'الجبل الأسود' تمزج روائيا التاريخ بالخيال

رواية البريطانية كاثرين لويز موس ربما تكون قصيرة ولكنها تحمل في طياتها الكثير من الإثارة والتشويق وتبعث على الأجواء المتوترة، وتبعث على الشعور الحقيقي بالخوف.

أخذت الروائية وكاتبة القصص القصيرة البريطانية كاثرين لويز موس "كيت موس"، شهرتها من أعمالها التي تمزج التاريخ بالخيال، وهو الأمر الذي تجلى في ثلاثيتها "المتاهة" و"القبر" و"القلعة"، ورواياتها القوطية "أشباح الشتاء وابنة المحنط"، وقد شكلت ثلاثيتها أكثر الكتب مبيعًا على مستوى العالم، حيث بيعت ملايين النسخ منها وكانت العنوان الأكثر مبيعًا في المملكة المتحدة لعام 2006، وتحديدا منها رواية "المتاهة" الصادرة عام 2005 شهرت واسعة وتُرجمت إلى 37 لغة. ومن جانب آخر كانت أحد أبرز مؤسيسي الجائزة السنوية لأفضل رواية منشورة باللغة الإنكليزية في المملكة المتحدة من قبل امرأة في عام 1996، والتي تُعرف الآن بجائزة "المرأة للخيال".

رواية كيت الأخيرة "الجبل الأسود" التي ترجمتها رشا صلاح الدخاخني، وصدرت حديثا عن مؤسسة هنداوي، تعمد فيها أيضا إلى المزج بين التاريخ والخيال فأحداثها تدور في شهر مايو/ايار من عام 1706، حيث تعيش فتاة إسبانية تُدعى آنا في بلدة صغيرة على الساحل الشمالي الغربي لجزيرة تينيريفي، مع والدتها وأخوَيها التوءمَين الصغيرَين؛ بابلو وكارلوس. تقع البلدة على مقربة من بركانٍ هائل، تقول الأسطورة إن شيطانًا مريدًا يعيش بداخله، لكن البركان لم يَثُر منذ آلاف السنين، ولا أحد يُصدِّق أنه قد يُمثِّل تهديدًا بأي حال. وذاتَ يوم، لاحظَت آنا أن الأجواء تبدو غريبة، والهواء يبدو ثقيلًا، لدرجةِ أن العصافير كفَّت عن التغريد. وبينما كانت تتفقَّد مزرعة كرمات العنب الخاصة بأسرتها، أفزعَتها هزةٌ مفاجِئة وغريبة ضربت الأرض، وسرعان ما تحوَّل الأمر إلى سباقٍ مع الزمن؛ إذ حاولت آنا إقناع أهل البلدة بأن خطرًا كبيرًا يحدِّق بهم، وأنه يتعين عليهم الفرار قبل أن يثور البركان ويدمِّر عالمهم.

"الجبل الأسود" قد تكون رواية قصيرة، ولكنها تحمل في طياتها الكثير من الإثارة والتشويق، وتبعث على الأجواء المتوترة، وتبعث على الشعور الحقيقي بالخوف. وربما يرجع هذا جزئياً إلى حقيقة مفادها أن القصة مأخوذة مباشرة من صفحات التاريخ، ولأن الكثير مما يتكشف عبر صفحات الرواية يستند إلى الحقائق وليس بالضرورة إلى الخيال. إنها قصة آنا، وهي امرأة شابة تعيش مع عائلتها في بلدة غاراتشيكو الساحلية في ظلال جزيرة تينيريفي. البركان الخامد يُعرف محلياً باسم الجبل الأسود. "آنا" عانت من خسارة والدها الذي يظن أنه مات منتحرا أو قتل على يد مسؤولين فاسدين، دون أن نعرف إلى أي مدى ستتغير حياتها، وحياة البلدة بأكملها. لقد كان الجبل الأسود خامداً لسنوات عديدة، ولكن لم يعد كذلك.

