"الحب في زمن العار" تصور أحوال الأتراك بعد استقلال تونس

الروائي التونسي بليغ التركي يفتتح روايته بصور تشكيلية تعكس تقلب أحوال الإنسان وما يطرأ عليه من ضيق أو ملاحقة في بيئة سياسية واجتماعية تسحق أحلامه.
الكاتب يستعين بالوسيط الفني التشكيلي ضمن نسيج فني جمالي يستلهم من الأشكال والألوان
اللون الأصفر هو لون الذاكرة التي تتقيأ حكايات الماضي على الأوراق لتصوير علل التاريخ.

بقلم: هيام الفرشيشي

افتتح التونسي بليغ التركي رواية "الحب في زمن العار" الصادرة باللغة الفرنسية  بصور تشكيلية الغاية منها تصوير عوالم الشخصيات وتصوير الواقع الروائي ليعكس تقلب أحوال الإنسان وما يطرأ عليه من ضيق أو ملاحقة في بيئة سياسية واجتماعية تسحق أحلامه، عودة إلى زمن البؤس الذي عاشه الأتراك في تونس بعد الاستقلال إثر حل نظام البايات وتعويضه بالحكم الجمهوري، واقصاء هؤلاء واعتبارهم أعداء الدولة البورقيبية. فكانت تلك الفترة بمثابة إطار يلهمه ببؤسه فيستعيض بالوسيط الفني التشكيلي ضمن نسيج فني جمالي يستلهم من الأشكال والألوان تعبيرات تؤشر إلى شحوب الروح وانكماش الرؤى عبر تجسيم الأجواء الخانقة التي تحيط بالشخصيات الروائية بطريقة تؤثر على نفس المتلقي وتحفز ذهنه لطرح الأسئلة وفهم الرسائل التي وصلته عن طريق الصور.
"من يعرف مصير ورقة صفراء مثبتة منذ سنوات على جدار مكتب، أين يعمل كاتب قبل إحالته على التقاعد. كم ريح خريفية صفرت في المكتب عبر النافذة الصغيرة حاملة معها الأوراق الصفراء ولكنها لم  تقتلع هذه الورقة من الجدار، أي يد قادرة على اقتلاعها، وكيف ستفعل، هل تقتلعها بقسوة وتمزقها وتلقي بها دون سبب؟ من هو الشخص الذي يقدر قيمة أسطر  كتبها أب لابنه.

ما نستشفه من خلال رواية "الحب في زمن العار" هو غياب القيم في الواقع الجديد نتج عنه غياب سلم القيم في تشكيل الواقع الجديد، فالألوان لم تتدرج من الداكن إلى الفاتح بل تزداد قتامة مع تقدم أحداث الرواية

للون دلالاته فهو لون شاحب يشير إلى ماض معتل، هو لون الذاكرة التي تتقيا حكايات الماضي، على الأوراق لتصوير علل التاريخ، فهل يتحول إلى لون النور وهو يضيء كل المناطق المعتمة في الذاكرة، فالصورة المشهدية بما تنطوي عليه من دلالات اللون هي تشكيل رمزي لتحويل لون الموت إلى حياة، أما الريح والصورة المثبتة على الجدار فهي تنتقل بنا من صورة حسية إلى أخرى رمزية ذهنية فما يدخل في حيز الماضي يؤثر في الحاضر، وتتناقله الأجيال من خلال الحفلات التي كانت تقام في كل البلاد أين يصد صوت البندير الصرخات المتقطعة في أقبية الزنازين، رجال موثوقو الايدي غير قادرين على كتابة كلمة حرية على الجدران التي نهشتها أظافر المعذبين.
كان الاستقلال بمثابة الإعلان عن استعمار للأتراك في تونس المنحدرين من سلالة البايات حسب رؤية السارد، لا أحد أنصت إلى معاناتهم جراء ارتفاع اصوات البنادير، والتطبيل للحكام الجدد.
والصورة هنا تغادر اللغة المعتمة الرمادية وتبرز أشياء تجسدت في الواقع لا أحد أصغى لها فصوت البندير غطى عليها وصرف الذهن عن التفطن لها. ولكنها تنجح في شد اهتمام القارئ لتصوير معاناة الشخصيات في واقع مجهول يثيره لتتبع أصداء صوره.
"قدرك أن تعيش في الظل، لن تقطف ثمرة تشتهيها، تنسحب بهدوء وقد ارتسمت على شفتيك ابتسامة دون التفاتة للوراء دون أن تترك كلمة تدل عليك ستكون ظلا لتاريخك شبحا لنهايتك".
يشير الكاتب إلى معاناة اليوسفيين أيضا وتجريدهم من أرزاقهم وملاحقتهم، وحولهم إلى شخصيات هلامية تتفسخ ملامحها وهي تختفي في المخازن وتتخفى عن عيون العسس، رغم شحوبها بقيت تحتفظ بتفاصيل ملامحها وتمرر معاناتها عبر الأجيال عبر كتابات مغمورة مطمورة في غياهب النسيان. لترميم فجوات التاريخ وإعادة كتابة وتصوير ما خفي منه باستهداف السارد لدولة الاستقلال والوافدين الجدد بعد حل نظام البايات وسلوك الفئات السياسية الجديدة الذي رآه مستهجنا. 

