الحرب الممنوعة في غـزة

سباق في ضبط النفس بين الإسرائيليين والفلسطينيين.

اشعال الحروب ليس كإطفائها بالطبع. من السهولة أن تنزلق إحدى الدول أو التنظيمات إلى معركة مسلحة وتورط معها جهات أخرى، لكن من الصعوبة تحديد المدى الذي يمكن الوقوف عنده وتحجيم القوى المنخرطة في الصراع.

بعد أن كانت الحرب المحدودة ملاذا لهروب قادة إسرائيل في موسم الانتخابات، أصبحت مرفوضة أو متحفظا عليها اليوم، لأن التداعيات السلبية تفوق الإيجابيات. ولم تجد فيها حركة حماس فوائد سياسية كبيرة يمكن أن تحصدها من ورائها.

الجهود التي تبذلها مصر ومعها الأمم المتحدة، لمنع نشوب حرب في قطاع غزة، قطعت شوطا كبيرا لتثبيت التهدئة الأمنية، ووجدت تجاوبا من قبل الأطراف المعنية لتجنبها. وأبدت الحكومة الإسرائيلية وحماس مرونة لقطع الطريق عليها. وهي من المرات النادرة التي يتفق فيها الجانبان على تحاشي سيناريو كان خيارا أساسيا في أوقات كثيرة.

بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي لا يرغب هذه المرة دخول حرب عواقبها مجهولة، وربما تضاعف من جراحه السياسية وهو مقدم على انتخابات مصيرية، أكدت استطلاعات الرأي أن حظوظه في تحقيق فوز ساحق غير مضمونة. وبدلا من اللجوء للحرب لرفع أسهمه، سعى إلى عدم الوقوع في فخاخها المنصوبة له داخليا.

في مثل هذه الحالات لجأ مرشحون سابقون للقفز على الحواجز السياسية والهروب إلى الأمام من خلال شن حرب متواصلة أو متقطعة على غزة، والجري وراء استعراض القوى وعدم التردد في التلويح بها، كي يتم الحصول على تأييد واسع من اليمين المتطرف الذي يطرب المنتمون إليه للمعارك وضجيجها وضحاياها.

لكن نتنياهو يعمل على الفرار من كل ذلك حاليا، ويدرك أن الحرب لن تكون نزهة ولن تصب في مصلحته تماما. وقبل على مضض استقبال صواريخ من المقاومة الفلسطينية سقطت قريبة من بيوت المستوطنين في الأراضي المحتلة من دون الرد عليها بالأدوات المعتادة من القسوة والشراسة.

حماس، التي درجت على التفاخر بإطلاق صواريخ جناحها العسكري المعروف بعزالدين القسام، على إسرائيل، تعمدت التنصل منها الأيام الماضية، واعتبرت ما خرج من القطاع على سبيل الخطأ، وقدمت تبريرات فنية وسياسية لعدم توفير حجة لاستهدافها، والإيحاء أنها على استعداد للتعايش مع السلام ومتطلباته، إذا التزم الطرف الآخر بجزء منه.

الليونة الظاهرة على أداء قيادة حماس في غزة، تعزز الطقوس البرجماتية التي ساعدتها كثيرا على تجاوز بعض العقبات، خاصة في المحكات المحورية، والتي تفرض عليها التعامل بقدر من الرشادة، لأن المناطحة والمواجهة أحيانا تجلب نتائج عكسية.

وعندما وجدت الأجواء المحلية أشد قتامة لجأت إلى اتخاذ تدابير متعددة لتحاشي عاصفة إسرائيلية، تضطرها إلى تقديم تنازلات في معركتها الطويلة مع السلطة الفلسطينية.

الفرار من الحرب، ربما يكون العنوان المشترك في سيمفونية طويلة أدمنها غالبية قادة إسرائيل وحماس، لكل طرف دوافعه الخاصة التي تختلف عن الآخر، لكن في المحصلة النتيجة واحدة، لأن وقوع صدام مسلح في ظروف إقليمية تتسم بدرجة عالية من السيولة سوف يكون وبالا على الجميع، بصرف النظر عن أسباب اندلاع الحرب ودوافعها وتفسيرات الانجرار خلفها.

