الجميع في جنيف ما عدا سوريا

يبرز مجددا الدور الروسي في التنسيق بين ايران وإسرائيل برعاية أميركية لم تعد تخفى على احد.

كان الجميع موجودا في جنيف في مرحلة الاعداد لبدء اجتماعات اللجنة الدستورية السورية، وهي اجتماعات حضّر لها غير بيدرسون مبعوث الأمين العام للأمم المتحدة. يبدو واضحا انّ بيدرسون يعرف في سوريا والمنطقة اكثر بكثير من سلفه استيفان دي ميستورا الذي تعاطى مع قضية في غاية التعقيد ومع شعب يسعى الى استعادة بعض من كرامته بخفة ليس بعدها خفّة.

كان الجميع موجودا في جنيف، باستثناء سوريا، أي ان كلّ المعنيين الحقيقيين بسوريا كانوا هناك. على رأس هؤلاء وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ووزير الخارجية الايراني محمّد جواد ظريف ووزير الخارجية التركي مولود تشاووش اوغلو. كانت اميركا حاضرة أيضا عبر جويل رايبرن احد ابرز المختصين بالشرق الاوسط في الإدارة. الغائب الاكبر، اقلّه ظاهرا، كان إسرائيل الشريك في تحديد مستقبل سوريا بعدما كرّست احتلالها للجولان في ظلّ تفهّم روسي واميركي لمواقفها من الوجود الايراني في ما كان يسمّى رسميا "الجمهورية العربية السورية". لعبت إسرائيل اوراقها في سوريا بطريقة ذكيّة. عملت كلّ ما تستطيع من اجل المحافظة على النظام مدركة انّها ستحصل في النهاية، عبر النظام ولا احد غيره، على ما تعتبره الجائزة الكبرى، من وجهة نظرها، أي على هضبة الجولان المحتلة منذ 1967.

يكفي الاستماع الى كلمتي ممثلّي النظام والمعارضة للتأكد من وجود هوّة حقيقية بين الجانبين. كانت لدى ممثل النظام لغته الخشبية المعتادة التي لا يمكن ان يتخلّى عنها يوما. وكانت لدى ممثل المعارضة تحليلا دقيقا للوضع على الأرض مع سلسلة من التمنيات التي لم يعد لديه ما يكفي من القوّة لتحويلها الى واقع. حصل ذلك بعدما تكالبت كلّ القوى الإقليمية والدولية من اجل اجهاض ثورة الشعب السوري المستمرّة منذ ما يزيد على ثمانية أعوام، هذا الشعب الذي يصرّ النظام على انّه "إرهابي" وان حربه على المواطن العادي، انّما هي حرب على "الإرهاب".

رفض ممثل النظام في كلمة القاها في افتتاح اجتماعات جنيف الاقرار بانّ ما تشهده سوريا ثورة شعبية حقيقية على نظام اقلّوي لا يؤمن سوى بإلغاء الآخر. بغض النظر عن الوضع الذي آلت اليه سوريا، يبقى ان في أساس كلّ ما يجري انفجار شعبي على صعيد البلد كلّه. هناك نظام انتهى وهو يرفض الاعتراف بذلك وهناك سوريا مختلفة لا علاقة لها بسوريا التي عرفناها. هذا ما يرفض النظام الاعتراف به أيضا.

كان المشهد سورياليا عندما تحدّث النظام عن استعادة كل ارض سورية. هل دخلت تركيا الى شمال سوريا بالتواطؤ مع الروسي والأميركي من اجل ان تخرج يوما؟ قد تخرج تركيا يوما من سوريا ولكن بعد خروجها من قبرص التركية التي تحتلّها منذ العام 1974!!!

