الحب الأصيل لـ'مينَّا فون بارنهلم' ينقذ الرائد المتقاعد

مسرحيةٌ الأديب الألماني وأحد رموز عصر التنوير في أوروبا غوتهولد أفرايم لسينغ مليئة بالمشاعر الإنساني ويتجلى فيها الحب الصادق والتضحية المتبادلة بين المتحابين.

تشكل مسرحية "مينَّا فون بارنهلم" للفيلسوف والأديب الألماني، وأحد رموز عصر التنوير في أوروبا غوتهولد أفرايم لسينغ، درة أعماله التي بشرت بعصر جديد في تاريخ المسرح الألماني، نشرها عام 1767م، ورآها الجمهور على المسرح الهامبورجي فأُعجِب بها، ثم مثَّلَتها مسارح ليبتسج وبرلين فلَقِيَت نجاحا وحماسا رائعا. وقد عولجت سينمائيا، لا تزال حتى الآن موضع رؤى ومعالجات إخراجية مختلفة على المسارح سواء في ألمانيا أو خارجها.

تمثلت فرادة هذه المسرحية كونها جاءت كتابتها وتمثيلها وسط احتدام معارك حرب السنوات السبع التي جرت بين عام 1756 م وعام 1763 م. وشاركت فيها بريطانيا وبروسيا ودولة هانوفر ضد كل من فرنسا والنمسا وروسيا والسويد وسكسونيا. ودخلت إسبانيا والبرتغال في الحرب بعد مدة من بدايتها عندما هوجم إحدى جيوش المقاطعات المتحدة الهولندية في الهند.

المسرحيةٌ التي ترجمها د.مصطفى ماهر وصدرت أخيرا عن مؤسسة هنداوي مليئة بالمشاعر الإنسانية، ويتجلى فيها الحب الصادق والتضحية المتبادلة بين المتحابين، وتبدأ بتصوير الحال التي انتهى إليها الرائد فون تلهايم بعد أن أُحيل إلى الاستيداع على أثَر انتهاء حرب السنين السبع، وأصبح لا يمتلك من المال ما يسدد به إيجار حجرته بالفندق، ويدفع منه راتب خادمه، وينفقُ منه على حياته من نواحيها المختلفة. ويتجرأ صاحب الفندق، الذي لا يعرف غير المال ربًا، فيخرِجه من حجرته الجيدة وينقله إلى حُجرة رديئة، ليؤجر الحجرة الجيدة إلى آنسة ثرية وصلَت برلين لتوِّها آتية من ضياعها بساكسونيا. ويغضب الرائد ويثور لكرامته المجروحة ويقرِر أن يترك الفندق لصاحبه الوقِح، وينصرف دون أن يعرف إلى أين، ثم ما نلبث أن نتبين أن هذه الآنسةَ الثريةَ ليست سوى خطيبة الرائد فون تلهايم، وأنها أتت تبحث عنه لما انقطعَت أخباره رغم انتهاء الحرب.

ووجدَت الآنسة مينَّا فون بارنهلم خطيبها الضابط، في حالةٍ يرثى لها، بلا مال ولا عمل ولا كرامة؛ أما ماله فكان قد أقرضَه الجيشَ أثناء المعارك حتى لا يتأخر الزحف انتظارًا لوصول المال من الخزينة، وأما عملُه فقد أُخرِج منه على أثَر وشاية بلغت الملك وصدقها الملك، وأما كرامته فقد فقدَها لتصديق الملك الوشاية المهينة التي وصلَت إلى مسامعه والتي تتلخص في أن فون تلهايم زور في الأوراق وادعى أنه نقد الجيش ما لا يدفعه، وأنه كان بذلك يهدف إلى الثراء غير المشروع ويرتكب جريمة مخلة بالشرف والكرامة. ووجد الرائد فون تلهايم خطيبته، جميلةً نضرة غنية كلُّها أمل في أن تسعد بالزواج به والحياة معه حياةً رغدة كريمة، فقرر أن يحكم عقلَه وإرادته وأن يرفض ـ وحالته على ما بيَّنا ـ الزواج بمينا، زواجا أصبح غير متناسب، وأصبح هو يرى فيه إما إهانةً شخصية له، اعتقادا منه بأن مينا تريد الزواج به عطفًا عليه، أو جريمةً منه في حق الفتاة ذات الجمال والمال والحسَب والنسَب، إيمانا منه بأنه انتهى إلى الأبد بالنسبة لها.

