الثوابت المارونية أعظم صلاحيات الرئاسة

انتقال الصلاحيات من طائفة إلى أخرى لم ينقل لبنان من التراجع إلى التقدم، ولا حتى حسن وضع الطوائف.

من دون بوح، رئيس الجمهورية يروم صلاحيات دستورية أوسع - القلة تجلب النقار - ويفسر صلاحياته برحابة ويتصرف على هذا الأساس. وببوح، رئيس الحكومة المكلف يضن بصلاحياته ويرفض أن يتخلى عن حرف - ولو كان ناقصا - مما غنمته طائفته في "اتفاق الطائف". موضوعي اليوم ليس تقاسم الصلاحيات بين الطوائف، بل وجهة استعمالها وطنيا. فكم رئيس جمهورية تمنينا لو تنتزع منه صلاحياته وقلمه لئلا يوقع على ما وقع عليه، وكم رئيس حكومة مثل تمام سلام رغبنا أن تزاد صلاحياته ليحافظ على الشرعية والثوابت الوطنية. لذا، ليست الحاجة إلى نوعية صلاحيات جديدة، بل إلى نوعية رؤساء جدد.

في جميع الأحوال، إعادة النظر بالصلاحيات ليست هم الناس حاليا؛ فصراع الرئيسين على صلاحياتهما لم يدر عليهما شعبية إضافية في شارعيهما. وأصلا، الآتي من التحولات سيغير تركيبة الدولة بحد ذاتها، بحيث تصبح الصلاحيات المركزية المتنازع عليها خردة معروضة للكسر.

إحدى حسنات "اتفاق الطائف" أنه كشف عبثية الصلاحيات الطائفية وأهميتها الدستورية: فانتقال الصلاحيات من طائفة إلى أخرى لم ينقل لبنان من التراجع إلى التقدم، ولا حتى حسن وضع الطوائف. قبل "الطائف"، صلاحيات رئاسة الجمهورية المباشرة لم تحفظ أمن المسيحيين ووجودهم، فاضطروا إلى الدفاع عن أنفسهم وعن لبنان بقواهم الذاتية. وبعد "الطائف"، صلاحيات رئاسة الحكومة الفسيحة لم تجعل "السنية السياسية" تنجح أكثر من "المارونية السياسية"، وصلاحيات رئاسة المجلس النيابي لم تحول الشيعة يتحكمون بالقرار اللبناني، بل هو السلاح. وهنيئا للدروز الذين أقصوا عن الصلاحيات فاستعاضوا عنها بالخصوصية المناطقية والإقليمية، وحسنا فعلوا، إذ هي مستقبل لبنان والمنطقة.

لكن الصلاحيات بمفهومها الدستوري هي الأساس لانتظام عمل مؤسسات الدولة. ويفترض أن تتوزع على المؤسسات الدستورية حسب حاجة النظام إلى العمل لا حسب حاجة الطوائف إلى السيطرة كما هي الحال اليوم. هكذا، يعطل الدستور احتكار الطوائف النظام، وفي الوقت ذاته يحفظ خصوصيتها. وكذلك، عوض أن يتحكم وكلاء الطوائف بالدولة، الدولة هي التي تحكم وترعى الطوائف كمكونات تاريخية مفيدة لا كأطراف سياسية معطلة.

في الأنظمة الديكتاتورية، الديكتاتور يحدد صلاحياته. وغالبا ما تكون مطلقة لأن الديكتاتور هو المرجعية ومصدر السلطة. وفي الأنظمة الديمقراطية، نظام الحوكمة هو الذي يحدد صلاحيات المؤسسات الدستورية في ضوء آلية متكاملة لا متشابهة، ومتضامنة لا متخاصمة لكي يبقى الشعب، لا الحاكم، هو المرجعية ومصدر السلطة. فالفصل بين السلطات ليس انفصالا يقسم الدولة، والتكامل ليس تجاوزا تهيمن فيه سلطة على سلطة أخرى خارج إطار التراتبية الدستورية والتمييز بين التشريعي والتنفيذي والمنتخب والمعين.

