الحنين إلى الأوطان في شعر المهجريين

مصر لم تكن في المضمار فريدة، فالشام رديفها وصنوها في التجديد والإحياء ورسم معالم النهضة الأدبية الحديثة
عادات جديدة وطرائق حياة مستحدثة وفلسفة في الحياة غير الأولى، والمهاجر مجبر على هضم هذا الموضوع وتقبله لينجح في حياته
الشعر أصبح على يد المهجريين من الشعراء تعبيرا عن الوجدان، ووصفا لخلجات النفس وخفقات الفؤاد

إذا كان لمصر فضل السبق في تجديد أدبنا العربي وبعثه في حلة قشيبة، موفور الصحة، تام العافية، فقد كانت أرض الكنانة منذ عصر الفاطميين قبلة العالم العربي الثقافية والدينية، ففيها وجد أدباء الشام الحرية والمناخ الملائم للإبداع والنشاط الخصب، ونذكر على سبيل المثال - لا الحصر- جرجي زيدان ويعقوب صروف ومي زيادة وغيرهم، ولمطبعة بولاق فضل لا ينكر ومزية لا تجحد في نشر الأدب والثقافة وتعميم نورهما على العالم العربي الخارج لتوه من ظلمات العصور الوسطى، المستفيق من سبات عميق حجب عنه نور العلم وثمرة الفكر وإشعاع الحرية، وكيف يجحد فضل مصر وثلاثة من كبار شعرائها هم الذين أحيوا الشعر العربي؟ ونقصد البارودي وشوقي وحافظ، وثلاثة من كبار كتابها هم الذين بينوا الطريق الصحيح للأدب ووجهوا الناشئة إلى دروب الإبداع حسب المقاييس الفنية؟ ونقصد العقاد وطه حسين وإبراهيم عبدالقادر المازني. 
على أن مصر لم تكن في المضمار فريدة، فالشام رديفها وصنوها في التجديد والإحياء ورسم معالم النهضة الأدبية الحديثة، ولعل هذا ماعناه شاعر النيل - حافظ إبرهيم - حين قال: 
لمصر أم لربــوع الشام تنتسـب ** هنا العلا وهناك المجد والحسب
ركنان للشرق لازالت ربوعهما ** قلب الهلال عليهما خافق يجــب
فأدباء الشام - سوريا ولبنان - لهم في التجديد اليد الطولى وتحديدا أولئك الذين قست عليهم الحياة في وطنهم وشظف عيشهم بعد أن جف الضرع واستعصت سبل الرزق، وتأسن الوضع السياسي بفعل البطش العثماني، فلم يكن أمامهم من باب يطرقونه غير باب الهجرة، ولا من سبيل يلوذون بها غير سبيل الفراق أملا في عيش رغيد وحرية يتعشقونها ومناخ رياحه لواقح وتربته بليلة تستنبت بذور الفكر والأدب.
وإنها لمنة نحمدها للأقدار ورب ضارة نافعة، فقد كانت تلك الهجرة فأل خير وبشرى بأدب حي وفكر صحيح وضمير صاح، ولسنا في حاجة إلى أن نذكر بقول شاعرنا أبي تمام: 
وطول مقام المرء بالحي مخلق  ** لـديباجتيه  فـاغتـربْ تتجــددِ
فإني رأيت الشمس زيدت محبة ** إلى الناس أن ليست عليهم بسرمد
ولقد اغتنت أم اللغات بتلك الهجرة الميمونة بالشعر الصافي السلس المنبجس من الوجدان ومن الفكر الحي الصحيح الملقح بالتجارب الغربية حيث الصناعة والعلم والديمقراطية والحرية ودور المرأة الحي الفاعل في المجتمع، وهذا ما نجد صداه في أدب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وآل المعلوف وجورج صيدح وأمين مشرق وميشال مغربي وعبدالمسيح حداد وجورج صوايا وغيرهم ممن يضيق هذا المقال عن حصرهم. 