البيئة العامة في المنطقة ملبدة بغيوم عسكرية وسياسية، عجزت الكثير من القوى على فك طلاسمها، ولن تستطيع تحمل مواجهة قد تتجاوز حدود غزة، في ظل وجود قوى متربصة ترى في الحرب أداة لتخفيف حجم الضغوط الواقعة عليها، ما يخلط أوراق مختلفة تم تجهيز ملامحها لترتيب بعض الأولويات في المنطقة.

كما أن نتنياهو يعتقد أن ما حققه من اختراقات معنوية في الدائرتين العربية والأفريقية، من الممكن البناء عليه للحصول على تمدد سياسي عبر تطوير العلاقات مع دول مهمة، بينما يقود نشوب حرب إلى خسارة هذا التوجه، وربما تعود بعض القيادات العربية لعادتها في عدم مصافحة إسرائيليين في العلن وبقائها في السر، وهي الخطوة التي تم كسرها السنوات الماضية، وتعول عليها إسرائيل في إيجاد روابط طبيعية.

رئيس الحكومة الإسرائيلية يريد الحفاظ على مكاسب عديدة حصل عليها من الإدارة الأميركية، ويحاول التناغم مع البوصلة التي يقبض على زمامها الرئيس دونالد ترامب، وحققت له جملة من المزايا التاريخية، يصعب تحقيقها من خلال الحرب، ولذلك ينأى عنها في غزة، فهو لا يضمن نتائجها، والأخطر أنه لن يستطيع السيطرة عليها بعد أن تمكنت المقاومة من تطوير آلتها العسكرية.

ضبط زناد البنادق وغرف التحكم في إطلاق الصواريخ وفرملة أزيز الطائرات العسكرية، ومنع انفلات جميع المعدات، خطوات تسير عكس الاتجاه المعروف عن إسرائيل، ويمكن أن تؤدي إلى انهاء الانقسام وإعادة اللحمة الفلسطينية، وضخ دماء نقية في عروق دول عربية ترى عدوانا سافرا في الاعتراف الأميركي بمنح إسرائيل الحق في الاستحواذ على هضبة الجولان السورية.

كذلك حماس لم تتخلف عن ضبط النفس، ولم تنجر وراء دعوات تخفيف مشكلاتها الداخلية بجر إسرائيل إلى الحرب في القطاع، حيث تأكدت أن الرد هذه المرة سوف يكون أكثر كلفة، ويفضي إلى فقدان المقاومة مخزونها الاستراتيجي من الأسلحة، التي تعزز موقف قيادتها السياسية في مواجهة حركة فتح.

الاتهامات التي تلاحق حماس بشأن علاقتها بإيران، تكبح جانبا من الاتجاه نحو الحرب، لأن طهران يمكن أن تجني أرباحا كبيرة، إذا اندلعت مواجهة مسلحة في غزة، تلفت الأنظار إلى القطاع ورواسبه القديمة، وتخطف الأضواء من اتخاذ تدابير إقليمية ودولية لتفكيك الوجود الإيراني في الأراضي السورية.

معادلة إيران في المنطقة واحدة من الكوابح الرئيسية للحرب على غزة. وجدت فيها إسرائيل بابا للتفاهم مع بعض الدول العربية، ووسيلة لصرف الأنظار عن انتهاكاتها، وتقديم منهج العدو المحتمل على الفعلي. كما أن حماس تريد الاحتفاظ بمسافة بعيدة عن محور طهران، كي لا تعاقب سياسيا بالمنطق العربي الذي يحكم التعامل مع القوى المنتمية لهذا المحور.

الحرب ستبقى مرفوضة وممنوعة وملعونة في غزة، ما لم تحدث مفاجآت تؤدي إلى حدوث خلل في التفاهمات الضمنية للتهدئة بين إسرائيل وحماس. وقتها يمكن أن تدخل المنطقة معركة يصعب السيطرة على روافدها العسكرية والسياسية.