الثقافة العلمية باتت ضرورة موضوعية ملحة

واحد وعشرون فصلا يحملها كتاب "العالم العربي.. قضايا معاصرة" للباحث السوري حواس محمود.
البحث العلمي يشكل عاملا مهما وشرطا ضروريا لتقدم أي مجتمع
الاعتقاد بعالمية العلم وكونيته في العالم العربي غالبا ما يوقع في مزالق الاعتقاد في غربية العلم

واحد وعشرون فصلا يحملها هذا الكتاب "العالم العربي.. قضايا معاصرة" للباحث السوري حواس محمود ترتكز على معالجة قضايا ومشكلات معاصرة في العالم العربي تستأثر بالاهتمام والجدل والتناول لدى العديد من الفعاليات الثقافية والفكرية، وهذه القضايا تتعلق بالجوانب الحضارية كافة، ومن أبرزها الجوانب العلمية والتقنية والجوانب السياسية الفكرية والجوانب الثقافية المعرفية والجوانب الاجتماعية؛ حيث يرى المؤلف ضرورة الاهتمام بمثل هذه الموضوعات نظرا لدورها في الاستنهاض الحضاري ورفع أغطية الجهل والبلادة والركود والفساد والقمع والتخلف والتقهقر والنكوص إلى الوراء. آملا أن يلتحق العالم العربي بقطار الحداثة والعولمة والتنمية والتقنية، وألا يظل مراوحا في مكانه الأمر الذي سيؤدي به إلى أن يتأخر يوما بعد يوم. 
يرى حواس أن البحث العلمي يشكل عاملا مهما وشرطا ضروريا لتقدم أي مجتمع، وتزداد أهمية هذا العامل مع التقدم الهائل للعلوم والتكنولوجيا ودخول العالم الثورة الثالثة أي ثورة المعرفة والمعلومات والاتصالات، مما يحتم على دول ومجتمعات العالم المعاصر تقديم المزيد من الدعم للباحثين للوصول إلى نتائج مهمة تخدم قضايا المجتمع، وتبدو الحاجة أكثر إلحاحا في العالم العربي لتطوير آلية البحث العلمي في ظل الحاجات المتزايدة للتنمية في عصر المعلوماتية والاتصالات، وبما أنَ البحث العلمي لم يأخذ الدور الذي يجب أن يلعبه حتى الآن في معالجة المشكلات العالقة في العالم العربي فقد ازدادت الحاجة للمزيد من دعمه في مواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
ويشير إلى واقع البحث العلمي في العالم العربي كاشفا أن قصور الجامعات في البحث العلمي يعود إلى عدم تخصيص ميزانية مستقلة ومشجعة للبحوث العلمية، إضافة إلى أن الحصول على منحة بحثية يستغرق إجراءات طويلة ومعقدة مع قلة في الجهات المانحة. كما أن معظم الجامعات في الدول النامية تركز على عملية التدريس أكثر من تركيزها على البحوث العلمية لأسباب عدة. كما أن الدول المتقدمة ترصد الميزانيات الضخمة للبحوث العلمية لمعرفتها بالعوائد الضخمة التي تغطي أضعاف ما أنفقته، في حين يتراجع الإنفاق على البحوث العلمية في الدول العربية بسبب النقص في التمويل الذي تنفق نسبة كبيرة منه على الأجور والمرتبات. هذا، ولقد أنفق العالم في عام 1990 مبلغ 450 مليار دولار على البحث العلمي والتطوير، وكان إسهام الدول النامية أقل من 4٪. ومن جانب آخر فإن مخصصات البحث العلمي في الدول المتقدمة تزداد عامًا بعد آخر، إذ تتضاعف كل ثلاث سنوات تقريبًا، وتتجاوز نسبة مخصصات البحث العلمي في بعض الدول المتقدمة 4٪ من إجمالي الناتج القومي. 

