة والتراكم الإبداعي، بروعة ما تقدّمه وتطرحه على الساحة الشعرية.

جمالية الصوت نتلمسها من خلال الزخم الشعوري المنبعث من داخل النصّ، فكان صوتا حرّا يبعث الهدوء والسكينة في النفس ويتغلغل فيها وهذا ما تسعى إليه السردية التعبيرية

ونتحدث اليوم عن صوت المرأة الشاعرة في السرديّة التعبيرية ونختار بعض القصائد كي نشير إلى مستوى الابداع وكميّة الشعرية فيها، ونستنشق عبير هذه القصائد النموذجية .
إنّ حضور الصوت النسائي في السرديّة التعبيرية له تاريخه المشرق وحضوره البهيّ، فمنذ تاسيس موقع "السرد التعبيريّ" كان حضور المرأة الشاعرة متميّزا ينثر عطر الجمال ويضيف ألقاً وعذوبة في هذا الموقع الفريد والمتميّز، وقدّمت قصائد رائعة جدا تناولها الدكتور أنور غني الموسوي بالقراءات الكثيرة والإشادة بها دائما، وتوالت فيما بعد الاضاءات والقراءة النقدية لهذه التجارب المتميّزة من قبل بعض النقاد ومن بعض شعرائها. فأصبحت هذه القصائد نوعية مليئة بالإبداع الحقيقي وبروعة ما تطرحه من أفكار ورؤى ومفعمة بالحياة وروح السرديّة التعبيريّة وخطّتْ لها طريقاً تهتدي به الأخريات ممن عشقن السرد التعبيري وحافظن على هيبته وشكله وروحه والدفاع عنه. 
لقد أضافت الشاعرة إلى جمالية السرديّة التعبيريّة جمالا آخر وزخما حضورياً وبعثت روح التنافس وحرّكت عجلة الإبداع فكانت بحق آيقونة رائعة. القصائد التي كتبتها المرأة في السرد التعبيري كانت معبّرة بصدق عن اللواعج والآلام والفرح والشقاء والحرمان والسعادة، بثّت فيها شجونها وخلجات ما انتاب فؤادها، ولقد أزاحت عن كاهلها ثقل الهموم وسطوة اللوعة، ولقد جسّدت في قصائدها آلامها ومعاناتها في بناء جملي متدفق، منحت المتلقي دهشة عظيمة وروّت ذائقته وحرّكت الإحساس لديه. كانت وستظلّ زاخرة بالمشاعر والأحاسيس العذبة ومتوهّجة بفيض من الحنان، نتيجة إلى طبيعتها الفسيولوجية والسيكولوجية كونها شديدة التأثر وتمتاز برقّة روحها فانعكس هذا على مفرداتها وعلى الجو العام لقصائدها، فصارت المفردة تمتلك شخصية ورقّة وعذوبة وممتلئة بالخيال وبجرسها الهامس وتأثيرها في نفس المتلقي، فكانت هذه القصائد تمتاز بالصفاء والعمق والرمزية المحببة والخيال الخصب والمجازات ومبتعدة جدا عن المباشرة والسطحية، كانت عبارة عن تشظّي وتفجير واستنهاض ما في اللغة من سطوة، كل هذا استخدمته بطريقة تدعو للوقوف عندها والتأمل وإعادة قراءتها لأكثر من مرّة لتعبر عن واقعها المأزوم وعن همومها وهموم النساء في كل مكان. فرغم مشاغلها الحياتية والتزاماتها الكثيرة استطاعت الشاعرة ان تخطّ لها طريقا واضحا وتتحدّى كل الصعاب وترسم لها هويّة واضحة الملامح، فلقد بذرت بذورها في أرض السرد التعبيري ونضجت هذه البذور حتى أصبحت شجرة مثمرة. 
لقد وجدنا في النصوص المنتخبة طغيان النَفَس الأنثوي واحتلاله مساحة واسعة فيها معطّرة برائحتها العبقة واللمسات الحانية والصدق والنشوة، فكانت ممتعة جدا وجعلت من المتلقي يقف عندها طويلا منتشيا، وحققت المصالحة ما بين الشاعرة والمتلقي وهذا ما تهدف اليه الكتابة الابداعية .
التوافق النثروشعري
مادام الشعر يعتبر مفهوما قابلا للتطور والتغيير، ظلّت القصيدة تتطور عبر مراحل تاريخية، وكان التجديد ضرورة أسياسية لجأ اليها الشاعر ليعبّر عن الهمّ الإنساني في هذا العصر، وظلّ يبحث عن حرّية تمنحها له القصيدة كي يتنفس هواء التغيير والتجديد، مناخا يلائم تطلّعاته ويشبع غروره اللامحدود، فبعد الانفتاح الهائل على التجارب العالمية وعلى ثقافات الأمم الأخرى، ظهرت حركات التجديد والتمرّد في الشعر العربي. 
إنّ مفهوم التجديد اليوم لم ينحصر داخل محاولات إيجاد أبحر جديدة ولا التلاعب بالتفعيلة والأوزان، ولا ضد فلسفة الغنائية في القصيدة ولا حتى عن مفهوم الصورة الشعرية، إنما كان التمرّد على كل التجارب الماضية وما وصلت إليه القصيدة. فظهرت لنا اليوم القصيدة السردية التعبيرية والتي نؤمن بأنّها ستكون قصيدة الستقبل. 
القصيدة السردية التعبيرية ليس القصد منها السرد الحكائي والوصف وبناء الحدث، وإنما القصد الإيحاء ونقل الإحساس وتعمّد الإبهار ، فتتجلّى عوالم الشعور والإحساس، فيكون السرد موظفا لأجل تعظيم طاقات اللغة التعبيرية، فكأنّ النصّ يريد الحكاية وسرد حادثة معينة، وتبرز لدينا الشخصيات والحدث النصّي، لكن في النهاية تتجه جميعها نحو بوح شعري، فلا نجد السرد الحكائي (القصصي)، وإنما تعبير عميق وشاعرية هي غاية الكتابة برمزية وإيحاء وبوح شعري.
إنّ ما نقصده من التوافق النثروشعري هي حالة التوافق ما بين الشعر والنثر، حيث يتحقق الشعر الكامل في النثر الكامل وهذا ما تمتاز به السردية التعبيرية عكس الشعر الصوري، فكلما زادت الشعرية في النصّ قلّت وبشكل واضح النثرية، لذا نجد حالة التوافق واضحة ما بين الشعر والنثر ومتناسبة تناسبا طرديا وممكن تحقيقها وهذا ما نجده في النصّز 
ومن أوضح الأساليب التي تحقق حالة التوافق النثروشعري هي اللغة التي تتموّج بين القرب والتوصيل وبين الرمز والإيحاء وبين التجلّي والتعبير / وقعنة الخيال / أي إظهار الخيال بلباس واقعي، مما يعطي النصّ عذوبة وقربا وألفة، ويزيل عنه أي حالة جفاء أو جفاف أو اغتراب يطرأ عليه بفعل الرمزية والإيحائية. 

