الحصني يرقب بنتا "تنشر غسيلها على السياج"
قدم الشاعر السوري عبدالقادر الحصني على امتداد مسيرته الشعرية التي انطلقت أواسط سبعينيات القرن العشرين ثماني مجموعات شعرية آخرها صدر أخيرا بعنوان "تنشر غسيلها على السياج" التي أكدت على مواصلة الشاعر تطوير رؤاه وحرصه على خصوصية نسيجه لغة وصورة وفكرة.
وقد قدم الناقد د.محمد صابر عبيد للعمل بدراسة متميزة تناولت مختلف زوايا الجمال والفن في تجربة الشاعر، مؤكدا أن تجربة الحصني في هذه المجموعة "تتجه صوب ما يمكن أن أسميه "الخلاصة الشعرية" التي تنزع عنها كل ما هو زائد ووسيط ومساعد وساند من اللغة، وتكتفي بالجسد النصي المتكامل البرئ المشع الذي يصعب الاستغناء عن أي عضو فيه مهما كان صغيرا، من الحرف إلى الكلمة إلى العبارة وحتى العلامة والإشارة والحركة، كل عضو من هذا الجسد له وظيفة ولا يتكامل الجسد إلا بتكامل الوظائف وحشدها في منظومة شعرية جمالية مشتركة واحدة، وهو ما يمكن أن نصل فيه إلى مصطلح السبيكة الشعرية".
وقال عبيد في دراسته للمجموعة الشعرية الصادرة عن دار خطوط وظلال الأردنية "يتحول الكلام إلى شعر، والشعر إلى سبيكة حين يشف ويتهدهد ويتنغم ويتورد ويصفو ويرتقي مدارج الجمال والرقي بطاقة التعبير والتشكيل والتصوير والتدليل ليبلغ جوهر الجوهر، ولعل مسيرة الشعر الشاقة الصعبة طويلة السلم تبدأ أولا من عتبة اللغة في طبقتها المعجمية الأدنى، وانتقل درجة نحو الأعلى إلى مصاف القول، ثم درجة أعلى إلى ربيع الكلام، ومن ربيع الكلام تنفتح الموهبة على جنة الشعر، وتمر من جنة الشعر بعسر شديد إلى السبيكة الشعرية، فالكثير الكثير منهم يتلبثون في معمعة القول ولا يغادرونها مهما كتبوا ودونوا وتباهوا وسبح بحمدهم واهمون أو دجالون، وثلة منهم ينتقلون إلى طبقة الكلام بعد أن يدركوا أسراره الأولى فيغتنموا رياحهم خير اغتنام، وثلة الثلة من يأخذون بيد الكلام إلى حقل الشعر بعد أن يدفعوا إلى مضايقه ويكشفوا عن عريه السليم النبيل الأصيل الحر الجميل، وكي يصل أحد من ثلة الثلة إلى طبقة السبيكة، فذاك ما لا يتكرر كثيرا في تاريخ شعريات العالم كلها إلا نادرا، لأن السبائك في حصن مرصود ويحرسها عتاة صناع الأساطير ومخترعي الملاحم ومبتكري الغناء وعازفي الناي على سفوح جبال غامضة شديدة الخضرة والنأي".
وأشار إلى أن هذه السبيكة تشكلت في قصائد الحصني وبلغت هذه الدرجة من الثراء بانفتاحها الحر على الفنون الإبداعية المجاورة للتفاعل معها، إذ هي لم تأل جهدا في الأخذ من معين هذه الفنون للارتفاع بمقام السبيكة نحو أعلى المراتب الشعرية وأنقاها وأصفاها.
محمد صابر عبيد يواصل قراءته في مجموعة الحصني كاشفا عن تجلياتها على مستوى اللغة ورؤاها الصوفية وأسئلتها الوجودية
روح هذه السبيكة الشعرية تندفع نحو حساسية صوفية لا تركن إلى المقولات قدر تطلعها نحو الأفق الكلامي الباحث عن معنى. ويسعى الحصني في التقاطاته والتماعاته الشعرية المكتظة المتموجة بأسئلة البحث عن معنى إلى تجنب الضغط الكلامي الوصفي المنساح، كي لا يضيع الراهن الشعري بطبقة غير لينة من الرؤى ما تلبث أن تتمدد أكثر مما يجب فلا تكسب شيئا ولا تخسر الكثير، وعلى صعيد الرؤية والرؤيا سترى هي ما ينبغي أن تراه بأنانية لا تقاوم ولا ترى من حولها، في سياسة أدبية سيميائية تحتفي بتجليات الفضاء اللغوي المبهر على حساب الأناقة الشعرية المطلوبة.