Scientific issues
حواس محمود

ويلفت إلى أن الفكر العربي المعاصر يغيب عنه الاهتمام بموضوعات العلم والتكنولوجيا، باعتبارهما المرتكز الأساس لأي نهضة ولأي تنمية قادمة في القرن الذي دخلناه ولا زلنا نراوح في أماكننا، لا بل نغرق في الكثير من الكلام والخطب والمناقشات الفوقية التي لن تقدم ولن تؤخر إن لم تستند إلى أرضية علمية تكنولوجية تكون قاعدة للتطور الصناعي والتقني وتساهم في عملية الدفع إلى الأمام للمستويات الفوقية من سياسية وثقافية وقيمية.. الخ. 
ويوضح حواس أنَ الاعتقاد بعالمية العلم وكونيته في العالم العربي غالبا ما يوقع في مزالق الاعتقاد في غربية العلم، ذلك الوهم الأيديولوجي الذي أفرزته أيديولوجية القرن التاسع عشر وترسخ في عقول النخبة العربية، مثقفين وساسة وأصحاب قرار، واكتسحت مساحة رحبة فيها، وقد سبق لأحد كبار الدارسين المختصين في تاريخ العلوم أن حصر مظاهر ذلك الاعتقاد في نقاط ثلاث هي التالية: 
أولا: إنَ العلم غربي المنشأ وغربي الارتقاء، وتعني كلمة الغرب هنا غرب أوربا وأميركا جغرافيا، والحضارة اليونانية ثم الرومانية واللاتينية ثم ما تفرع عن اللاتينية تاريخيا. 
ثانيا: إنَ الثورة العلمية الأولى تمت في عصر النهضة بعد فترة سادها الظلام، وإنَ هذه الثورات ظهرت مع "كوبرنيكوس" في الفلك و"غاليلي" في الميكانيكا ومع "فييت" ثم "ديكارت" في الرياضيات و"هارفي" في علم الحياة، مع هؤلاء ظهر المنهج التجريبي وسيلة للبرهان. 
ثالثا: دور المجهود العربي في تاريخ العلم جزئي وهامشي، وذلك أنَ قيمته تنحصر أساسا في نقل النصوص اليونانية والحفاظ عليها في ترجمتها العربية وحدها، مما يعني أنَ ذلك الدور كان دور حراسة العلم اليوناني من الضياع وتتميمه أحيانا نظرية ومنهجا، هذا فضلا عن أنَ أعظم ما قدمه العلماء غير الأوروبيين كعلماء الصين القديمة ومصر الفرعونية وبابل وعلماء العرب والإسلام من مآثر، لم يؤثر قط في تاريخ العلم الذي يظل بالنسبة إلى هذا الاعتقاد امتداد للمعجزة اليونانية.
ويتابع؛ إنَ الوعي العلمي الذي تكونه الثقافة العلمية يمهد السبيل للمجتمع كي ينتفع بثمار المعرفة العلمية، وبذا يصبح العلم فيه قوة إنتاجية، ويتضح ذلك من أنَ المعرفة العلمية والتقانية تسهم في زيادة الإنتاج بنحو 90% حين تؤدي الزيادة في رأس المال إلى نمو الإنتاج بما يوازي 10% فقط، وتعرف الدول المتقدمة جدا هذه الآليات وأهميتها، في حين أنَ الدول النامية قاصرة عن استيعاب ذلك.
ويؤكد حواس أن الثقافة العلمية باتت ضرورة موضوعية ملحة في ظروف علمية وتكنولوجية عالمية تتسم بإيقاع متسارع في حركيتها وتأثيرها وإنتاجيتها، ولم تعد الثقافة تعني فقط الثقافة التقليدية، بل إنَ الثقافة العلمية بدأت تحل محل الثقافة بمعناها التقليدي وتجيب عن العديد من الأسئلة التي كانت إلى وقت قريب غامضة وملتبسة وعصية على فك ألغازها المحيرة وبالنسبة للعالم العربي فإن حاملي الثقافة العلمية مطلوب منهم ضرورة تعميم الثقافة العلمية لإيصالها إلى عامة الناس، دون أن يؤثر ذلك على جوهر وسوية البحث العلمي وتقدمه، لأن تقدم البلدان يرتبط بعدد باحثيه الحقيقيين، وبعدد مقالاتهم وبحوثهم العلمية المفيدة، وليس بكثرة ما ينشرون من ثقافة علمية شعبية. 
