الحل العربي في السودان

التقط العسكر بذكاء الخيط الذي سيتمكنون من خلاله أن يخلقوا معنى لسقوط دولة الإخوان التي كان البشير يتزعمها.

ما حدث في السودان يقدم صورة بيضاء عن حراك شعبي منظم حرص القائمون عليه على استبعاد العنف كما حرص الجيش من جهته على أن لا يتورط في ارتكاب أية جريمة. وهكذا تمت إزاحة البشير عن السلطة بطريقة سلمية وهو ما لم يكن متوقعا على الاطلاق.

ذلك التحول نقل البلاد إلى مرحلة جديدة، سعى العسكر أن يكونوا حارسها. وهنا حدث خلاف من نوع مختلف. يتعلق ذلك الخلاف بالمساحة التي يجب أن يحتلها العسكر في المرحلة الانتقالية التي صارت توقيتاتها محل اختلاف أيضا. فهناك مَن يتشدد سعيا وراء انتقال الحكم مباشرة إلى سلطة مدنية وهناك مَن يرى في تقاسم السلطة بين المدنيين والعسكر حلا لتفادي الانشقاق والصدام. ولأن أهل مكة أدرى بشعابها فإن ما تخبئه المعارضة للشعب قد يكون فخا. ذلك ما يفكر العسكر فيه وهم ما زالوا يمسكون بزمام السلطة.

فإذا ما كان العسكر قد أوضحوا موقفهم فإن المعارضة ظلت سجينة الشعارات التي تغري الشعب بإنجاز التحول من غير أن تكون واضحة في أهدافها.

قال العسكر إنهم متمسكون بموقعهم لا من أجل السلطة بل من أجل أن لا يسمحوا بانزلاق البلاد إلى الفوضى. وهو كلام منطقي في ظل غياب دولة القانون.

اما المعارضة فإنها ترغب في السلطة في محاولة منها لقطف ثمرة الحراك الشعبي وهي سرقة علنية قد تؤدي إلى انتقال السلطة من فريق اخواني كان البشير يتزعمه إلى فريق أخواني منافس تتزعمه المعارضة.

المعارضة التي ركبت على أكتاف المحتجين على سوء الأوضاع المعيشية لا تفكر في ما يفكر فيه المحتجون. لفد رتبت أحوالها في مسايرة أصوات المحتجين في ما هي في الحقيقة تخطط لإقامة امارتها الدينية. تلك الامارة التي فشل البشير في إقامتها حتى بعد أن تخلى عن جنوب السودان.

في ذلك السياق يبدو الحديث عن دولة مدنية كما لو أنه نوع من الاحتيال على الحقيقة. فالمعارضة الإخوانية تتستر بشعار الدولة المدنية لكي تستعمل الشعب في مواجهة العسكر، اما حين تنفرد بالسلطة فإنها لن تقيم وزنا لذلك الشعار. فالدعوة إلى قيام دولة مدنية ستكون حينها نوعا من الكفر.

ذلك خطر يدركه العسكر المطلعون على ملفات المعارضة.

وهو ما يجعلهم على يقين من أنهم إذا استسلموا لما حولته المعارضة إلى هتاف شعبوي فإنهم سيخونون واجبهم في حماية الشعب والدولة معا إضافة إلى أن تراجعهم قد يفتح الباب أمام حرب أهلية سيخرج منها الشعب خاسرا ومهانا ومجللا بالعار.

"الاخوان جاهزون" ذلك الهاجس هو ما دفع العسكر إلى طلب نجدة عربية سريعة. وهي نجدة لن تتأخر من أجل أن تكون الحكومة السودانية المؤقتة واقعية في استجابتها لمطالب المحتجين في تحسين أوضاعهم المعيشية على جميع الأصعدة.

فالشعب السوداني لم يخرج إلى الشارع محتجا لأسباب عقائدية. كانت مشكلته في الأساس اقتصادية. وإذا ما أتيحت للمعارضة الإخوانية فرصة الوصول إلى السلطة فإن تلك المشكلة ستظل قائمة. اما حديث المعارضة عن الحريات فإنه نوع من الهراء الذي كان حسن الترابي وهو معلم البشير يجيد العزف على أوتاره من أجل أن يبقى الشعب السوداني جائعا.

لقد التقط العسكر بذكاء الخيط الذي سيتمكنون من خلاله أن يخلقوا معنى لسقوط دولة الإخوان التي كان البشير يتزعمها. فهم من خلال لجوئهم إلى الحل العربي انما يسددون ضربة قاضية لمشروع قيام سودان إخواني جديد. وهنا بالضبط يكمن سبب أن قوى عالمية لا تزال مترددة في دعم أفكار العسكر في السودان عن تقاسم السلطة. هناك مَن لا يرغب في أن يتحرر السودان من حكم الإخوان.

تخشى المعارضة من رقابة العسكر إن اقتسمت السلطة معهم غير أن العسكر كما أتوقع غلبوها في الحل العربي الذي سيعري نفوذها ويفضح خواء نهجها العقائدي.