انكسارات سياسية في تونس
استرجاع إرث قديم تجاوزته الأحداث

من الصور المستفزة في الرواية التبول على باب منزل الراوي، والكتابة على جدرانه كلمات فاحشة مصحوبة  بالصور البذيئة، وتبييض الجدران بالجير قبل أن يستيقظ الطفل الراوي، ليعكس تغير وجه المدينة بالممارسات الجديدة المفتقدة للوعي. فاللوحة الخارجية للمنزل انعكاس لواجهة المدينة نفهم منها طغيان ألوان جديدة داكنة قاتمة منفرة، فجة، أي ما ترسمه السلطة من ألواح منافية للوعي والذوق والجمال هي رسائل متسلطة مهددة، للتعبير عن واقع مرسوم بالفحم. ولكن ثمة رؤى جمالية يختزنها الراوي المندرج من أسرة لها روابط بالفن والجمال والفكر والصحافة وهي ميزات عرفت بها النخبة التركية في تونس وخاصة حين يتعلق المجال بالتعبير بالعواطف والأحاسيس في واقع جديد يوزع عليهم مشاعر الحقد والكراهية.
"عندما اكتشفت الحب لم يكن شعورا بالرفاهية، إذ رأيت يوما القمر يصعد من البحر  كدائرة ذهبية"،  فلم يغادر الماء وبقي مفتونا بالمشهد، وكانت الفتاة تمثيلا لذلك القمر البحري. فالشعور بالحب تشكل بتمثل صورة ضوئية تنبلج من الماء، كتطهير لكل رواسب العفونة والقبح التي يعيشها الراوي وعائلته في الواقع، فالصورة تستنهض صورة سيكولوجية لنفس وجدت ما يجذبها للحياة وتقذف فيه نوارا جميلا، صورة مرئية انطباعية، الجسم شفاف يشع وضوحا، ورسم الإحساس بالحب مصمما على رسم دائري مضيء متخذا شكلا فنيا جذابا. فشبه نفسه بالطائر بعد موت أنثاه ورفض الخروج من القفص وتذكرها يمنعه من الطيران.
وصورة الطائر في قفص يضعنا في صورة أخرى يغيب عنها الضوء تعبر عن ملامح نفسية قاتمة، وبذلك يمثل نفسه بالجزء المظلم من الصورة التي تتحول إلى ظل حقيقي كلما غابت عنها مصادر الإضاءة الخارجية، وهذا يضعنا أمام صورة أخرى في الرواية حول تلك الفتاة الصلبة التي تغيب عنها ملامح الأنوثة باستثناء ارتدائها فستان أختها وهي من كانت تدافع عنه من شرور الأطفال الشرسين.
فشبه روحه تبكي كقصر مهجور انقطع عنه الماء فغاص في صمت مميت. فهو يوزع الظل على صورة تشير إلى السخاء والحياة الباذخة إلى أخرى دون قيمة فالظلال تغطي أحجام القصر وأشكاله من كل الجهات، فاللون الأسود قد تدرج والتهم المشهد.
ما نستشفه من خلال رواية "الحب في زمن العار" هو غياب القيم في الواقع الجديد نتج عنه غياب سلم القيم في تشكيل الواقع الجديد، فالألوان لم تتدرج من الداكن إلى الفاتح بل تزداد قتامة مع تقدم أحداث الرواية التي تستوعب الانكسارات السياسية في تونس والهزائم العربية وتغير النظم بما يوسع الهوة الفارقة بين الإنسان وروحه. كما تعبر عن عهد انقضى ولن يعود من جديد إلا من خلال خيالات مبدعين يحاولون استرجاع إرث قديم تجاوزته الأحداث.