"الحشد الشعبي" حصان طروادة الإيراني

حققت إيران من خلال ميليشياتها ما تعجز عن تحقيقه جيوشها.

بعد أيام من سيطرة تنظيم داعش على الموصل، وإنسحاب الجيش منها دون قتال، أعلنت الحكومة العراقية عن تشكيل ما يُسمى بهيئة الحشد الشعبي، بناءً على فتوى ما يُسمى بالجهاد الكفائي، التي أطلقتها المرجعية الشيعية، وجاءت كطوق نجاة لميليشيات المرتزقة التي تم تشكيلها وتمويلها وتدريبها من قبل إيران في السنوات التي سبقت داعش، وكانت تمارس دورها التخريبي الطائفي في الظلام، وتتحيّن الفرصة لتظهر الى النور وتمنح نفسها الشرعية. وليس هناك أسهل في مجتمع ديني ومحيط طائفي من شرعية الدين والمذهب التي تمنح صاحبها قُدسية زائفة! لذا إنضَوَت أغلب هذه الميليشيات تحت مظلة ما بات يسمى بـ"الحشد المقدس"! وشاركت مع القوات الدولية والجيش العراقي في قتال داعش، لكن فَرقها عنهم هو أنها كانت تتصرف بوحشية، وإرتكبت جرائم حرب ضد السكان المدنيين في المدن المحتلة. وحين قام العراق بدمجها في الأجهزة الأمنية بعد إندحار داعش، لم يعنِ هذا أن مرتزقتها قد تم إقصاؤهم، كما كان يُفترض أن يحدث مِن قِبَل أي دولة تحترم نفسها! بل حصل العكس وبقيت وترَسّخ وجودها، رغم أنها على شاكلة داعش ومن نفس طينته، بحجة مشاركتها بالقضاء عليه، وها هي اليوم تُهَدِّد السلم الأهلي في العراق، وتمنع إستقراره، وتساهم في بقائه كدولة فاشلة.

إن قوام ميليشيات الحشد اليوم هو حوالي 250 ألف مُسَلّح، مما يجعل منها عامل مؤثر في الإنتخابات البرلمانية. فما يسمى "تحالف الفتح" الذي يقوده هادي العامري هو الذراع السياسي للحشد. وحين جاء بالمرتبة الثانية بإنتخابات 2018، تحالف مع مقتدى الصدر، وإتفقا على تنصيب عادل عبدالمهدي رئيساً للوزراء، والذي كان أول قراراته تحويل الحشد الى كيان تابع للقوات المسلحة، ويخضع لأنظمتها. كان يُفترض بهم بموجب هذا القرار إغلاق المقرات، ونقاط التفتيش، وما يُسمّى بالمكاتب الاقتصادية، لكن أي من هذا لم يحدث. وعلى الرغم من أن قرار عبدالمهدي قُرِأ على الورق بأنه يزعزع قوة الحشد، إلا أن قادة ميليشياته رحبوا به لأنهم يعلمون أن الهدف من ورائه تحويل ميليشياتهم الى نموذج للحرس الثوري في إيران، وحزب الله في لبنان! لذا وصَف زعيم ميليشيا العصائب قيس الخزعلي القرار بأنه خطوة بالإتجاه الصحيح. أما المتحدث بإسم سرايا السلام التابعة للصدر فقال: "سنتخلى عن إسم سرايا السلام، وسنتبع تعليمات الحكومة". كما صرحت كتائب حزب الله، التي تعتبر فرع لميليشيا حزب الله اللبناني، إنها ستمتثل للأمر. إن موافقة الميليشيات على قرار الحكومة، جاءت لتوفيره لهم شرعية دستورية مِن البرلمان ومِن الدولة! الى جانب شرعية دينية أكتسبوها من فتوى السيستاني! لذا المفارقة هي أن بعض الميليشيات التي باتت بموجب القرار جزءاً من الحكومة العراقية الحليفة لأميركا! ككتائب حزب الله مثلاً! كانت على قائمة الإرهاب الأميركية لسنوات، بالتالي يصبح قيام الولايات المتحدة بأي عمل عسكري ضدها هجوماً على قوات تابعة للدولة رغم أنها ليست كذلك! وهو ما حدث بالفعل حين إستهدفت الولايات المتحدة عَرّاب هذه الميليشيات سليماني ومساعده المهندس قرب مطار بغداد. فحينها وجدت الحكومة العراقية نفسها بين حانة ميليشيات منفلتة محسوبة عليها ثارَت لمقتل عَرّابيها، وبين مانة قوات حليفة ترى أنها نفّذت عملية نوعية ضد مُجرِمَين مُتّهَمين بالإرهاب!

