الحرب الإسرائيلية - الإيرانية: فصل جديد في تاريخ المنطقة
رجّح الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الثاني عشر من يونيو 2025، أن تُوجّه إسرائيل ضربة عسكرية لإيران، لكنه في الوقت نفسه أكد أنه لا يرغب في أن تقدم إسرائيل على مثل هذا الفعل، معربًا عن حرصه على تجنّب أي صراع مع طهران. وخلال مؤتمر صحفي، أشار ترامب إلى أن الضربة الإسرائيلية تبدو “وشيكة” وقابلة للحدوث، لكنه استدرك بالقول: "أود تجنّب الصراع.. سيتعين على إيران أن تتفاوض بجدية أكبر، وهو ما يعني أنها ستضطر إلى تقديم شيء لا ترغب في تقديمه لنا حاليًا."
وجدد ترامب دعوته لإسرائيل إلى عدم شن هجوم على إيران، مشيرًا إلى أن واشنطن وطهران باتتا قريبتين من التوصل إلى اتفاق نووي.
وكان من المقرر عقد الجولة السادسة من المفاوضات النووية يوم الأحد الماضي في سلطنة عُمان، إلا أنها أُلغيت. وفي الأثناء، صرّح ترامب "لا أريد لإسرائيل أن تتدخل، لأنني أعتقد أن ذلك قد ينسف الأمر برمّته." وهي تصريحات متباينة فسّرها البعض على أنها تمنح إيران تطمينًا، خصوصًا أن أي عملية عسكرية عادة ما تُنفذ بعد فشل المسار التفاوضي، لا أثناء استمراره.
وفي المقابل، لم يبدُ أن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي قد التقط الإشارات الكامنة في تصعيد المواقف، حين قال تعليقًا على بيان الوكالة الدولية للطاقة الذرية "سيزيد قرار الوكالة من تعقيد المحادثات النووية مع الولايات المتحدة" وذلك في وقت تتنامى فيه المخاوف الغربية من سعي إيران لتطوير قدرات نووية عسكرية، وهو ما تواصل طهران نفيه رسميًا.
تُخصّب طهران اليورانيوم حاليًا إلى درجة نقاء تصل إلى 60 في المئة، وهي نسبة يمكن رفعها بسهولة لتبلغ 90 في المئة التي تعتبر العتبة اللازمة لإنتاج السلاح النووي. ووفقًا لتقديرات الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فإن إيران، إذا واصلت التخصيب عند هذا المستوى، ستتمكن من إنتاج كمية من المواد تكفي لصنع نحو عشرة رؤوس نووية. وقد أعلنت الوكالة أنها غير قادرة على تقديم ضمانات كاملة بأن البرنامج النووي الإيراني ذو طابع سلمي، مشيرة إلى أن لا دولة أخرى في العالم بلغت هذا المستوى من التخصيب دون أن تنتهي إلى إنتاج السلاح النووي.
وجاء الإعلان الإيراني، يوم الخميس الماضي، عن افتتاح منشأة ثالثة جديدة لتخصيب اليورانيوم، كخطوة أثارت ردود فعل دولية متوترة، واعتُبرت تحديًا مباشرًا للوكالة الدولية للطاقة الذرية.
في هذا السياق، بادرت إسرائيل إلى تنفيذ عملية مباغتة يوم الجمعة، 13 يونيو 2025، استهدفت فيها عددًا من القادة العسكريين الإيرانيين، وضربت مفاعل نطنز النووي، أحد أهم المنشآت وأكبرها في مشروع إيران النووي، والواقع في قلب البنية التحتية لتخصيب اليورانيوم.
اللافت أن تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي أدان إيران لعدم امتثالها لمعاهدة حظر الانتشار النووي صدر في اليوم نفسه الذي عقد فيه الرئيس ترامب مؤتمرًا صحفيًا. وقد أيدت النص المُعدّ من قبل لندن وباريس وبرلين وواشنطن، تسع عشرة دولة من أصل خمس وثلاثين، بينما عارضته الصين وروسيا. تُعد هذه الإدانة الخطوة الأولى من نوعها منذ عقدين، ما ينذر بإمكانية إعادة فرض العقوبات الدولية على طهران، وهي خطوة استغلتها إسرائيل كغطاء قانوني ودبلوماسي لتحركاتها العسكرية الأخيرة.
بذلك، تمكنت إسرائيل من استهداف رأس المشروع النووي والعسكري الإيراني، وضربت مفاعل نطنز، المركز الحيوي للتخصيب. وتستند دوافعها إلى الخشية من أن يؤدي وصول طهران إلى السلاح النووي إلى سباق تسلّح إقليمي.
منذ زيارة الرئيس ترامب إلى السعودية وقطر والإمارات، بدت ملامح مشروع طموح يهدف إلى البناء والتنمية، وإلى عقد شراكات إستراتيجية مع الولايات المتحدة، من أجل تحويل دول الخليج إلى قطب اقتصادي فاعل، وتحويل الإنفاق إلى استثمار طويل الأمد من شأنه قلب الموازين في المنطقة لصالحها ولصالح الاستقرار العالمي. غير أن بعض الأصوات، عن جهل أو عن قصد، ذهبت أبعد من ذلك، مدعية أن تلك الأموال قد ذهبت سدى، وأن الخليج وقع ضحية خداع باسم الحماية والدفاع.
اليوم، تبدو المعادلة وقد انقلبت، واتضحت خيوط الصورة؛ فما وصفه البعض بـ"العبث المالي" انكشف عن كونه إستراتيجية ناعمة تحولت إلى ضربة قاصمة، تسطر فصلًا جديدًا في تاريخ المنطقة. فالعملية العسكرية الإسرائيلية الأخيرة لم تكن مجرد عملية بالوكالة عن الغرب، بل جاءت بمثابة إعلان صريح عن انهيار المشروع الإيراني من الداخل والخارج.
إيران تجد نفسها اليوم في مأزق تفعيل القوة: تمتلك ترسانة صاروخية ضخمة، لكنها مقيدة بتوازنات الردع المتبادل. استخدام تلك القوة بشكل مكثف قد يؤدي إلى توسيع نطاق الحرب الإقليمية وربما الانزلاق إلى صراع عالمي، في حين أن ردًا محدودًا سيفقدها ميزة الردع و"هيبة القوة".
لم تكن الضربة الإسرائيلية تقليدية في بعدها الناري، بل مثّلت اختراقًا نوعيًا لسيادة إيران الخوارزمية والتقنية والأمنية والنووية. لم تكن مجرد لحظة انكشاف للبنية الأمنية، بل لحظة انكشاف للعقل الإستراتيجي الإيراني ذاته، ذلك الذي انشغل بالتوسع الأيديولوجي الخارجي على حساب تعزيز الصلابة الداخلية.
لقد كشفت الضربة عن هشاشة البنية الأمنية والسياسية في الداخل الإيراني، خاصة أن استهداف القيادات العسكرية أدى إلى تفكيك الذاكرة العملياتية، وخرائط النفوذ، ومرجعيات اتخاذ القرار، مما شلّ قدرة النظام على التعامل مع ضربات لاحقة.
ويبدو أن هذه الهشاشة نابعة من بنية عقائدية عسكرية اختارت الاستثمار في الحرب غير المتماثلة، وبناء منظومات تعمل في الظل، دون أن تسندها قوة نظامية تقليدية صلبة قادرة على الدفاع أمام هجوم مباشر عالي التقنية. وبهذا، تتبدى فجوة عميقة بين طموحات إيران التوسعية، وأدواتها القادرة فعليًا على الصمود في وجه حرب مركّبة مثل هذه.