وفي تناوله لقضية المجتمع المدني يقول حواس "إذا كان المجتمع المدني مأزوماً ومخترقاً ومقبوضاً عليه من قبل الدولة، كما تعبر عنه أدبيات النخبة الفكرية والثقافية العربية، فلا بد إذن من فك أزمته وتحصينه وإطلاق سراحه من قبضة الدولة أما كيفية ذلك فيتوقف على طبيعة الحالة الواقعية للمجتمع المدني ومستوى علاقتها بالدولة، وفي كل الأحوال لا بد من تدعيم مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني، ولا بد أيضاً من نشر مفاهيم الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان بين أوسع قطاع جماهيري لإدراك معنى المشاركة السياسية والثقافية والحضارية، عبر مجمل الفعاليات لتدعيم وتنشيط حركة المجتمع المدني، وهذا لا يعد عملاً أو مهمة كافية ـ وبخاصة في الظروف الإقليمية والدولية الراهنة ـ طالما أن الدولة تقوم بشكل مستمر بتشويه وتمييع وتخريب منظمات المجتمع المدني، لا بد من وجود حل يرتبط بالسياسة، يتناول مسألة الدولة، هذه الدولة التي ينبغي تحديد نوعيتها التي تستطيع إعطاء جواب صحيح والطرق الكفيلة بتحرير المجتمع المدني من تناقضاته وتفجير طاقاته وإمكاناته التي تشكل الطاقات المادية والمعنوية للمجتمع". 
ويرى حواس أن مفهوم التنمية الثقافية مفهوم حديث بالنسبة لأدبيات التنمية في العالم العربي، وذلك لأن الدارج حتى فترة قريبة من الآن في مصطلحات التنمية كل من التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهنالك مفهوم شامل هو التنمية البشرية، والحقيقة أن التنمية مفهوم شامل يغطي كافة مجالات حياة الإنسان.
ويخلص من مناقشته مفهوم التنمية الثقافية كمفهوم معاصر ومهم جدا لارتباطه العميق بفكر وثقافة وإبداع الإنسان وتقدمه الحضاري، إلى القول بأن مفهوم التنمية الثقافية يهدف إلى تطوير الذهنيات والمدارك والأخلاقيات وتطوير طرائق الفكر والتفكير والإبداع لخلق حالة فعل مجتمعية ديناميكية مستمرة للارتقاء بمستوى الوعي البشري إلى آفاق تطويرية كبرى. 

ويوضح أن أحد الأركان الأساسية للتنشئة الاجتماعية في الثقافة العربية يتمحور حول مبدأ تطبيع الطفل العربي على الانصياع والخضوع للكبار، سواء أكان ذلك عن طريق التسلط، أو عن طريق الرعاية الزائدة، ويصف حليم بركات أنماط التنشئة الاجتماعية العربية بأنها لا تزال تشدد على العقاب الجسدي والترهيب أكثر مما تشدد على الإقناع، كما تؤكد على أهمية الضغط الخارجي والتهديد والقمع السلطوي، إنها تركز على مبدأ الحماية والطاعة والامتثال والخوف من الأخطار، وتجاوز الحدود المرسومة، حيث تنشأ عن ذلك نزعة نحو الفردية والأنانية والتأكيد على الذات، ونمو الإحساس الشامل بالغربة والاغتراب. 
ويرى د. علي وطفة بأن هناك عائقين مهمين أمام تحول العقل إلى العقل المبدع: المحرمات الثقافية ونظام التعليم، فالمحرمات الثقافية تمنع الإنسان من ممارسة الفكر الناقد، وتظل قيمة الطاعة في المجتمع الأبوي هي القيمة العليا، وبالتالي فإن أنظمتنا التعليمية تلقينية تطالب الطالب بالحفظ وإعادة الإنتاج، ولا يسمح له بالاختيار.