ولكن مينا، والحب الأصيل يعمُر قلبها وخادمتها فرنتسيسكا تساعدها، لا تَعدَم الحيلة، فتظاهرَت بأن أسرتها نبذَتها، وبأن خالَها الغني صاحب النهي والأمر قد قرَّر حرمانها من الميراث، فأصبحَت فقيرةً منبوذة تحتاج إلى العون، وهنا تحرَّكَت نخوة فون تلهايم، وقرَّر ألا يتخلَّى عنها مهما حدث. وتنتهي المسرحية نهايةً سعيدة؛ إذ يأتي رسول من الملك يُبلِغ فون تلهايم أن الملك تبيَّن أن ما بلغه كان وشاية، وأنه قرَّر أن يعود تلهايم إلى عمله عزيزًا كريمًا، وأن تعيد إليه الخزانة ما دفعه من مَبالِغ، وأكَّد له أن الملك يقدِّر بطولتَه وتفانيَه. ومن ناحيةٍ أخرى يأتي خال مينَّا فون بارنهلم، ويتضح أن النَّبذ والحرمان من الميراث كانا محضَ اختلاقٍ من قبيل الكذب في سبيل المصلحة، وتعود المياه إلى مجاريها ويجتمع الشمل.

يقول ماهر عن شخصيات المسرحية "كان جريلبارتسر يعتبر "مينَّا فون بارنهلم" أحسن كوميديا ألمانية على وجه الإطلاق، ولا يكاد ناقدٌ يخرج على الإجماع على أن القطعة من أجود ما أنتج الفن المسرحي الكوميدي في ألمانيا، لِما توفَّر لها من مادةٍ قويةٍ مأخوذة من صميم الحياة كما عاشها المؤلِّف، ولِما توفَّر لها من إتقان في تسيير الحوار وترتيب الأفكار، وأعظمُ ما فيها في رأينا تصوير الشخصيات، الرئيسية والثانوية على السواء. الرائد فون تلهايم، يمثل الضابط البروسي بمعنى الكلمة، شجاع، مقدام، يُحب زملاءه وجنوده ويعرِّض حياته للخطر دفاعًا عنهم بغَض النظر عن الرتبة أو المركز، ويَحرِم نفسه ليُعطيَهم أو ليرعى أُسرهم بعد وفاتهم، لا يعرف للدنيا معنًى إذا خلت من الكرامة والشرف، وهو في الحب يعرف الحدود بين القلب والعقل، فلا يدع أحدهما يُغير على الآخر. لنسمع حديثه إلى مينَّا فون بارنهلم:"إنكِ تُنادينني تلهايم، والاسم صحيح، لكنكِ تعتقدين أنني الآن ذلك التلهايم الذي كنتِ تعرفينه في وطنك، ذلك الرجل الباهر الطَّموح الممتلئ كَلفًا بالشهرة، ذلك الرجل المتمكِّن من جسمه كلِّه ومن روحه كلِّها، الذي انفتحَت أمامه حواجزُ الرفعة والسعادة، فأمل أن يزيد كل يومٍ جدارةً بقلبكِ ويدك، وإن لم يكن آنئذٍ جديرًا بك. أنا لستُ هذا التلهايم، تمامًا كما أني لست أبي. ذلك التلهايم ـ تمامًا كذلك الأب ـ كان وانتهى، أما أنا فتلهايم المُحال إلى الاستيداع، تلهايم المشوَّه، الشحَّاذ. لقد كنتِ مخطوبةً يا آنستي لذلك التلهايم الآخر."

ثم يقول لها في موضعٍ آخر:

"أردت أن أقول: إذا كانوا يمنعون عني مالي على هذا النحو المخزي، وإذا لم يكونوا سيردون إليَّ شرفي على أكمل وجه، فلن يمكنَني أن أكون لك يا آنستي. الدنيا كلُّها لا تعتبرني جديرًا بك. من حق الآنسة فون بارنهلم أن تنال رجلًا لا غُبار عليه. إن الحب الذي لا يخشى أن يتعرَّض موضوعه للازدراء، حُب دنيء".

ويُحيط بالرائد فون تلهايم رجالٌ أوفياء؛ رجل صلب الرأي ضيق الأفق، عنيد، ثائر، متعلق بسيده كالكلب المخلِص لا يفارقُه مهما حدث، ورجل شجاع، واسع الحيلة نسبيا، يحب الجندية ولا يعرف له غيرها عملا، يُضحي بماله وحياته من أجل الضابط الذي عمل تحت رئاسته؛ أما الأول فهو "يوست"، وأما الثاني فهو "باول فرنر".

ولنستمع إلى يوست وهو يصوِّر شخصيته، يقول موجِّهًا الحديث إلى سيده فون تلهايم:" "قَبِّحْ فيَّ ما شئت، فلن أتصور نفسي مع هذا أسوأ من كلبي؛ فقد كنت يومًا في الشتاء الماضي أسير ساعةَ الغروب على القناة فسمعتُ أنينًا، فنزلتُ واتجهتُ إلى مصدر الصوت، واعتقدتُ أنني أُوشِك أن أُنقِذ طفلًا، فإذا بي أُخرِج من الماء كلبًا صغيرًا، فقلتُ في نفسي: لا بأس. لكن الكلب ظل يتبع خُطاي، ولست من مُحبِّي الكلاب، فطَردْتُه، لكن طردي لم يُجدِ نفعًا، فانهلتُ على الكلب ضربًا حتى أُبعدَه عني، فلم يُجدِ ضربي شيئًا، فلما جنَّ الليل لم أدَعْه يدخُل حجرتي، فظل على الباب قابعًا عند العتبة. وكان كلما اقترب مني ركلتُه بعيدًا، فيصيح وينظر إليَّ مُلوِّحًا بذنَبه. وبالرغم من أنه لم يكن قد تلقَّى من يدي كِسرةَ خبز، فإنه كان لا يُطيع غيري، ولا يسمح لغيري بلمسه. وكان يقفز أمامي ويعرض عليَّ دون طلب مني أفانينَه. صحيحٌ أنه كلبٌ قبيح ولكنه طيب جدًّا. ولو ظل على هذه الحال فسوف أكُف عن بُغض الكلاب".