لم تعُد الميليشيات الشيعية ناشطة سياسياً ومسلحة جيداً فحسب، بل بات لديها اليوم إستثماراتها، وحتى جامعتها وفِرَقها الرياضية! وباتت تملك موارد مالية هائلة، من خلال مكاتبها الاقتصادية، التي تسيطر على شركات ومصانع بجميع أنحاء البلاد، باتت مصدر دخل لها ولراعيتها إيران خلال فترة الحصار الذي فرضه عليها الغرب بسبب الملف النووي. كما تملك اليوم بنوكا، وتنشط في قطاع النفط. ولديها شبكة واسعة تسيطر على تجارة المخدرات، مسؤولة عن الكميات الهائلة من الكرستال الذي يغرق جنوب العراق. بالإضافة الى سيطرتهم المُطلقة على مدن جنوب العراق، هم مؤثرون أيضاً في المناطق التي كانت تحت سيطرة داعش. على سبيل المثال الموصل وما حولها حيث تجمَع الميليشيات "أتاوات" عند نقاط التفتيش، وإستولت على عقارات كانت مُلكاً لأولئك الذين فَرّوا من تنظيم داعش ولم تُعاد إليهم. ووصل الأمر الى قيام مرتزقتها بفرض تخلّفهم، عِبر حظر حفلات الزفاف وغيرها من الاحتفالات، خلال المناسبات الشيعية التي تسودها أجواء الحزن، وتعُمّها مظاهر اللطم والعَويل والنواح، وتتم محاسبة كل من يَشُذ عن هذه القاعدة، بل وحتى رفع دعاوى قضائية على قنوات فضائية لا علاقة لها بالتشيع، لإذاعتها أغاني أو حفلات موسيقية خلال هذه المناسبات!

حينما قامت إيران بتشكيل الحشد، فإنها إتبعت بذلك نموذجاً أثبت نجاحه الباهر بعد تجربته في داخل إيران أولاً، ممثلاً بالحرس الثوري وما يسمى بفيلق القدس، الذي أطلقت عليه هذا الإسم لدغدغة مشاعر عوام الدول العربية والإسلامية، وبالتالي تسهيل مهامه وتبرير تدخله في شؤون بلدانها دون إعتراض، بإعتباره سيُحرر لها القدس! بدليل أنه قد تأسس منذ أربعة عقود، وبدل تحرير القدس، إحتل دول العربية المحيطة بها، وتركها بقبضة إسرائيل! ثم تكرر النموذج في لبنان، ممثلاً بأقدم وأقوى ميليشيا شكلتها إيران في الشرق الأوسط، وهو حزب الله، الذي يمثل أقوى قوة عسكرية وسياسية في لبنان، والعامل المُخَرّب لإقتصاده، والمُشَوّه لنسيجه الإجتماعي، والمُعَرقل لإستقراره. واليوم ما يَسري في أغلب المدن العراقية هو ما يقرره الحشد، لا ما تقرره حكومة بغداد. فالحشد يمثل دولة داخل الدولة العراقية، وقياداته التي تحركها إيران هي حكومة ظل، وإيران تريد بقائه ليس لفرض إرادتها على الطبقة والعملية السياسية العراقية وتوجيهها كما تريد خدمة لمصالحها، فحَسب، بل وكذريعة لظهور تنظيم سني مُتطرف كداعش وقتما تريد، كما شَكّلته كذريعة لقتاله! بالتالي وجوده بالنسبة لها ضرورة لإستمرار التوترات الطائفية التي تتسبّب بها ممارسات ميليشياته العدوانية بحق سكان المنطقة الغربية، لأن مرادهم هو إضعافها بما فيها من حرث ونَسل وبنى تحتية، بل وإبادتها وإلغائها من الخريطة لو أمكنهم ذلك.

لم يكن ما فعلته عمائم قم سهلاً، لأن تحقيقه أقرب الى المستحيل، بأن تحتل بلداً وتدمره بأبنائه دون أن تحرك جندياً واحداً من أبناء بلدك! وقد حقّقته بدقة ونسبة نجاح خرافية! طبعاً إحتاج الأمر الى سنين مِن التخطيط والصَبر وطول البال، وهي صفات معروفة لدى الإيرانيين، ولا يمتلكها العراقيون، بل يمتلكون نقيضها، من سوء حسابات وتخطيط وتهور في التفكير وتطرف في المشاعر، ونجحت في توظيف هذه الصفات السلبية لصالحها. وقد صَنَعت وفَصّلت لكل بلد تسعى لغزوه وتدميره، حصان طروادة الخاص به، مُمَثلاً بكيان هجين يَدّعي نُصرة الإسلام والدفاع عن المذهب، التي سارع لإمتطائها طواعية ملايين المسلمين، وأولهم العراقيون الذين جَهّزت لهم حصان الحشد. هنا تفوقت حتى على الإغريق أصحاب فكرة حصان طروادة الأصلية الذين أرسلوا جُندهم داخل الحصان، وهو ما لم تضطر إيران لفعله بوجود مرتزقتها من العراقيين في حصان الحشد، ومثلهم مِن اليمنيين في حصان الحوثي، واللبنانيين في حصان حزب الله.