يتساءل: الثقافة والتقنية حوار أم صراع؟ ويلفت إلى إن مراكز المعلومات وتكنولوجيا الاتصال هي التي تمتلك اليوم مفاتيح الثقافة إذ أن التكنولوجيا تحمل الثقافة، والثقافة محمولة عبر التكنولوجيا، التكنولوجيا تقوم بعملية الاختراق الثقافي بسيطرة الثقافات القوية تكنولوجياً على الثقافات الضعيفة تكنولوجيا، فباتت الثقافة متأثرة بالتكنولوجيا إلى حدٍ بعيد، وبواسطة التكنولوجيا المتطورة نجحت الدول الغربية في نشر ثقافتها عبر المحيطات والقارات، والترويح لأفكارها وقيمها الثقافية والأخلاقية والاجتماعية والسياسية على حساب اكتساح الثقافات الوطنية وطمس الهوية الثقافية للدول الفقيرة أو النامية ويؤكد على هذه الناحية الدكتور برهان غليون في ندوة عقدت بالقاهرة عام 1997 بعنوان "مستقبل الثقافة العربية" إذ يبين مخاطر وتحديات العولمة على العالم العربي ويحددها بـ: أولا: اخضاع الثقافة لمنطق التجارة "اتفاقية الغات 1993" وعدم نجاح محاولات الاستثناء الثقافي. ثانيا: دنيامية السيطرة الثقافية للثقافات الأقوى تكنولوجيا. ثالثا: تعميم أزمة الهويات الثقافية. وأخيرا فإن الحوار بين الثقافة والتقانة سيتسمر، وقد يتحول في أحايين كثيرة إلى حالة من حالات الصراع، وبخاصة عندما تفتقد الثقافة دورها التي كانت تجده في الماضي، بسيطرة وهيمنة التقانة ووسائلها الإعلامية وقيامها بأدوار ثقافية استهلاكية ثانوية نيابة عن الثقافة ووسائلها التقليدية المعروفة: صحف ـ مجلات ـ كتب ـ محاضرات.
وتناول حواس ثقافة الصورة والإشكالية القيمية في زمن العولمة موضحا أنَ الدراسات والوقائع والإحصائيات المعاصرة تشير إلى أن ما يبث يوميا من معلومات في العالم عبر وسائل الاعلام، تحتاج إلى مدة شهرين وأكثر من الدراسة والتحليل والتمحيص والتدقيق، وإلى أن المؤسسات الإعلامية الغربية تحتكر قسما كبيرا من مصادر المعلومات والأخبار والرسائل الإعلامية المتبادلة في العالم العربي، وأعتقد أن هذا الموضوع "ثقافة الصورة والإشكالية القيمية" سيكون موضوع قرننا الحالي بسبب سيادة هذه الثقافة عبر انتشار الفضائيات في العالم وبسبب التأثيرات السوسيولوجية والقيمية الكبرى على نفسية وسلوك وممارسة الناس الذين يتلقون هذه الوسائل الإعلامية التي تحدث إشكالية الاغتراب المعلوماتي والثقافي والاجتماعي كونها تبث برامج لا تتناسب والوضعيات الاجتماعية للمجتمعات التي تصلها عبر البث الهوائي المباشر، والإشكال القيمي الناتج عن ثقافة الصورة يعتبر أمرا حيويا يحتاج للنقاش والحوار وسوف يترتب عليه إصدار العديد من القوانين والتشريعات الناظمة للعلاقة بين طرفي المعادلة "الإنسان والتكنولوجيا". 
وسيشهد قرننا الحالي العديد من المنازعات القانونية ـ القضائية ـ التشريعية ـ في العالم باعتبار أن التكنولوجيا تتطور، وهذا التطور ينعكس على العلاقات البشرية الاجتماعية وعلى المنظومات القيمية والأخلاقية للناس، والتكنولوجيا تخترق هذه المنظومات، مما يؤدي إلى احتجاج الناس على هذا الاختراق الأمر الذي يدفعهم لتقديم شكاوى عديدة للجهات القانونية والحكومية المسؤولة.