وأوضح عبيد "في التقاطة شعرية عنوانها "أقصى الشوق" يقود الحوار بين الشيخ وتلميذه في حضرة السؤال الذي ينطلق من عتبة الشيخ جهة أفق تلميذه إلى معادلة صوفية ملغزة في اشتباك الضمائر، ولعل لعبة الضمائر واحدة من أكثر الممارسات الصوفية حضورا في فيضان اللغة أو فوضاها، ولا تستكين هذه اللعبة أبدا بل تأخذ مناحي شتى بحسب طريقة كل عامل لغوي يبدأ ولا ينتهي، فتبدأ المحاورة بسيطة في قصديتها وعفوية في منهجها:
هل تعرف يا ولدي أقصى الشوق؟
أقصاه أن أشتاق إليك
لا... "دمع عين الشيخ" ستعرفه في ما بعد.
كان لا بد من تأجيل استدراك الشيخ المنفي "لا" إلى ما بعد هبوط الدمعة واستقرارها في مكانها الطبيعي اللائق. كي يتسنى للشيخ أن يرى أمامه بوضوح بعد أن تصفو عليه ويقص على تلميذه ما بعد "سوف" من مرئيات قابلة للوصف:
سوف يغادر من أحببت،
وسوف تغادر أنت،
وسوف تفتش عنهم حين تفتش عنك،
فلا تلقاك،
وتعرف يا ولدي أقصى الشوق،
فأقصاه أن تشتاق إليك.
تتكرر "سوف" ثلاث مرات، الأول تصف الماحول "من أحببت" والثانية تصف مغادرة التلميذ المخاطب "أنت"، والثالثة جامعة تصف مرحلة البحث عن الاثنين في سياق واحد "تفتش عنهم حين تفتش عنك"، لكن الفاجعة تتكرس في النتيجة التي ترسم صورة الضياع المطلق للضمير وانكسار الحلم "فلا تلقاك" وحين تغيب الضمائر من المشهد الملتبس بين البحث والضياع تبزغ الحكمة الصوفية الملقاة على عاتق التلميذ من عاتق الشيخ، متمثلة بأن صورة "أقصى الشوق" المعلقة في عتبة العنوان تتيه في كلام القصيدة لتصل إلى "أن تشتاق إليك"، بعد أن يتفتت ضمير المخاطب بين هذه التشكيلات "أنت/ عنك/ تلقاك/ إليك" بحيث لن يكون بوسع أقصى الشوق أن يبلغ حاجته مكتفيا بجذوة الكلام وسحر شعريته.
وواصل عبيد قراءته في مجموعة الحصني كاشفا عن تجلياتها على مستوى اللغة ورؤاها الصوفية وأسئلتها الوجودية ومركزا على عناصر السبيكة الشعرية وقدرتها على استكمال صورة اللوحة.
نماذج من قصائد الحصني
أحببت أن أكون وردتها
تقول السماء: ستذبل أنت
فهل وردة طلعت من تراب وماء
أقول: أجل
سأشيخ وأذبل حد الهشيم
ولكن كما وردة حرة في العراء
هنالك، أنأى
وأنأى
وأنأى
إلى حيث يعجز من يقطف الورد
عن وضعها في إناء.
أقصى الشوق
ـ هل تعرف يا ولدي أقصى الشوق؟
ـ أقصاه أن تشتاق إليك
ـ لا... "دمعت عين الشيخ" ستعرفه في ما بعد
سوف يغادر من أحببت
وسوف تغادر أنت،
وسوف تفتش عنهم حين تفتش عنك،
فلا تلقاك،
وتعرف يا ولدي أقصى الشوق،
فأقصاه أن تشتاق إليك!
لو تتزوج
تغمرني بأشعتها كل صباح
تشرب قهوتها عندي
أمس ابتسمت،
قالت: لو تتزوج،
ذات صباح قد لا أستيقظ...
قد أتأخر عنك.
ما ألطف هذي البنت!
ما قالت: قد تتأخر أنت
قد لا تستيقظ ذات صباح.