لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي

نصّ الشاعرة يسرى طعمة "على قارعة ِالغيابْ" يبيّن لنا مقدار الشعرية المنبعثة من خلال هذا البوح السردي الجميل.
اللغة التي كُتب بها النصّ لغة سردية تعبيرية كان من أوضح ملامحها لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي
تناول الفكرة والاشتغال عليها عن طريق تراكيب لفظيّة مختلفة

إنّ نظرة واحدة إلى نصّ الشاعرة يسرى طعمة "على قارعة ِالغيابْ" سيتبيّن لنا مقدار الشعرية المنبعثة من خلال هذا البوح السردي الجميل، وسنستشعر بوضوح مسحة القلق ومركزية الذات الشاعرة الغارقة في وحدتها وهمومها في هذا العالم الفسيح، هذا القلق الذي أصبح علامة فارقة في هذا العصر نتيجة الدمار الذي حلّ في وطن الشاعرة، فالشاعرة هنا اتخذت من هذا القلق والوحدة جسراً لها في محاولة يائسة للخلاص والعبور إلى الضفة الأخرى. إنه محاولة الانفلات من هذا الواقع والانفصال عنه أو قل هي عملية رفض وصرخة مدوّية في وجه هذا الخراب القبيح الذي استشرى فصار لزاماً من موقف ثابت لإيقاف هذا النزف المستمر. 
إنّ النصّ يتكوّن من ثلاثة مقاطع كل مقطع يبدأ بالضمير المنفصل "أنا" عدا المقطع الثالث فقد تأخّر قليلاً، فإنّ الضمير المنفصل "أنا" عبّر عن حضور الذات الأخرى في هذا المقطع  (فقط)، لتوحي لنا بعجزها وخوفها المستبدّ في أعماقها المسكونة بوحدتها وحزنها العميق وغربتها وحاجتها إلى الآخر ليشعرها بالأمان والطمأنينة، وإنّ تكرار الـ "أنا" هنا خلق لنا أجواء جمالية ودلالات شحنت النصّ بحالات شعورية متدفقة في كلّ مقطع من هذه المقاطع، فكل مقطع كان عبارة عن مقطع نصّي طويل تداخلت فيه همومها وأحلامها مشبوبا بطاقات إيحائية عظيمة وصورا مشحونة بالمشاعر المتأججة ولغة مكثّفة محمّلة بصدق المشاعر وقوّتها. 
لذا فنحن أمام ثلاثة مقاطع نصّية أو نحن أمام ثلاث صرخات أنثوية، كل مقطع أو صرخة تحدثت فيه الذات الشاعرة عن القلق الذي كانت تدور حوله بصور شعرية متعددة داخل فكرة واحدة وهي "القلق". لذا فنحن نعتبر أنّ اللغة التي كُتب بها النصّ لغة سردية تعبيرية كان من أوضح ملامحها هي لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي، فما هي هذه اللغة؟

قوة حضور الذات الشاعرة في المقاطع الثلاثة لتوكيد هذه الذات وإبراز حالة الصراع النفسي وخلق عالم من الإيحاء والحركية وإبراز حالة الشعور العميقة والتخلّص من حالة الرتابة في النسيج الشعري

إنّ لغة المرآيا والنصّ الفسيفسائي هي إحدى مظاهر السردية التعبيرية. إنّ المتعارف عليه في اللغة أن لكل نقطة معنوية تعبيرا لفظيا واحدا الذي يعبّر عنها، لكن ما تفعله لغة المرايا هو الانطلاق من معنى واحد وبوحدات لفظية متعددة، وبمعنى آخر يعني وحدة المعنى وتعدد الألفاظ، فيكون لدينا تناصات متكررة، أي تناص بين وحدات النصّ نفسه وليس تناص مع نصوص أخرى. 
إن تناول الفكرة والاشتغال عليها عن طريق تراكيب لفظيّة مختلفة يمكّننا من النظر إلى النصّ من زوايا مختلفة، وهذا يعني بأنّ هذا لنصّ متعدد الزوايا، وفيما نظرنا إلى هذه التركيب اللغوية فيما بينها سنراها تراكيب فسيفسائية، أي أنّ كل تركيب فيه يكون بشكل مرآة، فيمكننا حينها أنّ نصف هذه اللغة بلغة المرايا بينما نستطيع أن نصف النصّ بالفسيفسائي.
من خلال العنوان نجد الغياب والقلق يسيران جنبا إلى جنب في هذا النسيج الشعري المدهش "على قارعة ِالغيابْ"، فاللغة هنا توحي به وتدلّ عليه وتخلقه في نفس الوقت. 
بالعودة إلى النصّ سنجد أنّ المقطع الاول ".. أنا جزيرةُ مشاعرِ منْفِيّةٍ وغابة كثيفة الأحلامِ حَجَبَتْ تضاريسَ فَجْرٍ لمْ يستيقظْ على أغصانٍ مُتْعَبَةٍ كانتْ تُساهِرُ أهدابَ الأملِ على توقيتِ انطفاءِ قَضَمَ الوقتُ أزهارها وسنديانها انحنى للبقاء، لم يستطعْ الفرحُ إليها سبيلًا ، وخريف العمر ودَّع ضفافَها الضَّحلة المتشعِّبة الأفكار بين راحتيّ المُمْسِكَتَيْنِ بأطرافِها المجهولة. تتأرجحُ حروفُها كعقدةِ الحبْلِ في مسرحٍ يَكْثُرُ فيه الضَّجيجُ وعناقٌ آيلٌ للنكوثِ بشَرَفِ الانتظار" كان زاخراً بالانزياحات اللغوية وتفجير طاقاتها المخبوءة ومشبعة بلغة المشاعر والأحاسيس والخيال الخصب المنتج لنا كل هذا الجمال والدهشة. 
إننا أمام صور جذابة ومحيرة في نفس الوقت لغرابة اللغة وتشظّيها وجنوحها المتطرف. إن الشاعرة استطاعت أن تنتج لنا هذه الشعرية الخصبة والمثيرة من خلال لغتها، فهي ابتعدت كثيرا عن لغة المباشرة والسطحية أو الوصف الواقعي، وإنما غرّبت لغتها وبشدّة لتخلق هالات من التوتر والإيحاء كي تثير ذهنية المتلقي وتسوقه إلى نصّها ليتفاعل معه ويكتشف أسرار جماليته الفذّة والغوص في آفاقه المجهولة والبعيدة. 