الرواية تحمل لغزا، وهو لغز يرتبط بمأساة آنا ولكن بطريقة لا يمكننا فهمها. أضف إلى ذلك توترًا كامنًا حقيقيًا، وهو التوتر الذي يمكن الشعور به مع كل صفحة، وكل تحول طفيف في الطقس والسماء حول الجبل الأسود. يبدو الأمر وكأن المأساة يتم التنبؤ بها من خلال التغييرات في وضع البركان والتغيرات الجوية التي يمكن أن تفهمها آنا وعدد قليل من سكان بلدتها الذين تسطيع إسماعهم. إنه ذلك الشعور الدائم بالتهديد الذي يبقيك على حافة مقعدك، ولكن أيضًا الشعور بالفساد في قلب أهم الموانئ.

قامت كيت موس بعمل رائع في تطوير الشخصيات والتوتر، وفي خلق مثل هذا الشعور الساحق بالزمان والمكان الذي يمكن لأي إنسان الشعور به بسهولة كما لو كان حاضرًا في تلك الأيام المشئومة ببلدة غاراتشيكو. وعلى الرغم من كونه خيالًا تاريخيًا. لقد كانت شخصية آنا تلك المرأة الشابة عنيدة وشجاعة دافعت عن كل ما تؤمن به، محاولة اقناع عائلتها وأصدقائها بالخطر المحدق بهم منذ البداية، دون إغفال أنها تعاني من الظلم وفساد المسؤولين وإجرامهم، وتزاحم العقبات التي وضعت أمامها، وذلك عندما تواجه غضب ليس فقط المدينة، ولكن قوة قوية مثل الجبل الأسود، فهذه عقبة كبيرة يجب التغلب عليها.

لا أشك في أن عناصر هذه القصة خيالية تمامًا، إلا أنها معقولة تمامًا، واستنادًا إلى أحداث من الحياة الواقعية، والثوران الفعلي لبركان تينيريفي والدمار الذي حل بميناء غاراتشيكو.

مقتطف من الرواية

نادت آنا من الحديقة الخلفية حالما وصلَت إلى المنزل: "أمي! لقد عُدت".

"آها، الآنسة بيريز. تفضلي بالدخول".

كان هذا صوتًا رجاليًّا. جاء في صورة أمر، لا طلب.

شعرت آنا بالتوتُّر، ربطت العنزة وغسلت يدَيها تحت مضخة الماء. كانت تعلم أنها تبدو بمظهرٍ غير لائق. فتنورتها الصوفية ملطخة، وقميصها الأبيض مُغبر بالتراب ورأسها مكشوف بلا غطاء. وبدافعٍ غريزي، دسَّت خطاب والدها في حقيبته الجلدية وتركتها بالخارج. ثم، ضفرت شَعرها ودخلت الغرفة الرئيسية.

كانت الغرفة عبارة عن غرفةٍ مربعة ذات جدران بيضاء وعوارض خشبية، تؤدي وظيفة غرفة معيشة ومطبخ في آنٍ واحد. كان بها موقد من القرميد مفتوح يعلوه غلاية سوداء. ووُضِعت الأواني والمقالي النحاسية على خزانة، وأسفل منها وُضِعَت الأطباق الخشبية والصحون وقماش الكتان. وفي منتصف الغرفة كانت هناك طاولة كبيرة متهالكة ومكشوطة نظرًا لاستخدامها لسنوات طويلة، وستة كراسي ذات ظهر سُلَّميِّ الشكل. وعُلِّق على الجدار صليب خشبي.

نادت آنا: "أمي؟"

ألقت نظرة على والدتها. كانت تجلس إلى جوار المدفأة الباردة وهي تمسك بمسبحتها. تُخفي وجهها وراء الحجاب الأسود المميز للأرامل. وعندما انحنت آنا وقبَّلَت خدَّها، أدركت أن ثمَّة رجلَين يقفان في الظل إلى جوار الباب الأمامي.