إنما الذي يعنينا في هذا المقال كيف كان الحنين إلى الوطن وإلى الأم وإلى الحبيبة وإلى الشلة وإلى ذكريات العيد، ومرابع زحلة وشواهق صنين ونواعير حماة وخرير بردى سببا في هذا الإبداع الخالد المستل من الوجدان، المكتوب بدم الفؤاد، الممهور بشهقة الروح الفاعلة الخلاقة؟ 
إن الإنسان حين يهاجر يصاب بالفصام كل حسب استعداداته النفسية وطاقاته الروحية فقد تكونت شخصية المهاجر في وطنه، وتلونت روحه بأطياف الوطن من دين ولغة وعادات وطرائق معيشة بل ومناخ وتضاريس، فجاء فكره انعكاسا لمحيطه، ثم ترك وطنه للأسباب التي ذكرناها آنفا فإذا به فسيلة أو شجرة تزرع في تربة غير تربتها الأولى، إنها عادات جديدة وطرائق حياة مستحدثة وفلسفة في الحياة غير الأولى، والمهاجر مجبر على هضم هذا الموضوع وتقبله لينجح في حياته - المادية على الأقل - ولكنه في الواقع وفي غياهب اللاوعي تكمن عادات ولغة وأسلوب معيشته الأول في الوطن الأم، هنا تتجلى المعاناة وتتضخم المأساة، وتتشظى الروح فنجد أشلاءها فيما أنتجه أولئك المهاجرون من شعر ونثر هو الدم والدمع بالنسبة لأصحابه وإكسير البهاء والنقاء لأدبنا الذي غفا في كهف السجع والتورية وشعر المناسبات، وأدب الرسائل الإخوانية المتسمة بالرياء المتسربل بالوقار والكذب المتشح بوشاح الوفاء بالعهد. إنها معاناة روحية وجودية وضعت صاحبها بين مطرقة الضرورة وسندان الحبيب الأول (الوطن).
ونحن في هذا المقال راصدون أشتاتا من تلك المعاناة المتجلية في الحنين إلى مرابع الصبا وحضن الأم وسماء الوطن فيما أنتجه أدباء المهجرين - الشمالي والجنوبي - لنرى كيف كان التجديد في الشكل حين ذابت الأصباغ وتلاشت المساحيق، وفي المضمون حين قبر الرياء الماكر والتقليد الأعجم، والانصراف عن الحياة وهموم الناس، وتطليق المسؤولية الأخلاقية للأديب في مغالبة الفساد ومصارعة الاستبداد وقهر الرجعية وقهر نزعة الردة إلى عصر المغارة. 
إن حب الوطن والحنين إليه والوفاء له هو المطهر من الإثم الذي يشعر به الأديب إن أصاب حظا من النجاح المادي والمكانة المرموقة في مجتمعه الجديد، إنه اللاوعي يتخلص من عقدة الذنب التي تسللت إلى نفس الأديب لرهافة حسه ونبل ضميره وصفاء فكره. 
وها هو زكي قنصل الأديب السوري الذي ولد بيبرود عام 1917 وهاجر إلى الأرجنتين، فهو من جماعة العصبة الأندلسية يحن إلى مرابع الصبا وأماكن اللهو في نضارة الطفولة اقرأ هذا المقطع وتذوق جماله الفني واستشعر شيئا من الأسى وقدر هذا الحنين من الشاعر إلى وطنه: 
أيها الـعائدون للشام هلا ** نفحة  من شمـيم أرض النبوه
علم الله كم صـبونا إليها ** واشتهينا تحت الـعريشة غفوه
أما نعمة قازان المولود في لبنان عام 1908 والذي استقر في البرازيل وكان من جماعة العصبة الأندلسية فهو كصاحبه يذكر التحنان ويقاسي وجع الغربة ويتعشق عهد الطفولة ويتمنى لو تطأ قدمه أرض وطنه لبنان.
وفي شعر المهجريين وأدبهم بعض الإسفاف والكثير من ركاكة التعبير والخروج على قواعد اللغة - عن غير علم وبصيرة - وهو ما أخذه عميد الأدب العربي الدكتور -طه حسين- على كبيرهم الذي علمهم السحر إيليا أبي ماضي، ولكن يشفع لهم أنهم لم يتخرجوا من جامعة ولا ترددوا على حلقات اللغة والأدب، وزد على ذلك حياتهم خارج أوطانهم يتكلمون بغير لغتهم وحسب المرء أن ينتج شيئا من هذا الشعر السلس الراقي ولسانه تعود على الكلام بغير لغته الشعرية. 
إنما هي الموهبة والسليقة والكد الشخصي والعصامية والتعلق باللغة العربية والقدرة على قرض الشعر والاسترسال في النثر كانت العوامل الداخلية، زد عليها هم الغربة ونكدها وحال الشرق وسباته هي التي حدت بهؤلاء إلى البروز في فن القول شعرا ونثرا. 