فسيفساء
يا راقدا على تخوم يدّثرها النسيان

أما المقطع الثاني "... وأنا أُغادرُ وخلفي بيادرٌ مَلْأى منْ صباحاتٍ تتنفَّسُ تاريخًا مُحَنَّطاً وصومعاتِ مجْدٍ تائه ويفاعُ زنابق على ثغورِها قُبَلُ مُحاربٍ يأخذُ قيلولةً على جذعِ الحنين. بينَ حقولِ القصَبِ الدافئةِ تُدَنْدِنُ أنغامًا تَجْدِلُها الريح على قارعةِ الغيابِ، تُحيكُ جسرًا من ضوءٍ يَرْبِط بين أفئدةٍ عاتمةٍ أنفاسُها شلالٌ من أريجٍ تَخَثَّرَ مَلَأَ أكمامَ عطوري الفضْفاضةِ بِهَمَساتٍ كَتَأَوُّهاتِ مِبْخَرَةٍ وغصّاتٍ مُتْرَعةٍ شغفًا تَتَضوّرُ عِشقًا  تَسْكبني على نوافذكَ المُطِلَّةِ على شرودي رعشةً رعشة." فكان عبارة عن لغة وجدان عبّرت أصدق تعبير عن وحدة الذات الشاعرة وانفرادها عن هذا العالم والسكون إلى غربة النفس وقلقها. إنها الانطلاق من الذاتية البعيدة والبحث عن النور وسط العتمة والخراب.
فالمتلقي هنا يحتاج الى قراءة متأنية وحذرة في نفس الوقت لمعرفة أسرار هذه اللغة كونها تختلف عن لغة التفاهم الطبيعية، فالمفردات قد تخلّت عن معانيها الواقعية ولبست معاني أخرى ناشزة ابتعدت كثيرا عن دلالاتها المتعارف عليها. اللغة هنا ممتلئة بشحنات وطاقات جعلتها غير مألوفة زاخرة بالانبهار. 
أما المقطع الثالث ".. بهجةٌ تَتَساقطُ  تَنْدَلِقُ كالنجومِ في أكوابٍ أَدْمَنَتْ ثُمالة الأرقِ  فوانيسُ ليلٍ هاجعة أنا كراقصةٍ في بحيرة البجع أُنثى تلُفُّها فوضى ودخانُ يقينٍ تبَدَّدَ من كثرةِ الخذلانِ. أَقِفُ مَوْعودةً بالوصلِ قبلَ الاحتراقِ أُناشدُ القدرَ يا قديسَ الهوى يا سادِنَ العشقِ هلْ لي على أَعْتابِكَ مثول ياراقدًا على تخومٍ يُدثِّرها النسيانُ تتكىءُ على عَرْشٍ بلا عَمَدٍ والأرضُ تثورُ حناجِرُها براكينَ تَحْرِقُ بذورَ الحياةِ وتصلبُ روحي الشاحِبَة. اغرِسْني على حدودِ جمرة علَّها تُعيدُ إثقابَ العدمِ". فكان عبارة عن محاولة اللجوء إلى الذات الأخرى وطلب النجدة منها للخلاص من هذا القلق الموجع والوحدة القاتلة، فقد تكررت الذات الأخرى ثلاث مرّات من خلال المفردات (يا قديس الهوى / يا سادن العشق / يا راقدا على تخوم يدّثرها النسيان)، وكأنها محاولة في تعادلية الذوات في هذا المقطع، فمقابل هذه الذات الأخرى نجد ما يساويها من الذات الشاعرة، إلاّ أنّ الفارق بينهما في حجم الحضور والغياب، فإذا كانت الذات الأخرى غائبة في المقطع الأول والثاني نجد قوة حضور الذات الشاعرة في المقاطع الثلاثة لتوكيد هذه الذات وإبراز حالة الصراع النفسي وخلق عالم من الإيحاء والحركية وإبراز حالة الشعور العميقة والتخلّص من حالة الرتابة في النسيج الشعري وإضفاء الجمال في الصوت الأنثوي في هذا النصّ الممتع.
إنّ لغة المرايا والنصّ الفسيفسائي تحقق لنا تجلّيا كبيرا للفكرة والمعنى، وترسّخ هذا المعنى لدى المتلقي هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنّ تعدد صور الفكرة داخل النسيج الشعري يحقق لنا الحركة فيه.