في القرن السابق احترم النظام اللبناني هذا المفهوم الراقي، وأضاف إليه "تحصينات" طائفية مرحلية لحماية الكيان الناشئ من الحركات الانفصالية والوحدوية العروبية والإسلامية بين 1920 و1958. فغالبية المسلمين رفضت الكيان اللبناني في البدء، ولما تقبلته ناضلت لإلحاقه بوحدات عربية مختلفة. فهل من يشك في أن لبنان ما كان بقي كيانا مستقلا لو لم يتول ماروني حكمه بصلاحيات واسعة؟ فتلك الصلاحيات لم تعط لطمأنة المسيحيين فقط، بل لضمان كيان لبنان. هذا واقع تاريخي وليس سجالا سياسيا. لكن بعض الرؤساء الموارنة عبثوا بهذه الصلاحيات و"أبدعوا" في التنازل عن السيادة والقرار الوطني الحر. وها المسلمون اللبنانيون، اليوم، يقطفون مع سائر اللبنانيين ثمار الصمود الماروني التاريخي وينافسون المسيحيين على محبة لبنان وعلى الاستشهاد في سبيل سيادته وتحريره.

من هنا، ليست قيمة الصلاحيات بسجل ملكيتها الطائفية، بل بسجل وطنيتها اللبنانية. وليست قيمتها بالتباهي بها والنوم عليها، بل في استعمالها بشكل إيجابي، وإلا يصبح تخطيها حلالا. على سبيل المثال: لا يجوز أن يستعمل رئيس الجمهورية صلاحياته ليرفض حكومة متوازنة مقترحة، وأن يستعملها رئيس الحكومة لعدم تأليف حكومة رغم مرور أشهر على تكليفه، وأن يستعملها رئيس مجلس النواب لإغلاق المجلس النيابي. ليست الصلاحيات سلطة تعطيل، بل سلطة فعل. ويجب التمييز بين مفهوم الصلاحيات ومفهوم حق الفيتو. وبالتالي، يجدر بتجار الصلاحيات أن يوقفوا تجارتهم، وقد باتت وسيلة لتبييض سياستهم السوداء.

بمنأى عن الآلية العلمية للنظام الديمقراطي، اتخذ منح الصلاحيات الدستورية في لبنان طابعا طائفيا لثلاثة أسباب أساسية: كون الموارنة هم الطائفة المؤسسة الكيان، كون الرئاسات الثلاث موزعة حكما على الطوائف، وكون الطوائف تقيس معيار دورها في الدولة بمدى الصلاحيات المعطاة للمؤسسات الدستورية التي "تحكمها". ومع سوء الممارسة تحولت هذه الصلاحيات من صلاحيات مؤسسات في خدمة الدولة إلى صلاحيات طوائف بوجه الدولة، وصارت الدولة كونفدرالية مقنعة (كتابي "سياسة زائد تاريخ" - 2004).

بالنسبة لرئاسة الجمهورية، أعتبر أن أهم صلاحية لصيقة بهذا المنصب هي مارونية الرئيس. فالتزام الفكر الماروني وتقشفه وأخلاقياته ومبادئه التاريخية كاف لينجح الرئيس ولو جرد من جميع صلاحياته. وبالمقابل، لو أعطي الرئيس جميع صلاحيات العالم ولم يلتزم الخط الماروني التاريخي سيفشل حتما.

لذا، في اللحظة التي يجازف فيها أي رئيس جمهورية لبناني أو يقايض أو يغامر أو يقامر بهذا الخط الوطني، لا يفقد صلاحياته فقط بل شرعيته وانتماءه الماروني. فلا قيمة لأي صلاحية في يد رئاسة الجمهورية اللبنانية إذا وظفها الرئيس خارج هذه الثوابت التاريخية أو جيرها لغيره ولغير بيئته ووضعها في تصرف مشاريع تمس الشرعية والقرار الوطني الحر ومبرر نشوء لبنان. إن قوة الرئيس هي في مبادئه المارونية لا في سعة صلاحياته ولا في مدى شعبيته. والرئيس الياس سركيس خير مثال على ذلك.