قالت والدتها بفزع: "هؤلاء السادة يريدون التحدُّث إليك".

شعرت آنا بقشعريرة تَسْري في أوصالها.

لم يكُن الزائران مزارعَين مثلهم، وإنما رجلان مهمَّان. رجلان ذوا نفوذ. التفتت آنا عندما دخل القس أولًا، ثم تبِعَه أخوه ـ العمدة بنفسه ـ إلى دائرة الضوء.

دفعتها والدتها إلى الأمام. "سلِّمي على ضيفَينا، يا آنا".

مدَّ القس البدين يده، وهو يتصبَّب عرقًا بسبب الحرارة. كانت أظافره مُتسخة. تحاملت آنا على نفسها لتنحني أمامه وتُقبِّل خاتمه إرضاءً لوالدتها فحسب. أما العمدة فكل شيء يخصُّه كان يشي بتفاخُره بثروته وأهميته. فقد ارتدى سترة ذهبية طويلة، ومُطرزة بخيوط من الحرير الأسود، وسروالًا أحمر، وأحزمة بيضاء وحذاءً بمقدمة مربعة. بدا أشبه برجل نبيل من إسبانيا. فشعره المستعار، المصنوع من شَعرٍ بشري حقيقي، عبارة عن كتلة من الخصل السوداء؛ مفروقة من المنتصف ومثبَّتة في مكانها بواسطة معجون الدقيق. استطاعت آنا أن ترى قطرات الدقيق منزلقة على جبينه.

انحنت آنا انحناءةً قصيرة. وأردفت: "كيف يُمكنني أن أساعدكما، يا سيدي؟".

أشار العمدة بيده.

فجاء القس. وقال: "تناهى إلى مسامعنا أنكم دفنتم والدكم".

حافظت آنا على رباطة جأشها. وقالت: "أجل، أمس".

"هل حصلتم على تصريح بدفنه؟"

شعرت آنا باضطرابٍ في معدتها. وأردفت: "القبر على أرضنا، وبما أنه لم يكُن مسموحًا لنا بدفنه في الأرض المقدسة "..

قاطعها القس قائلًا: "هذه شريعة الرب".

رفع العمدة يده. وقال: "آها، أرضكم. أخشى أن أقول إن هذه هي المشكلة، آنسة بيريز. كانت الأرض باسم والدك".

حبست آنا أنفاسها. ثم عقَّبَت: "لا أفهم مقصدك، يا سيدي".

ابتسم لها ابتسامةً مُصطنَعة. وأردف: "أوه، أنا متأكد أنكِ تفهمين ما أرمي إليه. فتاة ذكية مثلك لا بد أنها تفهم".

قالت له وهي تتحامل على نفسها لمواجهة نظراته: "أنت تُداهنني".

قال القس بحدة: "لم يكُن هذا ما يرمي إليه أخي. يجب أن تُبدي الاحترام".

ضحك العمدة. ثم صدر عنه صوت أجوف وقبيح. قائلًا:"أنتِ تعرفين، كما أعرف، أنه لا يحق لأية امرأة أن تمتلك أرضًا".

قالت آنا: "ولكن تُستثنى بعض الحالات. أمي تحتفظ بالأرض على سبيل الوصاية حتى يبلغ شقيقاي سِن الرشد".

"وهذا لن يحدث قبل أربع سنوات".

أخذ يُحدِّق كلٌّ منهما في الآخَر. بإمكان العمدة أن يسمح لأُمِّها بالاحتفاظ بالأرض ـ معظم الأرامل يُسمح لهن بذلك ـ إلا أن آنا كانت تعرف أنهم لا يستطيعون جمع المال من أجل الرشوة. إذا كان هذا ما يريده.

أخرج العمدة قُبعتها القشية من خلف ظهره. اتسعت عينا آنا في دهشة.