أما باول فرنر، محارب بروسي حانق لعودة السلام لأن السلام حال بينه وبين القتال، وها هو يبحث عن ميدانٍ جديد: "ألا تعرف الأمير هيراقليوس؟ الرجل الشجاع الذي اجتاح فارس ويستعد الآن لنسف الباب العالي العثماني في الأيام القادمة؟ الحمد لله أن الحرب ما زالت موجودةً في مكانٍ ما في الأرض، وقد طال الأمد على أملي أن تعود الحربُ إلى الاشتعال هنا؛ فجنودنا يقعدون ويُعالِجون جلودهم. لا، لقد كنت جنديًّا، ولا بُد أن أعود فأصبح جنديًّا".

وباول فرنر لا يهدأ بالًا منذ علم بمحنة الرائد، ويعمل كل ما في وسعه لمساعدته دون أن يُحِس الرائد أن تلك مساعدة، وقد بلغ تفاني فرنر في حب الرائد أن بدأ يبيع ما لديه ليجمع بعض المال يضعه في يد رئيسه المنكوب، لكن رئيسه يمتنع بإباءٍ وشَممٍ.

ويرى ماهر أن الرائد فون تلهايم، ويوست وباول فرنر يقفون في صف، وفي صَف أمامهم تقف الآنسةُ مينا فون بارنهلهم ووصيفتُها فرنتسيسكا:

مينا بارنهلم من تورنجن في ساكسونيا حيث تمتلك الضِّياعَ الواسعة، تعرَّف الرائد فون تلهايم عليها أثناء عسكرته هناك، فتحولَت إلى حبيبة متيَّمة، فلما انقطعَت أخبار حبيبها ضاقت الدنيا في وجهها، وراحت تبحث عنه، حتى وجدَته. وقد نجح لسينج في تصويرِ مشاعرِ مينا نجاحًا كبيرًا. ها هي مثلًا تُهلِّل لاستعادتها حبيبها: "لقد استعدتُه يا فرنتسيسكا، أترين؟ لقد استعدتُه. لا أعرف من فَرْط الفرحة أين أنا. افرحي معي يا عزيزتي فرنتسيسكا، ولكن، لماذا أنت؟ بل افرحي، عليك أن تفرحي معي. تعالَي، يا عزيزتي، سأقدِّم لك هديةً حتى تستطيعي أن تفرحي معي. تكلَّمي يا فرنتسيسكا، ماذا تُحبين أن أقدِّم لك؟ ماذا يُعجِبك من حاجياتي، ماذا تُحبين؟ خذي ما يحلُو لك، المهم أن تفرحي".

أما فرنتسيسكا فنموذج للوصيفة اللطيفة النبيهة المُخلِصة التي تعيش أفراحَ سيدتها وأحزانَها، وتقف إلى جوارها بالنصيحة والدهاء والحيلة، وهي من الشخصيات القليلة في الكوميديا التي تُشيع المرح حقيقة. صاحب الفندق يأخذ بيانات عن الآنسة فون بارنهلم ومرافقتها، فيسمي فرنتسيسكا "امرأة خادمة". هنا تثور فرنتسيسكا وتصحِّح الأمر على هواها: "إذن فاكتب يا سيدي، بدلًا من امرأة خادمة، بنت خادمة؛ فقد سمعتُكَ تقول إن الشرطة دقيقةٌ جدًّا، وربما حدَث سوء فهمٍ قد يؤدي إلى مشاكل عندما أتقدم يومًا بطلَب عَقد قراني؛ فأنا ما زلتُ بنتًا حقًّا وصدقًا، اسمي فرنتسيسكا واسم أبي فيلليج؛ فرنتسيسكا فيلليج. وأنا أيضًا من تورنجن. كان أبي يعمل طحانا في ضَيعةٍ من ضياع الآنسة الكريمة اسمها كلاين- رامسدورف. وقد آلت الطاحونة إلى أخي، والتحقتُ وأنا صغيرة ببلاط الآنسة الكريمة ونشأتُ معها، عُمرُنا واحد، سنبلُغ يوم زفة الشموع القادم الواحد والعشرين. لقد تعلَّمتُ كل ما تعلَّمَتْه الآنسة الكريمة، وأُحب أن تعرفني الشرطة جيدًا.» وتنسج فرنتسيسكا مع فرنر قصة حُب تنتهي بزواجهما".