بدأت إيران بتربية مرتزقتها من العراقيين منذ الثمانينات، وجندتهم في ميليشيا شكلتها بإسم فيلق بدر، وشاركوا مع جيشها في قتال أبناء بلدهم بالخطوط الأمامية. وهناك فيديو يظهر أحد زعماء العراق والحشد اليوم، وهو يتوعد العراقيين ويجدد ولاءه للخميني. بعد 2003 عَملت على إضعاف الجيش العراقي وتصفية قياداته، وضاعفت جهودها لتشكيل عشرات الميليشيات، التي ضَمّت أراذل المجتمع العراقي، وفتحت خطوط تواصل معها جميعاً! بل ونجحت في كسب مرتزقة لها بين السنة والأكراد والمسيحيين. حينها لم يعد ينقصها سوى حِجّة لمَنح هذه الميليشيات شرعية تجعلها، أولاً مقبولة لدى العراقيين، ثم حاكمة لهم برغبتهم! فأوجدت تنظيم داعش عِبر تهريب عناصره من السجن بتواطؤ حكومة حليفها المالكي، ومع فشل ثلاث فرق من الجيش العراقي كانت متواجدة في الموصل في مواجهة 1000 من عناصر التنظيم، بعد إنسحابها بناءً على أوامر المالكي، وإستيلائهم على المدينة، باتت الأرض سالكة لها لتوفير الشرعية لهذه الميليشيات. فبين ليلة صَحا المرجع السيستاني من غفوته، ليُعلن فتوى الجهاد الكفائي بحجة حماية المقدسات الشيعية التي لم تمَسّها داعش، في حين دمّرت ما عداها في المدن التي إجتاحتها! لكنه نسي أن يلغيها بعد دَحر داعش، ربما لأنه عاد الى غفوته! وبين ضُحاها خرج المالكي ليُعلن تشكيل الحشد من ميليشيات حاربها بنفسه يوم كانت تهدد حكمه! كانت الحجة ضُعف الجيش وأنها ضِد نوعي لداعش، وبهذا حَصُلت على صَك قبول لدى العراقيين.

بعد القضاء على داعش، ورغم أن دورها فيه كان هامشياً مقارنة بدور الجيش العراقي والقوات الأميركية، رَوّجت للأمر على أنها كانت رأس الحربة بالقضاء على داعش، وبدأت تروج لخطابها الوضيع، ليس فقط بحق أبناء المدن الغربية والشمالية، بل وحتى الجنوبية، والذي تقول فيه: "نحن حَمَينا أعراضكم بدمائنا، ولولانا لهُتِكت مِن الشيشاني والأفغاني، وإذا لم تسلمونا الحُكم ستعود داعش وتنتهك أعراضكم". أمام سلبية العراقيين بين طائفي مخدوع بخطابها وساذج متعاطف معها وهُم غالبية، ومُسالم يخاف منها وهم قِلّة، تغَوّلت سياسياً وإقتصادياً وإجتماعياً ولم يَعد أحد قادراً على إنتقادها، ومن يَجرؤ على ذلك هو عميل أميركي صهيوني سعودي، مَصيره التصفية. كما حصل مع شباب تشرين، الذين إتُّهِموا بالعمالة للسفارات، وتمت تصفية المئات منهم بيَد الميليشيات، دون أن تحرك عوائلهم وعشائرهم ساكناً! هي اليوم المُتَحَكّم في تشكيل حكومات العراق وتقرير مصيره ورسم سياساته، حتى لو خسرت بالإنتخابات، وحينما تواجَه بأن إستحقاقها الإنتخابي حسب صناديق الإقتراع لا يُقِر بذلك، يجيب قادتها بصفاقة أن إستحقاق الدماء يتقدم على إستحقاق الصناديق! كما حدث بالإنتخابات الأخيرة التي فاز بها الصدر، وحاول تشكيل حكومة بدونهم، فهدّدوه وكادت البلاد أن تغرق في الفوضى، فإضطر الى الإنسحاب، وشكلوا حكومة على هواهم وهوى إيران.

لقد أحكمت إيران سيطرتها على العراق من خلال الحشد، وحقق لها كل ما يخدم مصالحها ومخططاتها، من تخريب لبنى العراق التحتية أو إستنزاف لموارده أو تجهيل لشعبه، بأفضل وأسهل وأرخص مما كان يمكن أن يفعله لها جيش جرار من مواطنيها. بالتالي هي لا تتحمل المسؤولية عن أفعاله، وبإمكانها دائماً أن تنكر علاقتها به وبها، لأن من يقوم بها مرتزقة حصان طروادة مِن العراقيين الموالين لها ولمُرشِدها!