وقال لها: "هل هذه تخصُّك؟"

تظاهرت آنا بأنها تُلقي نظرة. ثم أردفت: "ربما تخصني يا سيدي. لقد فقدتُ قُبعتي قبل بضعة أيام".

"أين؟" انطلق السؤال بسرعةٍ وحِدَّة كالسهم.

لم تكُن آنا مُتيقنة حيال ما يدور الأمر حوله؛ لكنها حافظت على نبرة صوتها ثابتة. لم تكُن راغبة في الإفصاح بأي شيء.

«في غمار حزني على وفاة والدي، كنتُ أتجوَّل على الجزء السفلي من المنحدرات السفلية بالقرب من بساتين الكروم الخاصة بنا. من أجل تصفية ذهني من الأفكار. لقد أسقطتها حتمًا آنذاك".

ضيَّق العمدة عينَيه. وسألها: "ليس في منطقة أعلى من ذلك على الجبل؟"

حينذاك فهمت آنا. لا بد أن رجاله قد وجدوها في المنطقة الجرداء الخالية من الأشجار، ولا بد أن هذا أزعجه لسببٍ ما. ولكن لماذا؟ نظرت آنا إلى أُمها وسمِعَتها وهي تحرِّك مسبحتها.

قالت آنا: "كلَّا يا سيدي. يجب عليَّ البقاء بالقرب من المنزل. لأكون على مقربةٍ من أمي حين تحتاج إليَّ".

باغتها بسؤال غيَّر مجرى الحديث: "رسالة الانتحار التي تركها والدك. أما زالت معكِ؟"

شعرت آنا بأن ساقَيها بدأتا ترتجفان، إلا أنها تمالكت نفسها ووقفت بثبات. قالت كاذبة: "ليست معي يا سيدي. أحرقتُها لأُخفِّف عن أُمي وطأة الألم".

أطال العمدة النظر إليها لدقيقة، ثم وضع القبعة على الطاولة.

"قبل انتحار والدك ببضعة أيام، سمعه البعض يخوض في حديث متهوِّر. وهو ما أثار المشكلات بعد ذلك".

سمعت آنا أُمَّها تتململ في جلستها.

تابع العمدة حديثه قائلًا: "بالطبع، كان ينشر الأكاذيب. ويحثُّ الناس على مغادرة البلدة. ويدَّعي أن الجبل الأسود سيثور. ألحق هذا بالتجارة ضررًا بالغًا. فإذا لم تتمكَّن السفن من الرسو في الميناء، ستعاني الجزيرة بأكملها".

صاحت آنا قبل أن تتمالك نفسها قائلة: "ولكن ماذا لو كان محقًّا؟ جميع العلامات متحقِّقة. يجب أن نحذِّر الناس".

أشار العمدة بإصبعه نحوها. وأردف قائلًا: "لا تقعي في خطأ ترديد هذه الأكاذيب، آنسة بيريز. لا سيما أن موضوع أرضكِ قيد النقاش".

حينذاك أدركت آنا الحقيقة. لم يكُن راغبًا في المال وإنما كان راغبًا في شراء صمتها. سيسمح لهم العمدة بالبقاء ما دامت لن تنبس ببِنت شفة. كان يتعيَّن عليها أن تلتزِم الصمت حيال وفاة والدها وحيال التغييرات التي طرأت على الجبل.

واستطرد قائلًا: "أتفهمين؟"

رفعت آنا رأسها وحدَّقَت في عينَيه مباشرة. وأردفت: "أجل. فهمت".

وما إن أدركت أُمها أن ثمَّة صفقة عُقدت حتى أمسكت بيد القس.

قالت: "باركك الرب، أبانا. شكرًا لك، شكرًا لك".

وضع الكاهن يده البغيضة على رأس السيدة بيريز. ثم قال: "الرب يرعى أولئك الذين يُخلِصون في خدمته. سأصلِّي من أجلك". ثم نظر إلى آنا. وأردف: "سأُصلِّي من أجلكم جميعًا".