الحج.. تحصين الشعيرة من أدلجة الدين

الفرق بين التجربة الغربية في تسييس الدين وتجربة الإسلام السياسي هو أن المجتمعات الغربية استطاعت بلورة الحلول المؤسسية الضامنة لحماية الدين والحفاظ على استقلالية الحقل الديني وتميزه بما يعني تحرير الإيمان الديني من قبضة السلط المهيمنة سياسياً واجتماعياً بينما عمل الإسلام السياسي على تحويل الدين إلى أيديولوجيا سياسية تلغي الأبعاد الروحية الجمالية له.

بقلم: عبد الله ولد أباه

انتهى موسم الحج لهذه السنة في أحسن الظروف تنظيماً وأمناً، واستطاعت السلطات السعودية أن تحقق هذا الإنجاز الكبير، محافظة على نهج تجنيب هذه الشعيرة المحورية تجاذبات السياسة وصراعاتها.

من قرأ رحلات الحجاج في القرون الوسطى وبدايات العصور الحديثة أدرك أهمية هذا الإنجاز التاريخي الذي اضطلعت به الدولة السعودية منذ توليها رعاية الحرمين، فقد كان الحج مجازفة كبرى ومخاطرة غير مأمونة إلى حد أن الفقهاء في بلاد المغرب أفتوا في بعض الأحيان بإسقاطه شرعياً لعدم توفر شرط الأمن.

من الفرية إذن اتهام السلطات السعودية بتسييس الحج، بل الصحيح أنها وقفت دوماً دون محاولات تسييسه التي سعت إليها تيارات الإسلام السياسي وإيران بعد الثورة الخمينية عام 1979. لقد اعتبرت حركات الإسلام السياسي الحج تظاهرة جماعية قابلة للاستثمار للتعبئة الأيديولوجية في حين حولتها الأيديولوجيا الثورية الإيرانية إلى مناسبة لإعلان ما يدعى بالبراءة من الشرك تحريفاً للسياق القرآني المرتبط بمسار البعثة النبوية وفتح مكة المكرمة.

هذا التصور الأيديولوجي للعبادات الدينية يعبر عن تحول نوعي في ا التأويل للدين نادراً ما يتم الكشف عنه. فلقد انتقل الدين في هذا المنظور الجديد المحرف من دلالة صلة العبودية والعبادة لله من خلال الشعائر الملزمة المفروضة، إلى دلالة الرمزية الاجتماعية بالبحث عن أغراض وغائيات خارجية يشكل الدين النسق المقدس المتبني لها بعدياً لا المقنن لها. وهكذا يصبح الحج مؤتمراً سياسياً عاماً لتناول قضايا الأمة ومستجداتها، بدلاً ما نص عليه الفقهاء الأقدمون من قبل كونه قربةً روحية تطهر المؤمن من الخطايا والآثام تجديدًا للعهد الإبراهيمي الذي هو عهد التوحيد الخالص والحنفية الصافية.

لقد بين عالم الإنتربولوجيا الأميركي «طلال أسد» في كتابه «جينالوجيا الدين» أن المقاربة التأويلية للإسلام تأثرت بالمسار الذي عرفه التقليد المسيحي الغربي من حيث تغير مفهوم الدين نفسه الذي انتقل من التصور الشعائري التعبدي المرتبط بترويض الجسم وتوجيه السلوك الخلقي إلى دلالة المعتقد الفردي والرمزية الاجتماعية، بما انعكس في نماذج العلوم الإنسانية المعاصرة التي اختزلت الدين في وظيفته الاجتماعية كدعامة للنظام الترابطي المندمج. هذا التصور الاجتماعي الرمزي للدين لا ينفصل عن تقليد «الديانة الطبيعية» الذي برز في فكر عصر الأنوار الأوروبي بما يعنيه من تخليص الديانات المنزلة من مقوماتها العقدية والشعائرية ومن أرضيتها الجمعية (الأمة بمفهوم الجماعة التعبدية الدينية) للإبقاء على الرمزية القيمية العامة التي يعتقد أنها النواة الكونية للنسق الديني في عمومه في ما وراء اختلاف الملل والنحل، ومن ثم تهيئة الأرضيّة لتعويض الدين نفسه بالأيديولوجيا السياسية التي تجسد المطلق الديني في المطلق السياسي، الذي هو الدولة القومية الكونية.

بيد أن الفرق الكبير بين التجربة الغربية في تسييس الدين وتجربة الإسلام السياسي، هو أن المجتمعات الغربية استطاعت بلورة الحلول المؤسسية الضامنة لحماية الدين والحفاظ على استقلالية الحقل الديني وتميزه بما يعني في الآن نفسه تحرير الإيمان الديني من قبضة السلط المهيمنة سياسياً واجتماعياً، بينما عمل الإسلام السياسي على تحويل الدين إلى أيديولوجيا سياسية تلغي الأبعاد الروحية الجمالية والقيمية في الدين بتحريفه إلى مجرد دعوة سياسية تعبوية تثير الفتنة في المجتمع وتقوض البناء الأهلي الحاضن للدين.

لا يعني الأمر هنا نفي النتائج والآثار العملية للحج من حيث هو أكبر تجمع للمسلمين بصفته موسماً سنوياً حاشداً للقاء والتعارف بين أبناء الدين الواحد من مختلف الأجناس والقوميات والأوطان، وإنما رفض التوظيف السياسي لهذه الشعيرة المقدسة التي يجب أن تبقى دعامة لوحدة المسلمين وتضامنهم لا مناسبة للتفرقة وبث الكراهية والفتنة على أساس المواقف السياسية والاصطفاف الأيديولوجي.

في تعريفه للمقدس يذهب الفيلسوف الفرنسي «رجيس دوبريه» إلى القول إنه هو «ما يفرض التضحية ويمنع الانتهاك»، ولذا فهو يكرس ارتباطاً زمنياً محدداً بين مجموعة بشرية معينة وموضوعات وأماكن وأشخاص لأجل تدعيم الهوية المشتركة للجماعات. ومن هنا يندرج الحج في سياق المقدسات الجماعية التي لا يخلو منها مجتمع ولا أمة قديماً وحديثاً، ومن ثم فإن الاستغلال الأيديولوجي للمقدس يدنسه في رمزيته العميقة، ويفتح الباب أمام انتهاكه وتقويضه، وذلك ما قصدنا إليه من التنبيه إلى ضرورة الحفاظ على قداسة الحج وتجنيبه التدنيس السياسي.