وها هو الشاعر حسني غراب الحمصي المولود عام 1899 يتحدث عن وطنه أجمل حديث كأنه كلام منتزع من سويداء القلب ومن بؤبؤ العين: 
أبعد حمص لنا دمع يراق على ** منازل أم بنا من حادثات هلع؟
دار نـحن إليـها كلــما ذكرت ** كأنما هي من أكبادنا قطع
وملـعب للصبا نـأسى لــفرقته ** كأنه من سواد العين منتزع
أما شفيق المعلوف، شقيق فوزي المعلوف الزحلاوي، والمولود عام 1905م والمستقر في البرازيل ففي قصيدته "بين شاطئين" استهلال لموضوع الحنين بالحديث عن الوداع والعبرات وخفق الفؤاد: 
ذراع مـلاق إثر كـف مـــــودع ** تلوحان لي كلتاهما خلف مدمعي
مناديل من ودعت يخفقن فوقهم ** فلا ترهقيهم يا سفين واقلعي
وأما رشيد أيوب المعروف بالدرويش والمولود في نفس قرية ميخائيل نعيمة "بسكنتا" بلبنان عام 1872 والذي استقر في الولايات المتحدة ففي قصيدته المسافر يذكر المخاطرة والهجرة والآمال: 
دعتـه الأمـاني فخلى الربــــوع ** وصار وفي النفس شيء كثير
وفي الصدر بين حنايا الضلوع ** لنيل الأماني فؤاد كبير
فـحث المطايا وخاض البحــــار ** ومرت ليال وكرت سنون
ولم يرجعِ
ويعد الشاعر القروي رشيد سليم الخوري المولود ببربارة بلبنان عام 1887 والذي عاش في البرازيل أمتن شعراء الجنوب لغة وأقدرهم على التصرف في القريض وأجودهم في تخير اللفظ الموحي بمرارة الغربة ووحشة الأمل وأمل العودة واقرأ معي هذا المقطع من قصيدة عند الرحيل لترى ذلك حقا:
نـصحتك يــــــا نفس لا تـطمعي ** وقلت حــذار فلـم تسمعـي
فـإن كـنت تستسهلين الــــــوداع     ** كمــــــا تدعين إذا ودعـي!
ويأتي بعد القروي في متانة اللغة وجودة السبك والتصرف في القول إلياس فرحات من كفرشيما في لبنان والمولود عام 1893 والذي أقام في البرازيل ولعل هذا المقطع هو من أشهر أشعاره تغنى بها المشرق والمغرب عن وحدة العرب: 
إنـا وإن تـكن الشآم ديــــــــارنا ** فقـلوبـنا للـعرب بـالإجمـــــــــال
نهوى العراق ورافديه وما على ** أرض الجزيرة من حصا ورمال
وإذا ذكرت لنا الكـنانة خلتنـــــا ** نـروى بسـائغ نيلـها السلســــــال
بـنا ومـازلنا نشاطر أهـلهـــــــا ** مـر الأسـى وحـلاوة الآمــــــال
أما جورج صيدح الدمشقي والذي أقام في الأرجنتين فلله ما أحلى حديثه عن حنينه إلى دمشق ووفائه لها وألم البعاد عنها!: 
أنـا وليدك يـا أمــــــــاه كـم مـلكت ** ذكراك نفسي وكم ناجاك وجدان!
منذ افترقنا نعيم الـعيش فـــــارقني ** والـهم والـغم أشكـال وألـــــــوان
عهد الشباب وعهد الشام إن مضيا ** فكل ما أعطت الأيام حرمان
أما الشاعر المصري الكبير أحمد زكي أبو شادي (1892-1955) والذي استقر في أميركا وكان من مؤسسي جماعة أبولو التي جددت في الأدب خاصة الشعر منه وعرفت هذه المدرسة برومنطيقيتها فقد خاطب أميركا – وطن الحرية - قائلا:
لـجأت إلـيك يـا وطنا تغنى ** بـه الأحـرار واعتز الـنشيد
فـإنك منبري الحـر المرجى ** وبدء نهاري بل عـمر جـديد
وقد كان نزوح أحمد زكي أبي شادي إلى أميركا هروبا من  استشراء الفساد وتعفن الوضع السياسي وانعدام الحرية ولكنه في غربته في العالم الجديد يحن إلى وطنه.
إذا فقد كانت الغربة وتباريحها مهمازا للقريحة وجناحا للتحليق في سماء الخلق الفني وقد استفاد أدبنا العربي من هذه الغربة فتجدد وجهه وازدان بهاء ورونقا، وأصبح الشعر على يد هذا اللفيف من الشعراء تعبيرا عن الوجدان، ووصفا لخلجات النفس وخفقات الفؤاد، بلغة صافية رقراقة متخلصة من أصباغ التكلف وطلاء التصنع، متعالية على الحذلقة البيانية والبهلوانية الإنشائية، وفي هذا الأدب كثير من السقطات وسفاسف القول ولكنها لا تلغي أهمية هذا الأدب بل تجعل أدباءه في الطليعة، مع أدباء المشرق الذين تعاونوا يدا بيد ويراعا بيراع وتزاوجت خفقات قلب بقلب، وخلجات نفس بنفس، وطموح روح بروح على إخراج أدبنا من سبات الكهوف ونفض غبار القرون الوسطى عن حروفه حتى يصير كآداب الدنيا، أدب الحياة بما فيها من صخب ونشاط وهم وترح وفرح وما شئت من أطياف الحياة.