التعبيرية السردية
من قال إنّكَ حزن عقيم؟

نجد في عنوان نصّ الشاعرة د. غادة علوه "أصبحتَ إيقاعَ شغفٍ" هذه النثروشعرية حاضرة من خلال اللغة – ما بين القرب والتوصيل والعذوبة المحببة بعدما صاغها خيال الشاعرة بهذه الرمزية الموغلة بالإيحاء وجمالية التعبير. 
إنّ لغة النصّ لم تعد لغة جامدة وإنما تجاوزت الأنماط والقوالب القديمة، وأصبحت لغة حرّة منفلتة متشظّية غامضة ساحرة لا تعترف بالقيود هاربة منها، لغة مراوغة كلّما تقترب من الواقع تعود ترتفع وتسمو وتحاول تهزّ وجدان المتلقي بغرابتها. 
نجد هنا الزخم الشعوري مترافقا مع اللغة الجديدة وإمكانياتها المفتوحة على فضاءات شاسعة كما في هذا المقطع: "تسكنني نظراتكَ الواعدة بانجلاء الليل".
ونجد أيضا مقدارا كبيرا من الشعرية ينبعث من داخل هذا النسيج الشعري المتلاحم والمتراص بطريقة رائعة كما في هذا المقطع: "يتدفق في داخلي كوثر لهفتها دافئاً". يبدو أنّ لغة الشاعرة حالة انفلات لطاقات مختزنة في أعماق النفس استطاعت شحنها بطاقات إضافية فأخرجتها عن النمطية الركيكة في اللغة وأدخلتها في سلسلة علاقات لغوية مثيرة ومستفزّة وغريبة لدى المتلقي كما في هذا العنقود اللغوي المثير: "يئد شهقات الصمت، ينتبذ جذور جسدي، يستبيح نبضي، يعانق جنون الشوق إلى الفرح". لنرى هنا كيف يتحقق الشعر الكامل في النثر الكامل من خلال هذا التجلّي والإبهار: "أنتَ معشوقٌ، يوسّق عطر الروح، يقضم تنهدات وجعها العميق، يُطلق فصاحة عصافير حبّها من الأنامل، فتكتب معلقات الألم المشتعلة، وهي تتربّص جندول فرحك المشاغبط.
ولنقرأ هنا كيف منحت السردية التعبيرية – الكتابة الأفقية – الكتلة الواحدة – هذا الإبحار في عوالم الجمال والصعود والتحليق عاليا والنفوذ وصناعة الدهشة والصدمة عند المتلقي: "من قال إنّكَ حزن عقيم؟ أصبحتَ إيقاع شغف، يلد في أعماقي ألحاناً من حبّ وفرح، يوصد أبواب زمن يذوي، وترقص على أوتاره سكينة تلوّن بدويّها السماوي بصمات أناملي".
إننا فعلا نقف عند شعرية كثيرة انبعثت من خلال هذا النثر الكثير والذي حافظ على متانتة وقوّته أمام هذه الشعرية، فكلما زادت الشعرية داخل النصّ زاد النثر. استطاعت الشاعرة من خلال خزينها المعرفي والثقافي أن توظف كل إمكانيات السرد التعبيري في هذا النصّ فكان قطعة تتوهّج كلما اقتربنا من عوالمها الشاسعة. 
بالتأكيد فإنّ جمالية الصوت ها هنا نتلمسها من خلال هذا الزخم الشعوري المنبعث من داخل النصّ، فكان صوتا حرّا يبعث الهدوء والسكينة في النفس ويتغلغل فيها وهذا ما تسعى إليه السردية التعبيرية .
النص:
تسكنني نظراتكَ الواعدة بانجلاء الليل، يتدفق في داخلي كوثر لهفتها دافئاً، يئد شهقات الصمت، ينتبذ جذور جسدي، يستبيح نبضي، يعانق جنون الشوق إلى الفرح. أنتَ معشوقٌ، يوسّق عطر الروح، يقضم تنهدات وجعها العميق، يُطلق فصاحة عصافير حبّها من الأنامل، فتكتب معلقات الألم المشتعلة، وهي تتربّص جندول فرحك المشاغب. 
من قال إنّكَ حزن عقيم؟ أصبحتَ إيقاع شغف، يلد في أعماقي ألحاناً من حبّ وفرح، يوصد أبواب زمن يذوي، وترقص على أوتاره سكينة تلوّن بدويّها السماوي بصمات أناملي.