ثمّة نقطتان مهمّتان من المفيد التوقف عندهما على هامش اجتماعات جنيف. النقطة الاولى مرتبطة بغياب أي شرعيّة من ايّ نوع للنظام القائم. النقطة الأخرى انّ سوريا هي عمليا تحت الاحتلال وان قوى الاحتلال هي التي تقرّر مستقبل سوريا بوجود دستور جديد او في غياب مثل هذا الدستور. لا يمكن لاي دستور سوري، مهما كان متقدّما وعصريا، ان يكون له أي معنى او تأثير على الارض في حال لم تكن هناك مرحلة انتقالية تؤمن الانتقال الى مرحلة جديدة لا علاقة لها من قريب او بعيد بما كانت عليه سوريا منذ استقلالها في منتصف اربعينات القرن الماضي. فالنظام الذي سيطبق هذا الدستور لا يمكن ان يبقى نفسه. في النهاية، ما الفائدة من دستور يضمن كلّ الحرّيات العامة ويفصل بين السلطات في غياب رجال ومؤسسات على استعداد لتطبيقه؟

ليس النظام السوري القائم، وهو نظام عموده الفقري الاجهزة الأمنية، مؤهلا لتطبيق أي دستور، بما في ذلك الدستور المعمول به حاليا. هذا نظام ولد من رحم انقلاب عسكري لمجموعة من الضباط الموتورين، معظمهم من حزب البعث، اسقطوا النظام في الثامن من آذار – مارس من العام 1963. جاء هؤلاء الضباط الى السلطة باسم حزب البعث، بكل ما يمثّله من فكر متخلّف تغطيه شعارات الوحدة والحرّية والاشتراكية و"الامّة العربية الواحدة ذات الرسالة الخالدة". عن ايّ رسالة يتحدّث البعث غير رسالة الانقلابات العسكرية لضباط ريفيين حاقدين على المدينة لا يؤمنون سوى بحكم الاجهزة الأمنية؟

ما لبث هذا النظام ان تحوّل تدريجا من حكم البعث الى حكم العلويين بعد انقلاب 23 شباط – فبراير 1966. ثمّ ما لبث ان تحوّل في أواخر السنة 1970 الى نظام العلوي الواحد (حافظ الأسد). مع وفاة حافظ الأسد في السنة 2000، ولد نظام العائلتين او نظام عائلتي الأسد ومخلوف الذي ما لبث ان صار في الأشهر القليلة الماضية نظام العائلة الواحدة بعد انتصر آل الاسد على آل مخلوف بالضربة القاضية نتيجة عوامل عدّة ستتولى الايّام كشف خباياها.

هل هي مسألة دستور ام مسألة من يطبّق هذا الدستور؟ المسألة ان سوريا في حاجة قبل كلّ شيء الى مرحلة انتقالية تمهّد لقيام نظام جديد يمتلك حدّا ادنى من الشرعية. المؤسف ان سوريا غير مؤهلة لمثل هذه المرحلة الانتقالية في ظل الاحتلالات الخمسة التي تعيش في ظلّها.

اذا وضعنا جانبا تسليم اميركا شؤون سوريا لروسيا ولكن مع الإصرار على البقاء في مناطق معيّنة، بما في ذلك مناطق آبار النفط والغاز السورية، هل في الإمكان إيجاد تفاهم بين الاحتلالات الأربعة الأخرى، أي بين روسيا وايران وتركيا وإسرائيل؟

هذا هو السؤال الذي سيطرح نفسه مستقبلا وليس هل سيكون لسوريا دستور جديد. أي سوريا ستبصر النور من تفاهم روسيا وايران وتركيا وإسرائيل؟ يضاف الى هذا السؤال هل سيبقى الاميركي مستسلما للروسي في سوريا في ظلّ تفاهم في العمق بين انقرة وموسكو؟

هناك بالطبع مسألة ستطرح نفسها عاجلا ام آجلا. هذه المسألة مرتبطة بالضمانات التي تحتاج اليها إسرائيل بسبب الوجود الايراني في سوريا ولبنان. سيبرز هنا مجددا الدور الروسي في التنسيق بين ايران وإسرائيل برعاية أميركية لم تعد تخفى على احد.

بكلام أوضح، لن تعني اجتماعات جنيف الكثير حتّى لو نجحت في بلورة دستور سوري جديد. ما سيعني شيئا هو حصول تفاهم روسي- إيراني – تركي – إسرائيلي. في غياب مثل هذا التفاهم لا وجود لاي ضوء في نهاية النفق السوري وستظل سوريا الغائب الأكبر عن اجتماعات جنيف. حضر الجميع الى المدينة السويسرية ولم تحضر سوريا.